إِشْكَالِيَّةُ الإِعْلامِ السِّيَاسِيِّ: اليَسَارُ بِالاِنْتِكَاسِ أَوْ الإِسَارُ بالاِنْعِكَاسِ؟ (1)
د. آصال أبسال | كوبنهاغن (الدنمارك)
قبل أيام معدوداتٍ، في هذا الزمان «الكوروني» السريع والمريع، لجأت مؤسسة الفكر الحر المسمَّاة بـ«الحوار المتمدن» إلى إجراءِ حوارٍ مُطَوَّلٍ خاصٍّ مع باحث أكاديمي يدَّعي مرارًا بأنه ناشط يساري «ماركسي» أو حتى «أممي»، اسمه جلبير الأشقر.. وقد أجرت هذا الحوارَ المُطَوَّلَ الخاصَّ ممثلةٌ جادَّةٌ عن هيئة التحرير المعنية، اسمها بيان بدل، أجرته ظاهرا ظهورا صوتيا ومرئيا تحت العنوان اللافت للعيان والانتباه، «حول الحرب الروسية-الأوكرانية وتداعياتها والموقف الدولي».. وسواءً كانَ كلُّ شيءٍ يخصُّ طبيعةَ كلٍّ من التسآلِ والتجوابِ مرتَّبًا ومدبَّرًا مسبقًا أمْ لمْ يكنْ، تستهلُّ الممثلةُ الجادَّةُ هذهِ تسيارَ هكذا تسآلٍ مرتقَبٍ بالسؤالِ المديدِ نسبيًّا باديًا كاِثنينِ في واحدٍ وقد اختصر المسافةَ كلَّها، منذُ البدءِ، من حيثُ الفحواءُ الرئيسُ الذي تُفَحِّي بِهِ عبارةُ العنوانِ ذاتِهِ على أدنى تخمينٍ، سائرةً هكذا (بعد تعديلها اللغوي المؤاتي، بالطبعِ، بعضَ الشيءِ): «ما هي أسباب الحرب الروسية-الأوكرانية الغربية وما هي خلفيات هذه الحرب محليا وإقليميا ودوليا؟ وهل تُلقى مسؤولية هذه الحرب على عاتقِ روسيا وحدها بوصفها البادئة بالاجتياح العسكري للأراضي الأوكرانية أم تُلقى كذلك على عواتق أمريكا و«حلف شمال الأطلسي» NATO والاتحاد الأوروبي وأوكرانيا ذاتها (إذ هيأت للحرب تهييئا لامباشرا)؟».. وما إنِ انتهتِ المضيفةُ الممثلةُ الجادَّةُ من طرحِ سؤالِها المديدِ نسبيًّا بهكذا مثابةٍ حتى شرعَ ضيفُها اليساريُّ «الماركسي» أو حتى «الأممي» محمومًا في النَّضْحِ الراشدِ بالاعتقادِ الظنِّيِّ (اعتقادَ المُعْتَدِّ بنفسِهِ كلَّ الاعتدادِ) بأن الجوابَ الألمعيَّ المأمولَ حصافةً وحكمةً واتِّزانًا بعينهِ، والحالُ هُنا، لَجوابٌ «بسيطٌ» بكلِّ بساطةٍ رغمَ كلِّ ذلك، فيما يتبدَّى للسَّامعِ الرَّائي أو حتى للسَّامعِ اللارائي بالذاتِ.. بيدَ أن الضيفَ اليساريَّ المعنيَّ ذاتَهُ كانَ قد شرعَ، فضلا عن ذلك للأسفِ الشديدِ، مهمومًا في الشَّطْحِ الحاشدِ بالاتِّقادِ الأكثرِ ظَنِّيَّةً من آنفِهِ (الراشدِ) بكثيرٍ حتى، هذا الشطحِ الحاشدِ الذي يتَّسمُ اتِّسَامًا بـ«اليَسَارِيِّ انْتِكَاسًا» تارةً ويرتسمُ ارْتِسَامًا بـ«الإِسَارِيِّ انْعِكَاسًا» تارةً أخرى، والذي يمكنُ للمتابعِ المُمْعِنِ مع ذلك أن يعبِّرَ عنهُ إتباعًا بتعبيرِ «الاِحتمالِ للاحتمالِ» في الميدانِ المنطقيِّ، أو حتى كذاك بعبارةِ «الاِمتناعِ للامتناعِ» في الميدانِ اللغويِّ أو النحويِّ، من مثلِ التحريفِ لا بلِ التهريفِ بهذا البيانِ الشرطيِّ الغنيِّ عن التعريفِ، «لو كانَ كذا وكذا، لكانَ كذا وكذا».. ومن ثَمَّةَ، والحالُ هَا هُنا أيضًا، بإمكانِ هذا المتابعِ المُمْعِنِ بالطبعِ أن يدركَ ذاتَ الشَّطْحِ الحاشدِ بالاتِّقادِ الأكثرِ ظَنِّيَّةً كذاك، على الأقلِّ هُنا من منظورين شَطْحِيَّيْنِ اِفتراضِيَّيْنِ متمايِزَيْن، على النحو الآتي بعدَ هُنَيْهَةٍ..
قبلَ كلِّ شيءٍ إذن، لا بدَّ من التنويهِ الملحِّ إلى أن مَا تمَّ الإدلاءُ بهِ في قرينةِ (أو في قرائنِ) مرحلةِ التجوابِ ذاك في المقابلِ لم يصدرْ بصَوْغِهِ الناجِزِ، مثلما كانَ مُتَشَوَّفًا إليهِ في ذلك المستوى المنشودِ شكلا ومضمونًا سَوَاءً بسَوَاءٍ، كلَّ التشوُّفِ من باحثٍ أكاديميٍّ يدَّعي مرارًا بأنه ناشط يساري «ماركسي» أو حتى «أممي» – لكي يُعَادَ، بل صدرَ إذَّاكَ فاعلا، وإذْ كانَ يمكنُ لهُ أن يصدرَ بالجلِّ أو حتى بالكلِّ فعليًّا، بذاتِ الصَّوْغِ الناجزِ من أيِّمَا «لاهثٍ» لاأكاديميٍّ وراءَ أيِّمَا حشدٍ مسرودٍ من تيك البَدَهِيَّاتِ أو البَدِيهِيَّاتِ أو حتى السَّطْحِيَّاتِ مِمَّا يُدلى بِهِ كالمعتادِ، «لاهثٍ» لاأكاديميٍّ أديميٍّ عاديٍّ ليسَ من كلِّ ذلك الادِّعاءِ الواقعيِّ أو حتى الخياليِّ أو المتخيَّلِ في شيءٍ.. فأما من حيثُ المنظورُ الشَّطْحِيُّ الاِفتراضِيُّ الأولُ، فإن محاولةَ الباحثِ الأكاديميِّ المعنيِّ في الجوابِ المأمولِ ذاك على الشقِّ الأولِ من ذلك السؤالِ المديدِ بنصِّهِ المذكورِ بالحرفِ آنفًا، أي «ما هي أسباب الحرب الروسية-الأوكرانية الغربية وما هي خلفيات هذه الحرب محليا وإقليميا ودوليا؟»، لَمُحَاوَلَةٌ لم تتطرَّقْ قطُّ، في حقيقةِ الأمرِ، إلى أيَّةٍ من جوهرياتِ تلك «الأسباب» أو «الخلفيات» التاريخية والسياسية التي أدَّت، بهيئةٍ أو بأخرى، إلى نشوبِ هذه الحربِ بالذاتِ، على الأقلِّ في المستوى المنشودِ شكلا ومضمونًا، كما ذُكِرَ قبلَ قليلٍ.. على خلافِ ذلك كلِّهِ، لافظا وملفوظا بالجَرِّ والعَرِّ لكنْ بلهجٍ جزميٍّ دوغمائيٍّ متعنِّتٍ ليسَ لهُ إلا أن يذكِّرَ بما كان جوزيف ستالين بالعينِ يُنْعَتُ بهِ من نُعُوتٍ استهجانيةٍ صَادرةٍ عن حتى أقربِ المقرَّبينَ منهُ، كمثلِ نَعْتِ «التجريبَوِيِّ الحَرُون» Stubborn Empiricist، فإن محاولةَ الباحثِ الأكاديميِّ المعنيِّ تلك لم تكنْ في الوهلةِ الأولى، أو حتى في الوهلةِ الأخرى، منها سوى إعادةٍ قهريةٍ مُبْتَسَرَةٍ ابتسَارًا فاقعًا لمَا هو سَارٍ وسَائدٌ في سَائرِ السَّرْدِيَّاتِ الغربيةِ في أمريكا ذاتِهَا وفي كلٍّ من حليفاتِهَا الوفِيَّاتِ جليًّا أو حتى خفيًّا، وليسَ غيرَ ذلك.. قولٌ كذاك في رَيْفِ «الاِحتمالِ للاحتمالِ»، أو نظيرُهُ في طَيْفِ «الاِمتناعِ للامتناعِ»، بأنه لو كانتْ أوكرانيا بادرتْ بالاعتداءِ المسلَّحِ شكلا عكسيًّا على الأراضي الروسيةِ بشكلٍ أو بآخَرَ، لكانتْ أيةُ فعلةٍ، أو ردَّةِ فعلةٍ، عسكريةٍ من لدن روسيا فعلةً جدَّ مقبولةٍ على اعتبارِها بذاك «حقًّا مشروعًا» من حقوق ما يُدعى تسليميًّا بـ«الدفاع عن النفس».. عَدَا هكذا «احتمالٍ لاحتمالٍ» لمْ يُؤْخَذْ أساسًا بعينِ الاِعتبارِ خَلا لملءِ فراغِ حوارٍ دامَ أكثرَ من سَاعةٍ زمنيةٍ وحسب، ما من حربٍ يمكنُ لهَا أن تكونَ شرعيةً بحكمِ القانونِ الدوليِّ، إذن، ما دامتْ هي حربًا لا يقرِّرُهَا ولا يُقِرُّ بِهَا اللسَانُ التشريعيُّ لمجلسِ الأمنِ في منظمةِ «الأممِ المتَّحدة» UN، وأيًّا كانتِ الأسبابُ، أو حتى المبرِّراتُ، القريبةُ والبعيدةُ التي سبقتْ نُشُوبَ هكذا حربٍ سَبْقًا – هذا مع العلمِ المُفَارِقِيِّ والتهكُّمِيِّ بوصْفٍ وَصِيفٍ لا يخفى الآنَ بَتَّةً على كلِّ ذي لُبٍّ حَصِيفٍ بأن هكذا مجلسًا أمنيًّا في هكذا منظمةٍ أمميَّةٍ لا يسِيرُ بالقرَارِ ولا بالإقرَارِ، في الأغلبِ والأعمِّ، إلا بمَا يرُوقُ رَوْقًا لمَآرِبِ أمريكا بالذاتِ، فضلا عن مآربِ حليفاتِهَا بالذواتِ، في الحَيِّز الأول..
تلك إذن، ويا للمفارقةِ الكبرى ويا للتهكُّمِ الأكبرِ مثلمَا يُشْتَفَّانِ اشتفافًا بالإدلاءِ وبالجلاءِ، تلك إذن إعادةٌ قهريةٌ مُبْتَسَرَةٌ أيَّمَا ابتسَارٍ لكنَّهَا متَّسمةٌ شأنًا بسمتَيْنِ تجسيدِيَّتَيْنِ في ظاهرِ الشأنِ: فهي إعادةٌ قهريةٌ مُغَزَّزَةٌ بِـ«حِرَانِ» ذلك اللهجِ الجزميِّ الدوغمائيِّ المتعنِّتِ بالأمرِ الحِجَاجِيِّ من طرفِ ذاتِ الضيفِ اليساريِّ «الماركسي» أو حتى «الأممي» – لكي يُعَادَ كذاك، من جانبٍ أول؛ وهي إعادةٌ قهريةٌ مُعَزَّزَةٌ، فوقَ ذاك كلِّهِ، بِـ«مِرَانِ» ذلك النهجِ العزميِّ الدهمائيِّ المتصمِّتِ بالغَمْرِ السَّذَاجِيِّ من طرفِ عينِ المضيفةِ الممثلةِ الجادَّةِ لكنِ الغَفْلَى إذَّاك، من جانبٍ آخَرَ.. تلك إذن، علاوةً على ذاك، قرينةٌ من قرائنِ الاِزدواجِ اللامبدئيِّ الذميمِ بينَ مَا يرقبُهُ «الراقبُ» مذَّاك من تمثيلاتِ ذاك الحَمَاسِ «الإيديولوجيِّ» في استبشاعِ مطايا الإمبرياليةِ الأمريكيةِ والغربيةِ زاخرًا أصلا وبينَ مَا يحسبُهُ «الحاسبُ» إذَّاك من تأثيلاتِ ذلك الاِلتماسِ «الفيلولوجيِّ» في استشناعِ عطايا الإمبرياليةِ الروسيةِ والشرقيةِ ذاخرًا فصلا (في أحسنِ الأحوالِ، أو بالكادٍ، من كلٍّ منهما).. وأما من حيثُ المنظورُ الشَّطْحِيُّ الاِفتراضيُّ الثاني متمايِزًا كحَالِ نظيرِهِ الأولِ، فإن الشقَّ الثاني من ذلك السؤالِ المديدِ بنصِّهِ المذكورِ حرفيًّا آنفًا أيضًا يسيرُ هكذا (بعدَ اختزالِهِ اللغويِّ، طبعًا): «هل تُلقى مسؤولية الحرب على عاتقِ روسيا وحدها بوصفها البادئة بالاجتياح العسكري لأوكرانيا أم كذاك على عواتق أمريكا وحليفاتها الأطلسيات والاتحاد الأوروبي وأوكرانيا ذاتها (إذ هيأت للحرب تهييئا لامباشرا)؟».. بادئَ ذي بدءٍ، فيمَا يتبدَّى، لمْ يكن لدى الباحثِ الأكاديميِّ المعنيِّ في محاولةِ الجوابِ المأمولِ كذاك على هذا الشقِّ الثاني من ذاتِ السؤالِ، آنئذٍ، سوى التفذلكِ بالقولِ التعميمِيِّ الجارفِ، مرتكزًا ارتكازًا مفردًا و/أو مجموعًا، على حالِ أمريكا دونَ غيرِهَا، وعلى الأخصِّ قولَهُ المُصَاغَ صَوغًا تفضيليًّا، وحتى تبجُّحِيًّا بالظنينِ، عنها بصفتِهَا «الدولةَ الاقتصاديةَ العظمى» وبصفتهَا أيضًا «القوةَ العسكريةَ الكبرى»، متفوِّقَةً بذاك، والأهمُّ من ذلك كلِّهِ، تفوُّقًا «ملحوظًا» على حالِ روسيا النظيرةِ بالذاتِ.. وهذا التفوُّقُ «المُتَبَجَّحُ بِهِ» ظنينًّا من لدنِ الباحثِ الأكاديميِّ المعنيِّ ليسَ صَحيحًا بَتًّا وبَتَّةً على الأرجحِ من أشكالِهِ، على الأقلِّ هنا فيمَا يخصُّ الكمَّ والكيفَ من خاصيَّةِ السلاحِ النوويِّ الذي تمتلكُهُ النظيرةُ الأخيرةُ (أي روسيا)، حسبما جاءَ مؤخَّرًا في العديدِ من التقاريرِ المختصَّةِ عسكريًّا وتكنولوجيًّا، على حدٍّ سِوًى – وهذا كذاك، على فكرةٍ، ليسَ دفاعًا تصريحيًّا عنْ، ولا حتى وقوفًا تضمينيًّا إلى جانبِ، هذهِ النظيرةِ الأخيرةِ بأيِّ نحوٍ من الأنحَاءِ، بقدرِ مَا هو سَعْيٌ جَادٌّ إلى عينِ النقلِ الأمينِ والقمينِ، ظاهرًا كانَ أمْ باطنًا، لمَا تقتضيهِ اقتضَاءً حقائقُ الأشياءِ.. أمريكا، بذاتِ التفذلكِ بالقولِ التعميمِيِّ الجارفِ ذاك إذن، لَجِدُّ مسؤولةٍ عن المآلِ (السلبيِّ) العامِّ الذي آلَ إليهِ هذا العَالَمُ المُتَوَعَّدُ والمُخَوَّفُ والمُنْذَرُ منذُ الإرهاصَاتِ الأولى لانهيارِ مَا كَانَ يُسَمَّى بـ«الاتحادِ السوفييتي» سَابقًا، نظرًا لأن هذهِ الـ«أمريكا»، بعينِ «التبسُّطِ» بالنطقِ الاِستهلاليِّ الطارفِ ذاك أيضًا، صَارتْ «سيِّدةَ الموقفِ العالميِّ» رَدَحًا بالغًا من الزمانِ بعدَ تيكَ الإرهاصَاتِ الأولى – وإلى حدٍّ أعلنَ فيهِ جورج بوش (الأب) ولادةَ مَا سَمَّاهُ بـ«النظامِ العالميِّ الجديدِ» NWO، في مستهلِّ التسعينياتِ من القرنِ الماضي، وذلك تمهيدًا شهيدًا لشنِّ تلك الحربِ الشعواءِ على أرضِ العراقِ، أو «حربِ الخليجِ الثانيةِ» عامَ 1991 من حيثُ الترتيبُ الزمانيُّ، وكذاك نتيجةً خديجةً لقدحِ شرارِ ذلك الاجتياحِ الجنونيِّ لأرضِ الكويتِ من طرفِ الجيشِ العراقيِّ الصدَّاميِّ الإجراميِّ بامتيازٍ وبكافَّةٍ المعاييرِ القانونيَّةِ، ولا ريبَ في ذلك قطعًا..
فعلى الرغم من عينِ الصَّوَابِ والصَّحَاحِ في التنويهِ إلى واقعِ هكذا اِجتياحٍ جنونيٍّ أو واقعِ هكذا حربٍ شعواءَ (أو حتى غيرِهِمَا من اجتياحاتٍ أكثرَ جنونيةً، كاجتياحِ صربيا عامَ 1999، أو من حروبٍ أشدَّ إشْعَاءً، كالحربِ المُعَادَةِ على العراقِ، أو «حربِ الخليجِ الثالثةِ» عامَ 2003)، إلا أن هذا الخلطَ العشوائيَّ في استذكارٍ حشدٍ من الأحداثِ التاريخيةِ لا يفيدُ، والحَالُ هذهِ، إفادةً مباشرةً ولا حتى لامباشرةً في إلقاءِ الضوءِ على أيَّةٍ من جوهرياتِ «الأسبابِ» أو «الخلفياتِ» الحقيقيةِ التي أدَّت إلى نشوبِ هكذا اقتتالٍ روسيٍّ-أوكرانيٍّ دَامٍ دَمَوِيٍّ في حدِّ ذاتِهِ، خَلا لملءِ فراغِ حوارٍ دامَ أكثرَ من سَاعةٍ زمنيةٍ، كما ذُكِرَ.. فالمسألةُ الأخلاقيةُ البالغةُ الحَسَاسِيَّةِ، هنا إذن، لا تكمنُ في مدى الإعلانِ الحَرِيِّ بإدانةِ هكذا اقتتالٍ قائمٍ حينمَا يعلمُ كلُّ ذي ضَميرٍ ووجدانِ إنسانِيَّيْنِ حَيَّيْنِ علمَ اليقينِ بأن هكذا إدانةً حتى دونمَا «الإعلانِ الحَرِيِّ» بها لَإِدانةٌ بَيِّنَةٌ بذاتِهَا، وفي حدِّ ذاتِهَا هي الأخرى.. فإذا كانَ الضيفُ اليساريُّ «الماركسي» أو حتى «الأممي» يعلنُ «إعلانًا حَرِيًّا» وبكلِّ حَمِيَّةٍ بأن الاقتتالَ المقصودَ حربٌ لاشرعيةٌ مهما كانتْ طبائعُ «الأسبابِ» أو حتى «الخلفياتِ»، فإن وزيرَ الخارجيةِ الإسرائيليَّ يائير لابيد، على سبيلِ المثالِ لا الحصرِ، كانَ قدِ اعتبرَ الاقتتالَ المقصودَ ذاتَه كلَّ الاِعتبارِ «جريمةَ حربٍ» بكلِّ المقاييسِ حقًّا وقانونًا تتحمَّلُ مسؤوليَّتَهَا روسيا فلاديمير بوتين أولا وآخرا – في حينِ أن رئيسَ الوزراءِ الإسرائيليَّ نافتالي بينيت بالعينِ، وقد زارَ شخصَ هذا الـ«فلاديمير بوتين» عينِهِ في عقرِ دارِهِ في الآونةِ الأخيرةِ، يستمرُّ «مُمْتَنًّا»، لا مُمْتعِضًا، في اللعبِ «الأريبِ» على حَبْلِ مَا يدَّعي بأنهُ توسُّطٌ سلميٌّ حميميٌّ بين موسكو وكييف.. ومع ذلك، فإن الباحثَ الأكاديميَّ المعنيَّ كانَ قد أشارَ إشارةً عامَّةً وعابرةً، لكنْ دونمَا أيِّمَا اعترافٍ واجبيٍّ أبيٍّ، إلى شيءٍ من تيك «الأسبابِ» و«الخلفياتِ» التي تناولَهَا العالِمُ اللسانيُّ والمفكِّرُ الكبيرُ، نعوم تشومسكي، بالتفصيلِ اللافتِ للأنظارِ والأسماعِ فيمَا سبقَ لهُ من حوارٍ أخيرٍ (أقصرَ زمنيًّا بكثيرٍ) كانَ قد بُثَّ كذاك على قناةِ Sky News، في الأخيرِ – غيرَ أن الطامَّةَ الأخلاقيةَ الكبرى، في كلِّ هكذا حَيْصٍ وبَيْصٍ، حقيقةً، إنَّمَا تكمنُ في حقيقةِ ذلك «الاِنتقادِ» الهزليِّ مُوَجَّهًا توجيهًا اِفترائيًّا تَعَجْرُفيًّا دنيئًا من لِسَانِ الباحثِ الأكاديميِّ المعنيِّ ذاتِهِ إلى مَا جَاءَ على لِسَانِ العالِمِ اللسانيِّ والمفكِّرِ الكبيرِ عينِهِ من عباراتٍ قدْ أُسِيءَ فهمُهَا أيَّمَا إسَاءَةٍ بسببٍ من غَشَامَةٍ «مُشْتَرَكَةٍ» بينَ غشيمةٍ وغشيمٍ زَرِيَّةٍ دَنِيًّةٍ!!..
[ولهذا الكلامِ، فيما بعدُ، بقيةٌ]
<<<<>>>>>
تعريف بالكاتبة
ولدتُ في مدينة باجة بتونس من أب تونسي وأم دنماركية.. وحصلتُ على الليسانس والماجستير في علوم وآداب اللغة الفرنسية من جامعة قرطاج بتونس.. وحصلتُ بعدها على الدكتوراه في الدراسات الإعلامية من جامعة كوبنهاغن بالدنمارك.. وتتمحور أطروحة الدكتوراه التي قدمتُها حول موضوع «بلاغيات التعمية والتضليل في الصحافة الغربية» بشكل عام.. ومنذ ذلك الحين وأنا مهتمة أيضا بموضوع «بلاغيات التعمية والتضليل في الصحافة العربية» بشكل خاص..
رويدك يا أختاه، فعلى الرغم من عدم اتفاقي مع نهج مؤسسة الحوار المتمدن في التقديم، فأنا سمعت المقابلة مع جيلبير الأشقر و لم أر فيها أي شطط أو إفراط. أعتقد بأنه من الحق احترام حق المجتهد حتى لو لم يرق متلقيه – و جيبلبير الأشقر مجتهد بامتياز- بالحصول على أجر واحد إن لم يكن أجرين، و ليس التسفيه الجارح الذي بالكاد يترفع عن التحقير.
أخت نيرمين الشيخ – أنت تقولين: إنك “سمعت المقابلة مع جلبير الأشقر ولم تري فيها أي شطط أو إفراط”!
وأنا والعديد ممن أعرفهم نقول: “شاهدنا وسمعنا المقابلة ورأينا فيها كل الشطط وكل الإفراط وكل التجني على من هو أرقى منه علما ومعرفة وحكمة بأضعاف مضاعفة”!؟
فإما أنك لم تفهمي ما جاء في مقابلة جلبير الأشقر (وبالتالي لم تفهمي من مقال الأخت آصال أبسال سوى ما تظنينه تسفيها أو تحقيرا جارحا) وإما أنك مدفوعة من أجل الدفاع الأعمى عن جلبير الأشقر من قبل جلبير الأشقر نفسه – هذا إن لم نفترض بأنك جلبير الأشقر نفسه منتحلا هذا الاسم كما ينتحل الفكرات كعادته دون الاعتراف بمصادرها!؟
فإذا لم تكوني جلبير الأشقر نفسه، أنصحك بإعادة مشاهدة المقابلة وفهمها جيدا وبإعادة قراءة مقال الأخت آصال أبسال وفهمه جيدا – وبالمناسبة هذا المقال هو القسم الأول فحسب!؟