” العصافير لا تكترث بما يحدث “.. توقيعات شعرية تجسد الواقع اليمني
قراءة : حسام معروف
يشتغل الشاعر اليمني عبدالغني المخلافي على التقاط اللحظة، ووصف المشاهد، والمحاكاة الداخلية للمواقف، مجسدا واقع المجتمع اليمني السوداوي مع الحرب، ووباء كورونا، ومبينا انطباعية الإنسان الداخلية عن الواقع ومآله، في مجموعته الشعرية ”العصافير لا تكترث بما يحدث“، الصادرة عن دار المثقف للنشر والتوزيع 2021.
إذ تتجلى مشاعر الاعتراض على الواقع الذي يلمس من خلاله الشاعر ضياع مقدرات وطنه، وهدم الإنسان فيه، وتحول المدن اليمنية إلى ساحات قتال وتدمير وعواء.
كما ويوصف المشهد القاتم في النهار، والليل اليمني، ما بين الانهزام النفسي، وضعف القدرة على مواجهة آلة الحرب، وسطوة الوباء، بالقيود التي يفرضها على حركة الإنسان، وأنفاسه.
ويبين المخلافي كيف يسيطر الوجع واللون القاتم على الأرجاء في المدن اليمنية، سالبا من الحياة لحظات الحب والفرح والأمان، ومنذرا بموت رغبة الإنسان تجاه الحياة.
ويظهر الشاعر في مجموعته، أصوات الطبيعة بمفرداتها المتنوعة، وطريقة تمثيل وجودها الخاصة، مثل العصافير والموسيقى والغناء والألوان والأصوات التي يأنس لها الإنسان، مبديا غصته من انحسار أثر ذلك كله بفعل الحرب.
توقيعات
ويعمد المخلافي اتخاذ طريقة التوقيعة الشعرية، بما يقدمه، حيث يتخذ أسلوبية الجملة القصيرة المكثفة، وينسج التوقيعة الشعرية من ثلاث أو أربع جمل شديدة التماسك ببعضها، معطية لمحة شاعرية عن الواقع الإنساني المعاش في اليمن.
ويلمس في النمط الشعري الذي يتبعه المخلافي، صبوه إلى اختلاق الطعم اللاذع للشعر، من خلال التلميح لمعنى باطني تحمله الإضاءة الشعرية. كما وتصنع الجملة لديه المفارقة، مثيرة إحساس الخيبة والحزن على مسار الحال في الشارع اليمني.
ويتبع المخلافي بصوت المتكلم الغالب على معظم التقاطاته الشعرية، اللغة الواضحة السهلة، المحتوية على الأسئلة والتقرير، والتعجب والاستهجان والسخرية من مفرزات الواقع، وكذلك من مداهمة كورونا لمجريات الحياة.
ويقسم الشاعر توقيعاته إلى أربعة عناوين، هي: ”جيش من المؤنسات، وميض خافت، العصافير لا تكترث بما يحدث، منفى آخر“، امتدت جميعها على 97 صفحة من القطع المتوسط.
مختصرا للحرب والوباء
أما الصورة الشعرية عند المخلافي، فيتم انتقاء تركيبتها بعناية، من خلال توقيف الزمن عبر الشعر، والتقاط تقاطع ما مع عصف الإنسان الذهني، وسط الأحداث المتراكبة والمتراكبة في السياق الواقعي القاسي. فتكون الصورة الشعرية لديه على الدوام مضيئة واضحة، غير مبتذلة، ولا مضللة، بل كاشفة للخبايا ومعرية للحدث المعتاد.
ويقدم المخلافي من خلال صوره مختصرا حصريا لنتاج الحرب، معرجا خلال مشروعه الشعري على تداخل الوباء مع ذلك، وتحميل الإنسان العبء الإضافي في مواجهة الحياة قائلا: ”في زمن كورونا/العصافير وحدها من تبادلني الود“.
ويكتب أيضا: ”يتخطاني كورونا/ ويتسرب إلى جسم ابنتي/يلهو بأعصابي/ ويرفض قبل جولته معي/ إخلاء منزلي/وترك أولادي الصغار“.
ولا يتوقف الشاعر عن المقارنة بين الصورة الحية للواقع، وما يجب أن تكون عليه صورة الحياة بعموميتها، محدثا بذلك شرخا في وعي الإنسان، ومطالبا إياه بالبحث عن صور جديدة لحياته، منافية ومعترضة على ما تم إقحامه به، من مسوغات.
يكتب الشاعر:
”في وجه هذا العالم القميء،
تعالي نغني ولو ليوم واحد.
//
كشوكة في الحلق،
تقف الحرب بيننا.
///
ساعديني لأجتاز صمت ليلي،
وواقعي المنهزم.
//
تركضين في صدري كفرس جامحة،
رغم سنوات الحرب،
والوطن المهدم،
والزمن القاسي.
أسلوب نقدي
ويبدو الصوت الشعري الغالب على المجموعة، هو نقد الواقع، وإبراز البشاعة التي آل إليها جوهر حياة الإنسان اليمني، بسبب الحرب والصراعات بين الفرق المختلفة. ويعكس شعر المخلافي أثر هذا الدمار على مشروع الإنسان في بناء وتطوير ذاته ووطنه.
ويعبر كذلك عن تثبيت الواقع لمعادلته، وخسارة الإنسان الحتمية أمام ذلك، حيث يلجأ إلى المناجاة والدعاء للإله، كطلب خجول لتعديل الواقع، مستذكرا من خلاله واقع اليمن الحالم بالشعر والموسيقى لسنوات طويلة.
يكتب المخلافي متسائلا ومستهجنا في نفس الوقت:
”يا إلهي،
كيف استحالت مدينتي
الحالمة بالشعر والغناء،
إلى ساحة دامية؟“
منفى
ويبرز الشاعر بشاعة المنفى الذي يعيش فيه الإنسان، مبتعدا عن وطنه، واعتزاله دائرة الأحداث، بما تحتويه من صخب ودماء، مبديا انهيار الحالة النفسية للمرء إزاء ذلك.
وتغلب اللهجة القاتمة في توصيف الحال، وتتصدر الخيبة والحسرة والتيه ملامح النص، محققا وظيفة الشعر في تقديم إلماحات، تزيل الغبار عن المشهد، وتزيد من تعميق الحدث، فكرة وأداء.
ويتصدر المنفى الحالة الشعرية هنا، ليدلل على عدم مقدرة المرء على مجاراة الواقع، فيتخذ الإنسان مكانا قصيا، جسديا وفكريا، لإزاحة ثقل كتلة الأحداث عن كاهله، وإراحة بنيانه من المشاهد التي تتسلقه: لا مسدس في إزاري/لا ”كلاش“ على كتفي/وسطي خال من الجُعب/سلاحي القصائد والكتب/مناخي الحب والسلام“.
حالة الاغتراب هذه، ليست اختيارا، بل حركات لا إرادية تتم بقوة دفع الواقع للإنسان، تستمر في دفعه خارج مدار الحدث، فيجد نفسه في منفى، عملية الخروج منه، والعودة إلى حيث ألف الحياة، معقدة.
ويكتب المخلافي في نص ”منفى آخر“:
”حزن في المدى،
في القرى،
في الحقول،
في الوجوه.
ملامح مطموسة،
عصافير مشنوقة،
أغصان قاحلة،
دوامات سحيقة،
حواف حادة،
ذواكر مثقوبة،
أحلام مذبوحة،
أوتار ممزقة،
وطن إلى الوراء“.