قراءة في آية: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ

محمد موسى العويسات | فلسطين

قال تعالى: “كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ” .
ولنا أن نتفكّر في هذه الآية، بل تدبّرها علينا واجب ولازم، واجب من جهة أنّها قرآن، ولازم من جهة أنّ الموت حقّ وحقيقة مسلّم بها، بل لا تحتاج كلمة الموت نفسها لتفسير لغويّ،
الآية أربعة أجزاء:
الأول قوله تعالى: ” “كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ” هذه حقيقة لا يماري فيها أحد، فالمشاهد المحسوس أنْ لا خلود البتّة، والنّفس هي الرّوح، والمعنى كلّ ذي روح ذائق الموت، فلا تحزنوا فأنتم في هذا سواء، وقال عزّ من قائل: ” ذائقة”، والذّوق هو الطعم، ولا يكون إلا لمطعوم يُتناول بالفم. وتوحي هذه الكلمة بحقيقة الموت وثقله على النفس، ونقول في تعبيرنا الشعبيّ الموت مرّ، فهل التعبير مجازيّ أم هو على الحقيقة؟ لا جواب، فلا يعلمه إلا الله، فهي ليس من قبيل قوله تعالى: ” فأذاقها الله لباس الخوف والجوع” تحمل على المجاز . وفي هذا الموقع يليق التعبير باسم الفاعل: ذائقة.. لما فيه من دلالة على الثّبوت، وعدم التّجدّد، يعني يقع في الدنيا مرّة واحدة، وكان التعبير باسم الفاعل المضاف الذي يعني الوقوع في الماضي لثبوت هذه الحقيقة. كقولنا: فلان فاعل خير ، بإضافة فاعل إلى خير.
كيف عالجت الآية مصيبة الموت ووقعها العظيم على النّفس بعد هذه الحقيقة؟

الجزء الثاني من الآية قوله تعالى: “وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ” ويأخذنا إلى أمور:
1ـ أنّ الموت ليس النّهاية، بل هو مرحلة انتقال إلى حياة أخرى ذُكر منها مشهد واحد هو يوم القيامة، لا يقال فيها بزمن، لأنّ الموت يعني أول ما يعنى توقّف الزمان والمكان والعمل وفناء الجثمان.
2ـ تردّنا الآية إلى ما قبل الموت، وهو أنّنا مكلّفون بعمل ما محاسبون عليه بعد الموت، فكأنّها تلفت انتباهنا عن مصيبة الموت من جهة، وتذكّر من هو حيّ بأنّ عليه أعمالا يجب أن يقوم بها قبل الموت.
3ـ قالت الآية ( توفّون أجوركم) أي تأخذونها وافية دون نقصان، والأجر لا يكون إلا ثوابا على عمل صالح، ولم تقل الآية الجزاء ولم تذكر العقاب، لأنّ الموضع موضع تذكير بعمل صالح تعدّه قبل الموت، وهذا من باب التعزية في هذه المصيبة، ومن باب الاحتباك أي أنّه من البدهيّ إذا ذكر الأجر على العمل الصالح أن يتبادر إلى الذهن العقاب على العمل السّيّئ،
وجاء الجزء الثالث من الآية وهو قوله تعالى: ” فمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ ” ليرسم مشهدا عظيما مبشرا ومنذرا في آن واحد، فهناك بشرى بأنّ هناك أعمالا، وإن قلّت تزحزحك عن النار، بعد مواشكة الوقوع فيها، فلفظ (زحزح) يعني أنّه كان غير بعيد منها فنجا برحمة من الله وبعمل صالح. أمّا الإنذار فيها فهو الحالة التي يتصورها المتدبّر في هذه الصورة المخيفة: يقف على شفا حفرة من نار يوشك أن يقع فيها فيزحزح عنها لينجو منها، فلك أن تتصوّر أي مشهد من مشاهد الدنيا، يوشك فيه الإنسان على الهلاك فيجد من بجذبه أو يدفعه عن سبب الهلاك فينجو ويجد نفسه فجأة في موقع آمن.
ووصفت الآية هذا بالفوز، فمن يدخل الجنّة مباشرة بعمل صالح يفوز، لكنّ الفوز الذي فيه المتعة وله المكانة أن تنجو من النار بعد الإشراف على مواقعتها وتدخل الجنّة، هنا للفوز طعم آخر.
أمّا القسم الرابع من الآية وهو قوله تعالى: ” وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ” … فقد جاءت صريحة في التخفيف من وطأة مصيبة الموت، أولا: بوصف الدنيا بأنّها متاع الغُرور… فلا تحزن على مفارقتها بالموت… والسرّ في مصيبة الموت والحزن به هو الحرص عليها والتعلّق بها، فلا بدّ من التهوين من شأنها.
ثانيًا: التحذير منها بوصف حالها، ففيها ما يغرّر بالإنسان من مال وولد وجاه وشهوة وغيرها، فينسيه العمل لما بعد الموت. أو لا يفطن للموت ويذهل عنه ولا يحسب لما بعده حسابا، ولا يعدّ للآخرة ما يزحزحه عن النار ويدخله الجنّة .
والله أعلى وأعلم
القدس… 21 آب 2020

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى