بنية الخبر في قصة ” انتفاضة ” للكاتب الفلسطيني نبيل عودة

د. أفنان القاسم | أديب وناقد ومحاضر جامعي -باريس

أستعمل مصطلح “قصة” تجاوزًا، فانتفاضة ليست قصة، انتفاضة في بنيتها ضد-القصة، ضد-السرد، وهي ضد-الشعر، لا تخضع للتقسيم الأرسطوطالي، ولا تخضع للتمثيل الحداثي، خطابها عبارة عن جملة من الأخبار تم استثمارها بشكل يكون الخبر فيه ضد-الحدث، لهذا كان العرض، أو النطق –كما يقول علماء الألسنية – أقرب إلى الهذيان، وبالتالي طغت سلطة العابر على النص، الوقتي، وفَتَحَ الوقتي الباب واسعًا للاتفاقي، للصدفوي.

من هنا جاءت ردود الفعل المتفاوتة لسكان القرية العربية التي اجتاحتها الرائحة الكريهة لحظيرة خنازير أقيمت على قطعة أرض مصادرة من أراضيها –مصادرة تحت إشارات واضحة سياسيًا – وما كانت الرائحة الكريهة –كريهة ولخنازير تحت إشارات واضحة سياقيًا- إلا ذريعة لردود الفعل هذه، ومن ناحية البنية كان كل رد فعل، كل خبر، عبارة عن وحدة من وحدات الخطاب، وكل وحدة من وحدات الخطاب عبارة عن رسالة يرمي قائل الخبر (المؤلف) إلى إيصالها.

لكن وحدة الخبر لا تقوم إلا بوحدات أصغر منها، نطلق عليها الوحدة الجملة، كما يقول بارت، فالفقرة الأولى من القصة، الوحدة الأولى، تقدِّم، كما يقول النص، “لقضية ضد رائحة الخنازير القاتلة” –لنلاحظ المصطلح “ضد” فيما يخص المضمون البنيوي بعد أن حددناه فيما يخص الشكل البنيوي- فالنفي سمة جوهرية “للاقصة” لدى نبيل عودة. هذه الوحدات الجمل، أو الوحيدات يجري نطقها كالتالي:

1-      “الحياة الرتيبة توقفت.”

2-      “امتلأت الحارة بالغرباء.”

3-      “سيارات من كل الألوان والأنواع مع صحون كبيرة على سقفها.”

وهي تطرح مبدأ الكشف على مستويين، زمنيين، حاضر: “الأولاد يقولون إن هذه الصحون هي لاقطات تلفزيونية تنقل الصورة فورًا من هنا إلى كل محطات التلفزيونات حتى التي تقع في أمريكا.” وماض: “هذا الكلام غير مقنع. أيام العجائب انتهت. الأولاد ليسوا مثل أيامنا، “أكل ومرعى وقلة عقل”، قال ختيار بألم وأضاف: “كنا في جيلهم نزن نصف وزنهم اليوم، ولكن عقلنا كان أكبر”.” وفي فقرة تالية، تطرح الوحيدات مبدأ الكشف على مستويين، سلوكيين، قبل: “كانت البيرة من المحرمات، إلا أن الطلب المتزايد عليها من الغرباء والتذمر من عدم وجودها في بقالة الحارة، اضطرا صاحب البقالة إلى إحضار عدة صناديق من المشروب المكروه بعد أن استغفر ربه مرات عدة، وباعها بالمفرق لقليلي الدين بسعر مربح جدًا.” وبعد: “وكان يذمهم في سره وهو يستلم أثمان المشروب الذي حرمه الله.” وقس على ذلك كل الوحدات الخبرية، عربيًا ويهوديًا وعالميًا، بعد أن تغدو القرية العربية المنعزلة محورًا علائقيًا لبنية “الضد”، الفضح في أكمل صوره: كيف كنا وأصبحنا (شيوخ وفتيان القرية)، كيف كنتُ وأصبحتُ (البقال قبل بيع البيرة وبعدها)، كيف كانوا وأصبحوا (الحاخامي صاحب حظيرة الخنازير المحرم أكلها ثم المحلل أكلها)، وقس على ذلك كل الشخصيات التي يدور حولها الخبر كالخباز وبائع الفلافل وصاحب المقهى و… و… و… وفي الناحية المقابلة كل رموز السلطة المتمثلة بأعضاء الكنيست وموظفي الوزارات وسكان المستوطنات وأفراد الجيش والمخابرات و… و… و…

وكما يرى بارت الخطاب كجملة كبيرة والجملة كخطاب صغير، نرى الخطاب لدى نبيل عودة كخبر كبير والخبر كخطاب صغير: هذا التبادل ليس سببه سياسيًا كما يوحي النص به، فالسياسة الفلسطينية-الإسرائيلية إناسية، يزلق في خرجها كل شيء يبحث في أصل الجنس البشري وتطوره وأعرافه وعاداته ومعتقداته، وهي عبارة عن أنظمة لغوية أولاً وقبل كل شيء، ومن هذه الناحية، للنص الخبري أهميته في الكشف عنها، وردها إلى طبيعتها الإنسانية، إي إنقاذها من ضدها، عن طريق الضد، فما تتنبأ به القصة بانتفاضة في الخط الأخضر، يعود إلى قوة الفعل اللغوي بعيدًا عن الأثر السياسي فيه، فالفعل اللغوي، أو الكلام، كما يقول بارت، لا يتوقف عن مرافقة الخطاب، وذلك بمده إليه مرآة بنيته.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى