التفوق: عودة علم الأعراق

تأليف: أنجيلا سايني

عرض: فينان نبيل| كاتبة مصرية

يُعرف الإثنولوجي أو علم الأعراق (Ethnology)، بأنه علم الثقافات المُقارن، وهو علم يُعنى بخصائص وإنجازات الشعوب وأحوالهم الحضارية والثقافية ومعتقداتهم، من أهدافه إعادة صياغة تاريخ الإنسان ومعرفة التغيرات الثقافية الطارئة على سطح الأرض مع تغير الأجيال، يقصد بعلم دراسة الأعراق في أمريكا وبريطانيا الأنثروبولوجيا (علم الإنسان) على الرغم من أن المصطلحين لا يحملان المعنى ذاته.

تعود جذور هذا العلم إلى القرن الثامن عشر، حيث افترض الفلاسفة والعلماء الأوربيون مثل فولتير، وهيوم، وكانت، وغيرهم وجود تفاوت في القدرات العقلية بين الأجناس، ثم ظهرت فكرة وجود اختلافات في هياكل الدماغ وأحجامها لدى مختلف الأجناس مما يبرر اختلاف مستويات الذكاء، حاول”فرانسيس جالتون” ربط الذكاء لدى مختلف المجموعات العرقية والإثنية بنوعية الإنجازات الفكرية، وتحديد نسبة الرجال البارزين من ناحية التفكير والذكاء في المجموعات العرقية المختلفة، وذكر أن المفكرين اليونانيين يأتون في المقدمة، يليهم الإنجليز المعاصرون، بينما حصل الأفارقة السود على أقل نسبة من الذكاء. ثم تلا ذلك عدد من الدراسات تؤدي إلى نفس النتيجة ففي عام 1912 استعرض “فرانز برونز”بعض صفات أصحاب البشرة السوداء”الزنوج” وذكر أنهم يميلون إلى الكسل وعدم الانضباط ونقص في النشاط والسلوك البنّاء.

أشار بعض العلماء في العشرينيات ومنهم ” فلويد ألبورت” إلى أن العادات الاجتماعية الموروثة والعوامل البيئية تشكلان جزءاً من الاختلاف، وذكر فلويد أن ذكاء العرق الأبيض أكثر تعقيداً وتنوعاً من بقية الأعراق. وفي الأربعينيات اعترف علماء النفس بأهمية العوامل البيئية والعوامل الثقافية إلا أن ذلك لم يمنعهم من التمييز والتحيز فقدموا تفسيراً أوضح للفوارق بين الذكاء، وأصبحت هذه الأفكار واسعة الانتشار فيما بعد.

تقول آنجيل سايني عن “العرق” إنه مفهوم حديث نسبيا، وكان أول استخدام له في القرن السادس عشر للإشارة إلى مجموعة من الأشخاص من عائلة أو قبيلة، ولم يكن يشير إلى الدلالات التي يحملها اليوم، لم تكن تتسع لتشير للمظهر الخارجي كاللون على سبيل المثال، لقد أوضحت أنه حتى القرن الثامن عشر أثناء عصر التنوير الأوروبي،كان هناك اعتقاد أن لون البشرة يتحول نوعيا وفقا للمنطقة الجغرافية، فأصحاب البشرة الداكنة يعيشون في الأماكن الحارة. ولكن إذا انتقل هؤلاء إلى أماكن باردة ستتأثر بشرتهم بشكل أقل بالحرارة.

كان “كارلوس لينيوس” 1785 عالم النبات السويدي من أوائل من بدأوا في تصنيف البشر بطريقة قد نسميها “عنصرية”، في أربع فئات تتوافق مع الأمريكتين وأوروبا وآسيا وأفريقيا، بألوانها المفترض أنها تميزها، وهي الأحمر والأبيض والأصفر والأسود.قد يرى شخص ما أن لينيوس كان يحاول فقط أن يفعل ما يفعله علماء التصنيف، لكن سايني وضحت أن تصنيفات” لينيوس” ذهبت إلى ما هو أبعد من مجرد المظهر، فلم يكتف بوصف الأمريكان الأصليين بأن لديهم شعرا أسود مستقيما وأنفا عريضا، ولكن أيضا أنهم ذوو طبيعة خاضعة، كما لوكانت تلك حالتهم الطبيعية، كما شمل فئات فرعية من البشر ووصفهم بأنهم أشباه الوحوش،كما وضع الرجال في تصنيف أعلى من النساء، والجنس الأبيض أعلى من باقي الأجناس، واستخدم التسميات ذات الحدين التي أصبحت مألوفة الآن لتصنيف الكائنات الحية على سبيل المثال (الإنسان العاقل) .

توسعت سايني في إلقاء الضوء على أكثر البيولوجيين وعلماء الأحياء تورطا في التطور التدريجي للأفكار التي سنجدها غير علمية أو غير مستساغة “تشارلز داروين”، الذي ذهب إلى تصنيف مشابه، كان ” توماس هنري هوكسلي داروين” حارسا ومدافعا عن نظرية “الانتقاء الطبيعي”،و”البقاء للأصلح” عنصريا إلى حد بعيد، فهو يرى أن كل البشر لم يخلقوا متساوين، وفي مقاله عن تحرير العبيد السود، كتب أن الشخص الأبيض العادي لديه عقل أكبر، وأن أعلى مكان في التسلسل الهرمي للحضارة لن يكون أبدا من نصيب السود، كما أوجد تدرجات في التصنيف البشري فوضع الرجال أعلى درجة من النساء، والأجناس البيضاء تتفوق على الآخرين، وأجناس عليا وأخرى متوحشة. فشل داروين في أن يضع قوانين واضحة تفسر التمايز وأسبابه.أصبح الأمر أكثر توهجا في أعقاب انتشار الاستعمار، والذي كان من نتائجه انتشار العلماء الذين أداروا أيديهم لوضع تصنيف يجعل من الغزاة مجموعة مذهلة مختلفة ومتميزة عن البشر.

يبدو أن وضع الأشخاص البيض على قمة تصنيف تسلسل الهرم البشري كان أمرا بديهيا في أوائل القرن العشرين،حيث تخلل أفكار كثير من علماء الأحياء والأنثربولوجيا، وعلم اليوجينا “تحسين النسل”، وضع عدم وجود أدلة على هذه الادعاءات الجارفة عبئا على جهودهم، رغم محاولاتهم اليائسة لإيجاد أسباب علمية لتبرير”كره الآخر” أثناء الحرب العالمية الثانية، حيث بذل الباحثون المرتبطون بالنازيين أقصى ما يستطيعون لإثبات “التفوق المفترض” لجنسهم الآري.

بدأت الأمور تتغير بعد الحرب العالمية الثانية، في ظل الرعب السائد من علم العرق وتواطؤ علمائه، بذل علماء الأحياء وعلماء الأنثروبولوجيا في الغرب قصارى جهدهم لفعل ما يفعله المنتصرون،وأعادوا كتابة المقالات والأبحاث، وإلغاء أي بحث مرتبط بهذه الأفكار العنصرية الضارة في الولايات المتحدة وبريطانيا وتنحيتها بعيدا، وتم إعادة تسمية أقسام الجامعة وانتقل العلماء إلى مجالات جديدة. شهدت الولايات المتحدة والعالم تبدلا في الموقف المعلن باتجاه إقرار المساواة المطلقة بين الناس جميعا من حيث الطبيعة، والإصرار على أن الفروق العرقية سطحية ومحصورة بالجسد دون العقل، بل إن العقل عند الولادة مادة خام قابلة للملء والتوجيه من محيطه، وإذ كان ثمة اختلاف في الأداء الدراسي بين الأعراق، فلا بد من إعادته إلى الخلفية الاجتماعية والتاريخية.لا يزال هذا الموقف هو الأصل المعتمد رسميا في الخطاب العام كما في المواقف العلمية. غير أنه لم يعد منسجما مع واقع بحثي متكاثر، ولا سيما استطلاعات “معدلات الذكاء”، بما يُفترض في طبيعتها الحسابية من دقة علمية.

كماعقدت اليونسكو عام 1950 بحضور مائة من العلماء وصناع السياسات والدبلوماسيين مؤتمرا وضعوا خلاله بيانا يهدف إلى تفكيك فكرة العرق، لوضع حد للعنصرية وأبحاثها، وتوصل العلماء إلى اتفاق عام يعترفون فيه “أن الجنس البشري كله ينتمي إلى نفس النوع، وهو الإنسان العاقل. وبذلك يبدو أن الخير فاز على الشر”.

ترى سيناي أن علم العرق في الحقيقة لم يختف بشكل مطلق، ولكن بدأ يتوارى إلى الظل تموله مؤسسات غامضة، وأفراد لهم صلات خفية بدعاة تفوق الجنس الأبيض”، مستخدمين مجلات خاصة تسعى إلى نشر الاختلافات الواضحة بين الناس تحت اسم الحرية الأكاديمية في إجراء تحقيق نزيه في الحالة الإنسانية، اتخذ الانضباط البيولوجي الجديد من علم الوراثة إطارا له. اتفق العلماء على أن هناك مكونات جينية للذكاء، وأوضحت الأبحاث التي أجرتها الولايات المتحدة في الثمانينات في مشروع يسمى ” منحنى الجرس” مستويات مختلفة بين الأعراق المتعددة،فذكر تشارلز موراي وريتشارد هيرنشتاين بأن الأميريكين الأفارقة كانوا أقل ذكاء من الأمريكيين البيض، وأن الاختلافات الوراثية بين الأعراق كانت عاملا رئيسا في هذا الاختلاف. أثار الباحث تشارلز موراي في التسعينيات ضجة شديدة، وواجه نقدا وإدانة حين أصدر دراسة في هذا المضمار تضع الأميركيين من أصل إفريقي في الترتيب الأدنى في “معدلات الذكاء”، وتمنح اليهود الأشكناز والآسيويين المراتب الأول .والإضافة الجديدة الهامة إلى “علم الأعراق” هي إمكانية توضيح الأصول العرقية من الحمض النووي الوراثي، وتطبيق تقنيات البحث هذه على المجتمعات القائمة، لتوضيح تمايزها وتماهيها لإظهار انفراد أقلية ما عن محيطها مثلا، أو لإثبات وحدة شعب منتشر في أصقاع عدة، أو حتى على مخلفات الحضارة البائدة لاستنسابها.

في الواقع لا يوجد دليل قاطع أن إحدى العرقيات مهيأة وراثيا لتكون أكثر ذكاء من غيرها، فإذا تتبعنا، معظم التسلسل الجيني نجد أن الأمريكيين من ذوي الأصل الأفريقي تعود أصولهم إلى أصول أوربية، ويمكن تسميتهم الأمريكي الأفريقي الأوربي-وفقا لبعض علماء الوراثة-، نستنتج من ذلك أن الأعراق مختلطة أكثر بكثير مما يمكننا أن نعول على المظاهر وحدها، كذلك فإنَّ الاستخدام الشائع لكلمة “إثنية” لا يرسم خريطة لكيفية تفكير علماء الوراثة في الأنساب.

تقدم الكاتبة حقائق غير مريحة تبرر عدم رضاها عن علم العرق، لا سيما وأنَّ الكتاب يأتي بعد ظهور العديد من العنصريين الفكريين مثل ريتشارد سبنسر وغيره ممن يحتالون باسم الفكر، وانتشار أفكارهم المختلفة. يوضح كتاب”التفوق” النوايا الخبيثة والأغراض المدمرة وراء علم العرق، فالقوميات العنصرية تشكل تهديدا متصاعدا في جميع أنحاء العالم، يستعين القادة بعلماء العرق التابعين لهم ممن لديهم تحيز فكري بشأن قضايا معينة مثل الهجرة والمساواة، ويعتبرون أنهم يضيفون إليهم ثقلا فكريا. وسواء كانت أبحاثهم صحيحة أم لا، فإنَّ صوتا واحدا يحدث فرقا كبيرا في تفوق الجنس الأبيض بغرض الوصول إلى السلطة. توضح سايني الدور الذي لعبه علماء العرق في الأيديولوجية النازية والهولوكوست، ولم تتوقف المشكلة عند هذا الحد؛ فهم مازالوا يناضلون من أجل تأكيد مفهوم العرق، كما ترى أنَّ “جيمس واطسون” مكتشف الحمض النووي DNA))، والحائز على جائزة نوبل يتبنى وجهات نظر عنصرية بقوة، فهو يرى أن أن الجينات تؤدي إلى فروق في النتائج بين السود والبيض في اختبارات الذكاء مما جعل مختبر “كولد سبرينغ هاربور” إلى تجريده من ألقابه الفخرية لتصريحه بملاحظات تربط بين مستوى الذكاء والعرق، وترى أنّ السود أقلّ ذكاءً من البيض دون سند علمي حقيقي.

أثار الكتاب تساؤلات هامة حول نزاهة “علم العرق ككل” وأكد الكتاب بقوة أننا جميعاً متشابهون من الناحية البيولوجية أكثر من كوننا مختلفين، وأن فكرة العرق “بناء اجتماعي” أكثر منه جيني، ومن المحتمل وجود اختلافات جينية بين عضوين من نفس العرق، أكثر من الاختلاف الموجود بين شخصين من أعراق مختلفة؛ فمن الناحية الإحصائية يمكن أن تتماثل البريطانية البيضاء على الرغم من مظهرها المختلف تماماً مع جارتها الهندية المولودة في الطابق الأسفل على حد تعبير سايني. ومع ذلك، لم يوقف هذا تاريخا طويلا من محاولات العلماء لتبرير وجهات نظرهم بشأن الأشخاص الذين لا يشبهونهم.

يوضح الكتاب أنَّ العلم يتأثر بأولئك الذين يقومون به، والافتراضات التي يضعونها والبيانات والاستنتاجات التي يختارونها لينشروها، وتلك التي يتجاهلونها بشكل واضح، وهذا ما يجعل هذا الكتاب غير مريح لأولئك الذين يعتقدون أن علم” العرق” موضوعي وصفي له حقائق، فهو يؤكد على ضرورة التشكيك في قراراتنا وتحيزاتنا والاستماع إلى وجهات نظر أوسع.

يقدم كتاب التفوق قصة مثيرة للقلق عن استمرار الاعتقاد في الاختلافات العرقية والبيولوجية في عالم العلوم. بعد انتهاء أهوال النظام النازي التي شهدها العالم في الحرب العالمية الثانية،أدارت الأوساط العلمية ظهرها لدراسة “اليوجينا” أو علم تحسين النسل، والاختلاف العرقي العنصري. وإذا كان ثمة تحفظ لا يزال قائما في الولايات المتحدة وعموم الغرب إزاء “الدراسات العرقية”، فإن التنظير حول الفوارق ومقتضياتها يبدو أكثر إطلاقا للعنان في الدول التي كانت سابقا ضمن المنظومة الاشتراكية، ومنها تنتقل إلى هامش الفكر في العالم الغربي ثم إلى عموم المجتمع والثقافة.

تبرأ الغالبية العظمي من العلماء والفقهاء من تلك الأفكار، إلا أن الفكرة تمكنت من البقاء على قيد الحياة بطريقة أو بأخرى في فكر العلماء عن الاختلاف البشري وعلم الوراثة. توضح لنا سايني كيف يتمسك العلماء مرارا وتكرارا بأن فكرة العرق حقيقة بيولوجية، وذلك بعد تحليلها لأعمال العلماء المعاصرين ودراساتهم عن التنوع البيولوجي، وتؤكد سايني أن الاعتقاد بأن الدراسات العنصرية في طريقها للخروج من مضمار البحث العلمي، وأن منحنى القيم السمحة يتجه نحو التقدمية، وأن الأبحاث التي تنصب على أن هناك مجموعة من البشر أكثر ذكاء وموهبة،أو أكثر قدرة جسدية من الآخرين ستختفي، لهو اعتقاد خاطيء. ترى سايني “العنصرية الفكرية موجودة دائما”؛ إنها بذرة صغيرة سامة في قلب الأوساط الأكاديمية، مهما بدا أنها ماتت فإنها تحتاج إلى القليل من المطر، وهي الآن تمطر”.

………..

العنوان: التفوق: عودة علم الأعراق

المؤلف: أنجيلا سايني

الناشر: – بيكون بريس –الولايات المتحدة الامريكية- 2019

اللغة: الإنجليزية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى