القدس بين برامجنا الفعلية والدعاوية
نهاد أبو غوش | رام الله – فلسطين
ليس من الإنصاف توظيف هبّة القدس الحالية، في خدمة المواقف السياسية والحزبية ذات الطبيعة المتحركة، وبخاصة في الموقف من انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني. فما يجري في المدينة المقدسة أكبر من أية حسابات عابرة، وهو ذو طبيعة استراتيجية جامعة لكل أطياف الشعب الفلسطيني، وتعبير أمين وعميق عن هوية المدينة وعن انتماء مواطنيها، وعن استعدادهم لبذل كل ما يلزم من تضحيات دفاعا عن وجودهم وعن حقوقهم ومقدساتهم وكرامتهم وهويتهم الوطنية، وهكذا فإن الحسابات بشأن هبات القدس المتلاحقة هي حسابات وطنية ومصيرية، تتصل بحاضر المدينة ومستقبلها، بينما الموقف من الانتخابات هو موقف إجرائي يتصل بموازين القوى وحسابات اللحظة الراهنة بما فيها الخلاف أو الاتفاق مع الخصوم والتنافس مع شركاء المصير الوطني .
هبة المقدسيين بكل فيها من بسالة وعنفوان، وما يمكن أن يترتب عليها، ليست مجرد ظاهرة عابرة ولّدتها تداعيات الأسابيع والأيام الأخيرة، بل هي ظاهرة أصيلة ومتجذرة ميّزت القدس والمقدسيين على امتداد سنوات الاحتلال. ولعل حجم الاستهداف للقدس منذ بداية الاحتلال، ثم استثناءها ومواطنيها من ترتيبات المرحلة الانتقالية وفق اتفاق أوسلو وملحقاته، ثم ما استجد من اعتراف الرئيس الأميركي السابق بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال، وما رافق كل ذلك من سعار إسرائيلي محموم لحسم مصير المدينة بالقوة بحيث باتت سلطات الاحتلال تضيق بأي نشاط فلسطيني مهما كان سياسيا أو اجتماعيا أو ثقافيا، وهذه العوامل مجتمعة حمّلت المقدسيين هذه الأمانة الثقيلة، وجعلتهم في البؤرة الملتهبة للمواجهات، بحيث باتوا يخوضون معركة القدس نيابة عن الفلسطينيين جميعا بل نيابة عن العرب وكل المؤمنين بقداسة هذه المدينة وقيمتها الروحية والثقافية للبشرية جمعاء، وكثيرا ما كانت القدس هي القاطرة التي تقود مراحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وموجاته المتتالية من انتفاضات وهبّات وحراكات.
من البديهي أن هذه الهبة مرتبطة بمجريات الصراع اليومي في القدس وعليها، والذي يمكن تلخيصه بأنه مخطط لتهويد المدينة وتغيير طابعها التاريخي والتطهير العرقي لمواطنيها الأصليين، وبالتالي فإن هذه الهبة مستقلة عن نقاشات النخب والقوى السياسية الفلسطينية بشأن الانتخابات، ولكنها وثيقة الصلة طبعا بالقضية الجوهرية التي يدور حولها الجدل في الحالتين وهي كون القدس جزءا لا يتجزا من الأراضي الفلسطينية المحتلة بعدوان حزيران 1967، وانتماء مواطنيها للشعب الفلسطيني ومؤسساته السياسية، مثلما أكدت كل قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة بالقضية الفلسطينية، حتى الاتفاقيات الموقعة مع الجانب الإسرائيلي كرست انتماء المواطنين المقدسيين للشعب الفلسطيني مع أنها أبقت مصير المدينة معلقا بانتظار مفاوضات الوضع النهائي، وهو خطأ استراتيجي تاريخي وقع فيه المفاوض الفلسطيني مدفوعا بالتفاؤل والأوهام عن استعدادات إسرائيل وجاهزيتها للسلام، وقد دفعنا وما زلنا ندفع نتائج هذا الخطا الكارثي.
وحتى لا يقتصر الحديث على عبارات الإنشاء والتمجيد والثناء على شبابنا وشتم المحتلين وإدانة أعمالهم، ينبغي التوقف أمام مجموعة من الحقائق، وأداء الاستحقاقات العملية والبرنامجية التي تمليها هذه الحقائق، وأبرز هذه الحقائق هي أن مصير القدس لم تحسمه قرارات الضم والإجراءات الإسرائيلية المتواصلة منذ 54 عاما، ولا قرارات ترامب ومواقفه العدوانية، ولا باستثناء المدينة ومواطنيها من تطبيقات اتفاق أوسلو بما في ذلك طريقة مشاركة المقدسيين في الانتخابات. في هذه المعركة تبدو إسرائيل موحدة وعلى أعلى درجات التنظيم والتنسيق والتكامل بين مختلف أذرع الاحتلال، بينما نحن الفلسطينيين منقسمون ومشتتون. إسرائيل تسخر أجهزتها الحكومية والأمنية، والبلدية والمؤسسات والجمعيات غير الحكومية وعصابات المستوطنين وغلاة المتطرفين، وحتى النظام التشريعي يفصل القوانين على مقاس عمليات التطهير العرقي، كما تجند دولة الاحتلال واصدقاؤها مئات ملايين الدولارات سنويا، في مواجهة المقدسيين المحرومين من أي غطاء سلطوي والذين يتصدون بصدورهم العارية وبما تيسر لهم من وحدة وتضامن وحماسة وإيمان ومشاعر الانتماء والروح المعنوية العالية، ولكنهم محرومون من الموازنات واشكال الدعم، الفلسطينية والعربية، التي هم في أمس الحاجة لها في مختلف ميادين حياتهم بدءا من الصحة والتعليم والإسكان وسائر الخدمات، وصولا لمتطلبات البقاء واستمرار الحياة الاقتصادية والتجارية بمعايير الحد الأدنى الذي يبقي المواطنين في مدينتهم ولا يدفع بهم للهجرة طلبا للرزق.
والحقيقة المؤسفة هي استمرار غياب العنوان الوطني الفلسطيني الجامع والموحّد لمعارك المقدسيين في صمودهم وبقائهم، مع تعدد المرجعيات السياسية والدينية والأهلية، وأحيانا تضارب صلاحيات هذه المؤسسات وتنافرها وتنافسها، واتساع الفجوة بينها وبين المواطنين. فمنذ رحيل المرحوم فيصل الحسيني ثم إغلاق بيت الشرق والمؤسسات الفلسطينية، ظلت القدس بلا عنوان جامع، وبالتالي غاب التكامل بين الحراكات والهبات الشعبية وبين ما تقوم به الهيئات والمؤسسات الأهلية والجهات الفلسطينية التمثيلية والمرجعيات الدينية المتعددة، كل طرف يعمل وفق أجنداته الخاصة، والهبات الشعبية ظلت عفوية وموسمية ومرتبطة بالأحداث الاستفزازية من قبل جيش الاحتلال والمستوطنين.
صحيح أن هبة القدس الحالية هي استفتاء حقيقي على هوية المدينة وانتمائها، لكن ذلك لا يمكن أن يعطي ثماره السياسية بشكل عفوي وتلقائي، فلكي ينجح الشعب الفلسطيني في مراكمة إنجازاته، وما دامت القدس هي قضية الفلسطينيين جميعا أينما كانوا، فإن على قيادته وهيئاته المسؤولة ومؤسساته على اختلاف مستوياتها ومسؤولياتها أن تبادر فورا إلى توحيد المرجعيات المقدسية، وعليها تنفيذ القرارات الكثيرة التي اتخذت بهذا الشأن وصولا إلى إيجاد مرجعية تمثيلية شاملة تحظى بثقة الناس، واعتماد خطة طوارىء وطنية لتعزيز صمود المقدسيين ومؤسساتهم، فما دام هذا الشعب نجح حتى الآن في تعطيل صفقة ترامب نتنياهو، فإنه يمكن أن يكسر القيود الإسرائيلية على نشاطات السلطة من خلال العمل الأهلي والمجتمع المدني، والأهم من خلال الإرادة الجماعية والمقررة بأن القدس هي في صلب اهتماماتنا الواقعية والعملية، وليست مجرد فقرة في دعايتنا.