الاعتقادات المختلة وظيفيًا: تعريفها و أنماطها

د. محمد السعيد أبو حلاوة | أستاذ الصحة النفسية المساعد، كلية التربية، جامعة دمنهور

تم تناول أنساق الاعتقادات المختلة وظيفيًا Dysfunctional belief systemsعبارة عن أنماط أفكار سلبية يظهرها ذوو اضطراب الاكتئاب وذوو اضطرابات المزاج بصفة عامة بالوصف والتحليل والتفسير من قبل آرون بيك Aaron Beck في إطار نموذجه الوصفي والتفسير عن الاكتئاب، حيث حدد آرون بيك

ثلاثة أنساق اعتقاد مختلة وظيفيًا تتمثل فيما يلي:

  • أنا معيب وبي قصور وغير ملائم لأي شيء. (التوجه السلبي نحو الذات).
  • كل خبراتي تؤدي إلى الهزائم أو الفشل. (التوجه السلبي نحو الحياة).
  • لا أمل في المستقبل (التوجه السلبي نحو المستقبل).

على سبيل المثال غالبًا يشعر الشخص الذي يعاني من ميولٍ وتفكير انتحاري  suicidal ideation بأنه ليس جيدًا بما يكفي وأن كل ما يفعله لا قيمة له ويفضي إلى خيبة الأمل؛ ومن ثم يتخلق لديه تصور تشاؤمي وقاتم عن المستقبل.

ويجدر الإشارة إلى أن “التشوهات المعرفيةCognitive distortions” ترتكز بصورة مباشرة وتدور حل أنماط أو عمليات التفكير patterns or processes of thinking بينما تتعلق الاعتقادات غير الوظيفية dysfunctional beliefs بمحتوى التفكير نفسه.

ولدى كل شخص بطبيعة الحال في الحياة مجموعة من الآراء والاعتقادات عن طبيعة العالم وعن الآخرين من حوله، وهذه الاعتقادات ليست حقائق منعزلة داخل عقل الشخص، بل هي جزء من نسق منظم من الاعتقادات يطلق عليها “المخططات schemas” تتطور على الدوام خلال مسار حياة الشخص؛ الأمر الذي يجعلها في حالة من التغير والارتقاء مع الزمن ومن خلال تطور فهمه للعالم وللحياة بصفة عامة.

من جانب آخر تتأثر اعتقادات الإنسان بعلاقاته بين الشخصية مع الآخرين ومن خلال التعرض للمؤثرات الإعلامية والتعليمية التي تنقل التوقعات الثقافية اقترانًا بالمعلومات والدعاية والترفيه.

ويمكن أن يشكل بعض الناس الاعتقادات ببساطة من خلال تشرب أو ببلع اعتقادات الآخرين بصورة كلية، بينما يميل البعض الآخر إلى إدارة الذات وصولاً إلى استنتاجاتهم الخاصة عن عالم الوقائع والأشياء وتأليف أو التكوين الذاتي لاعتقاداتهم.

وعلى ذلك فالاعتقادات والمخططات المعرفية التي تحتويها وتنظمها أساس المعرفة الشخصية personal knowledge، وتقوم بوظيفة تكيفية تتمثل في مساعدة الناس في تحديد الكيفية التي يفترض أن يتصرفوا بها، فضلاً عن تمكينهم من تفسير الأشياء والوقائع والأحداث من حولهم.

فالاعتقادات وما ينظمها ويحتويها من مخططات معرفية الأساس الذي يستند إليه الإنسان في سعيه لفهم الأشياء من حوله والوعي بها، وعندما تكون هذه الاعتقادات جيدة التكوين وتكيفية الطابع تساعدنا في إدراك وفهم والوعي بما يحدث، أم في حالة تشوهها أو اختلالها وظيفيًا تجعلنا نسيء تفسير ما نراه وما نخبره ونتعايش معه، ومن ثم تختل مواقنا  منه وتتشوه انفعالاتنا وترتبك ردود أفعالنا بصورة تصعب من تكيفنا وتوافقنا في الحياة.

وتأسيسًا على ذلك تفضي الاعتقادات غير الدقيقة والمشوهة أو بالجملة غير الوظيفية dysfunctional beliefs إلى تفسيرنا لوقائع الحياة وأحداثها وخبراتنا فيها بطريقة غير تكيفية maladaptive way؛ الأمر الذي يزيد بالتبعية من فرص معاناتنا من الضيق والمشقة stress ومشكلات المزاجmood problems.

ويوجد نوع من الاقتناع لدى كثيرًا من الناس حرفيًا بآلاف من هذه الاعتقادات غير التكيفية أو المختلة وظيفيًا وفيما يلي أمثلة قليلة منها:

  • لا يمكن للناس أن يتغيروا.
  • يتصف الناس بالقسوة على نحو دائم.
  • أنا شخص كسول.
  • يجب أن أكون مثاليًا في جميع الأوقات.
  • لن أكون سعيدًا أبدًا.
  • إذا سار شيء بصورة خاطئة فلا يمكن تغييره.
  • الحياة تجربة للبؤس ثم يليه الموت.

ويكمن في بنية هذه الاعتقادات غير التكيفية والمختلة وظيفيًا تعبيرات نوعية ذات طابع قهري إلزامي تؤصل لفكرة “يجب”، “يتعين”، “من الحتمي”، والتي عبر عنها د. ألبرت إليس مولعًا بالإشارة إليها خاصة في صياغة لمصطلح “الينبغياتMusterbation“، على سبيل المثال قد يعتقد أناس آخرون ما يلي:

  • كان يجب أن أكون أفضل.
  • يجب أن تكون الحياة (أي العالم والآخرين) عادلة.
  • يجب أن أنجز كل هذه المهام اليوم.
  • يجب أن يكون أكثر تهذيبًا.
  • يجب أن أعيش في منزل أفضل الآن.
  • يجب أن أكسب مزيدًا من المال.
  • يجب أن أفعل أي خطأ.
  • يجب أن أتوافق “أتعايش”مع كل شيء.
  • يجب أن أكون مسيطرًا على جميع المواقف.
  • يجب أن أكون مسيطرًا على جميع المواقف.
  • يجب أن يعاملنا الآخرون بصورة جيدة دائمًا.

ويجدر التنويه إلى أنّ من يتبنون مثل هذه الاعتقادات ويؤمنون بها يعيشون في حالة من التوتر والارتباك وعدم الارتياح العام في الحياة في ظل التوجه على نحو دائم لتأسيس تأويلاتهم وتفسيراتهم ومن ثم انفعالاتهم وردود أفعالهم على هذه الاعتقادات غير التكيفية والمختلة وظيفيًا والموجهة بمفردات الحتميات مثل: ينبغي، يجب، يتعين، من الضرورة، الأمر الذي يرتبط كذلك بتركيزهم على جوانب القصور ومظاهر الضعف والملامح السلبية في أنفسهم وفي الحياة وفي المستقبل بما يقلل رضاهم عن الذات وعن الحياة إجمالاً.

وتركز النماذج النظرية المعرفية المعاصرة في وصف وتفسير عديد من الاضطرابات النفسية مثل اضطراب الوساوس ـ الأفعال القهرية (Clark, 2004 ; Frost &Steketee, 2002 ; Salkovskis, 1996) على ما يعرف بفرض الخصوصية المعرفية cognitive specificity hypothesis الذي صاغه آرون بيك في إطار نموذجه المعرفي في تفسير الاكتئاب (Beck, 1976) حيث أفاد أن أنواعًا معينة من “الاعتلالات النفسية psychopathology” تنشأ بسبب أنماط معينة من “الاعتقادات المختلة وظيفيًا dysfunctional beliefs“.

فعلى سبيل المثال ينشأ اضطراب الاكتئاب الجسيم من اعتقادات الشخص عن: الخسارة، الفشل، أو تشويه الذات self-denigration (إذا فشلت في عملي فأنا شخص فاشل بصورة تامة)، ويعتقد أن اضطراب القلق الاجتماعي Social anxiety disorder ينشأ من الاعتقادات المتعلقة بالرفض أن القسوة والاستهزاء من قبل الآخرين (من المرعب أن أتعرض للنبذ أو الرفض من قبل الآخرين)(Taylor, Coles, Abramowitz, Wu, Olatunji, Timpano, McKay, D., Kim, Carmin.&Tolin, 2010).

وبنفس المنطق تفترض النماذج المعرفية المعاصرة لاضطراب الوساوس ـ الأفعال القهرية contemporary cognitive models of OCD أن هذا الاضطراب ينشأ بسبب أنواع معينة من “الاعتقادات غير الوظيفية أو المختلة وظيفيًا dysfunctional beliefs” والتي يزداد تأثيرها على شدة الأعرض مع زيادة قوة الاعتقاد، وتحددت على المستوى النظري ستة أنماط للاعتقادات المختلة وظيفيًا ترتبط بأعراض الوساوس ـ الأفعال القهرية (Clark, 2004 ; Frost &Steketee, 2002 ; Salkovskis, 1996) تتمثل فيما يلي:

  • تضخيم المسئولية Inflated responsibility (المبالغة في اعتقاد الفرد بأن لديه قدرة خاصة في التسبب في النتائج السلبية وواجب عليه منعها).
  • المبالغة في تقدير التهديد overestimation of threat كاعتقاد الفرد بأن الأحداث السلبية أكثر قابلية للوقوع وأن وقوعها أو حدوثها سيكون مرعبًا.
  • المبالغة في تقدير قيمة وأهمية الأفكار overimportance of thoughts كاعتقاد الفرد بأن مجرد وجود أو حضور الفكرة يدل على أن لهذه الفكرة أهمية وقيمة، بمعنى آخر أن أيالاعتقادبأنللفكرةتداعياتأخلاقيةأومعنوية،أوأنالتفكيرفيالفكرةيزيدمناحتمالالسلوكأوالحدثالمقابل المرتبط بها.
  • الحاجة إلى السيطرة على الأفكار need to control thoughts: وتعكس اعتقاد الشخص أن سيطرة المرء بصورة كاملة على أفكاره أمرًا ضروريًا وممكنًا.
  • الكماليةperfectionism: وتعكس اعتقاد المرء بأن الأخطاء أو القصور أمرًا غير مقبول على الإطلاق.
  • عدم تحمل الشك أو اللايقين intolerance of uncertainty: ويعكس اعتقاد المرء بأنه من الضروري ومن الممكن أن يكون على تيقن تام بأن النواتج السلبية لن تحدث.

ويرى أنصار العلاج المعرفي أنه حتى الأحداث الصغيرة مثل نسيان موعد يمكن أن تجعل الأفراد يشعرون بالاكتئاب أو القلق إذا ما تم تكوين تفسيرات سلبية وغيرة مبررة لهذه الأحداث مثل “هكذا أنا على الدوام أنسى كل شيء”، “لقد  أضعت على نفسي فرصة

ثمينة، لن يرغبوا في مقابلتي مرة أخرى”.

وتجعل التفسيرات السلبية المبالغ فيها الحدث يبدو أسوأ مما هو عليه بالفعل، وعلى هذا النحو فإنها تعكس افتراضات واستنتاجات غير دقيقة ويمكن تصنيفها تحت مسمى “المغالطات المعرفية الزائفة cognitive fallacies (Irwin &Bassham, 2003). ولهذه الأفكار القدرة على جعل الأفراد يشعرون باليأس أو الذنب أو الغضب أو الإحباط.

ويقع في قلب العلاج المعرفي التسليم بافتراض مركزي مفاده أنّ “الأفكار المختلة وظيفيًا” تكمن وراء الاضطرابات المزاجية وغيرها من الاضطرابات النفسية؛ ومن ثم فإن الهدف من العلاج المعرفي تقويض بنية وديناميات تكوين هذه الأفكار وتغييرها، وتعرف مثل الأفكار بالأفكار المنحازة للسلبية، والتي يشار إليها أيضًا باسم “الأفكار المختلة وظيفيًا”، أو “التشوهات المعرفية“cognitive distortions، وتعبر الأفكار المختلة وظيفيًا بصفة عامة عن “إدراكات سلبية للذات وللآخرين وللعالم وللمستقبل” (Wiemer-Hastings, Janit, Wiemer-Hastings, Cromer & Jennifer Kinser, 2004) .

وتأسيسًا على هذا التحليل النظري يعرف الاعتقاد المختل وظيفيًا أو غير الوظيفيDysfunctional Belief بأنه “اعتقاد أو فكرة ثابتة لا أساس لها في الواقع ويتعذر تسويغها منطقيًا تفضي إلى معاناة من يتبناها من انفعالات وإحساسات أو سلوكيات سلبية، ويقلل بصورة عامة من سعادة الشخص ويحد من قدرته على تحقيق أهدافه الشخصية”، من جانب آخر يعرف الاعتقاد الوظيفي Functional Beliefبأنه تصور أو موقف أو رأي أو فكرة ثابتة ترتكز على أدلة وشواهد تسوغها وأو تفكير منطقي متسق وينتج عنها وجدان وسلوك يساعد الشخص في تحقيق أهدافه”.

المصادر:

  • American addiction Centers (2021). Dysfunctional Beliefs Affecting Stress:https://www.mentalhelp.net/stress/dysfunctional-beliefs-affecting-stress/
  • American Psychological Association (2021). Dysfunctional Belief Systems: https://www.alleydog.com/glossary/definition.php?term=Dysfunctional+Belief+Systems
  • Morin, C., Vallières, A. & PhD; Hans Ivers, H. (2007). Dysfunctional Beliefs and Attitudes about Sleep (DBAS): Validation of a Brief Version (DBAS-16). SLEEP, 30(11): 1547- 1554.
  • Taylor, s., Coles, M., Abramowitz, J., Wu, K., Olatunji, B., Timpano, K., McKay, D., Kim, S., Carmin, C. &Tolin, D. (2010). How Are Dysfunctional Beliefs Related to Obsessive-Compulsive Symptoms?.Journal of Cognitive Psychotherapy: An International Quarterly, 24(3): 165- 176.
  • Wiemer-Hastings, K.,Janit, A., Wiemer-Hastings, O., Cromer, S.&Kinser, (2004). Automatic classification of dysfunctional thoughts: A feasibility test. Behavior Research Methods, Instruments, & Computers, 36 (2), 203-212.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى