التّسليم بالضّرورة الشّعريّة يضرّ باستجلاء المعاني، ويحجب الحقائق النّفسيّة
محمد العويسات | أديب وناقد فلسطيني
أنا ابن جلا وطلّاع الثنايا… متى أضعِ العمامة تعرفوني
للشّاعر المخضرم سحيم الرّياحيّ، وليس للحجّاج بن يوسف، فالحجّاج له الفضل في ذيوعه وذهابه في النّاس مثلا أو بمقام المثل.
ويفتخر الشّاعر في الشّطر الأول من هذا المطلع المُحكم أنّه ابن رجل يجلّي الأمور ويبيّنها ويكشف عن حقيقتها، وهذا الكشف والجلاء في الواقع لا يكون إلا بأمرين هما سداد الرّأي أو شدّة البأس، وهذه مفخرة لدى العرب، فالتّجلية تكون برأي وقوّة نظر وشدّة القتال. وقد جاءت العبارة الخبريّة ابتدائيّة، لا توكيد فيها، وكأنّها حقيقة مُسلّم بها لا شكّ فيها ولا إنكار، وهذا من مقتضيّات الفخر والثّقة بالنّفس. وقد حذف الشّاعر المضاف إلى كلمة (ابن) وتقديره: ابن رجلٍ جلا، فلا يتوهّم أنّ الجملة الفعليّة (جلا) تكون في محلّ مضاف إليه.
وذكر الشّاعر الفعل ولم يذكر المفعول، فالتّقدير: جلا الأمر أو الأمور أو غير ذلك ممّا يجلّى.
وأتبع هذا الوصف لأبيه، أن وصف نفسه أو وصف أباه أيضا بأنّه طلّاع الثّنايا، والثّنايا مفردها ثنيّة وهي طريق ملتفّة فيها انعطاف في بطن الجبل أو الوادي، مجهولة غير مكشوفة للسالك، وكانت العرب تتّخذها مرصدا للعدوّ أو لقطع الطريق لما فيها من مفاجأة، وكانت الجيوش تقدّم من الفرسان من يستكشفها، وهي إحدى مهمّات الطّلائع، والطّلائع مجموعة من الفرسان أو الجنود تتميّز بقوّة الرّأي والقيافة والشّجاعة وشدّة البأس، تبعث في أول الجيش تستكشف الطرق وأرض العدو أو أرض المعركة… إذن بين جملة (جلا) وجملة (طلّاع الثّنايا) تناسق وتناسب معنويّ بيّن لا ينفصم، فجوّ العبارتين كشف المجهول والتقدّم والرّيادة والتّفضّل، والفخر بالأب هو حالة نفسيّة لدى كلّ مفتخر يشير بها إلى أنّ هذه الفعال أو الصّفات متأصّلة فيه موروثة… فبدل أن ينسبها لنفسه نسبها لأبيه كي تكون أوثق وأوكد لدى السّامع.
وأتبعها قوله في الشّطر الثاني (متى أضع العمامة تعرفوني) وليس من الضّرورة أن يكون في لحظة القول معتمّا، أي قد يكون في العبارة مجاز واستعارة، وربّما أراد بها أنه سيكشف نفسه فيما يأتي من الأبيات اللاحقة. أو ستنكشف لهم حقيقته بأفعاله، فلا ضير أن تعدّ العبارة هذه مجازا. وهذا لا ينفي أن يكون وضع العمامة على الحقيقة، واستخدام الشّرط بظرف الزّمان (متى)، المنقول من الاستفهام إلى الشّرطيّة الزّمانيّة، له أبعاد معنويّة كثيرة منها التّهديد بقرب زمان الكشف بوضع العمامة، والإشارة إلى المفاجأة، واستخدم الشّاعر الألفاظ: أضع، العمامة، تعرفوني، ليرسم بها جوّا من الكشف والجلاء وبيان الحقيقة. وقد أثار الشرط سؤالا هو: ماذا سيعرفون فيه أو منه؟ هل سيعروف وجها معهودا، أم ستقع منه أفعال تعرّف به…
من جهة النّحو:
قول الشّاعر: أنا ابن جلا، فيه محذوف تقديره: أنا ابن رجل جلا الأمور أو الحقائق. فلفظ جلا هو فعل ماضٍ. والجملة نعت لاسم نكرة محذوف (رجلٍ)، لا يكون إلا نكرة في هذا السّياق فالنّكرة الموصوف بجملة فعليّة أبلغ وأوكد من التّعريف المغني عن الجملة النعتيّة أي أوكد من قوله: ابن جالٍ، وكذلك في عبارة (وطلّاع الثّنايا) وهي معطوفه على جملة (أنا ابن جلا) أي وأنا ابن طلّاع الثنايا، أو وأنا طلّاع الثّنايا… ولكلّ من التّقديرين وجه وجواز. فيجوز في التّقدير الأول جرّ كلمة طلّاع بالكسرة على توهّم مضاف محذوف، أي (وابنُ طلّاع الثّنايا)، ويجوز: الرّفع على أنّه خبر لمبتدأ محذوف تقديره (أنا طلّاع الثّنايا)، والبيت من الشّواهد على حذف المضاف، ولكنّ تقدير المضاف واجب، لأنّ الجملة لا تقوم مقام المضاف إليه في التّقدير لدى الحذف.
وعلى أيّة حال يعدّ المقام أو السّياق مقام شدّة وتحدٍّ وإثبات قوّة وترهيب خصم.
وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الوقوف أوالتّسليم بالضّرورات الشّعريّة قد يضرّ باستجلاء المعاني، ويحجب بعض الحقائق النّفسيّة التي يسعى للتعرّف إليها.