اجعل من خدك لهما وطاءً، ومن كفك لهما وسادا
رضا راشد | الأزهر الشريف
أماه طـــــــالت غربتي
أماه دامت بعدك وحشتي
أماه غابت بغيابك بسمتى
منذ الصباح وأنا أحاول أن أحمل هذا القلم عبئا تنوء بحمله الجبال الرواسي ؛ أن يكتب كلمة تكون وفاء لرمز الوفاء ونبع الحنان وأصل الحب والرحمة (أمي ) رحمها الله بمناسبة ذكرى وفاتها، وهو عصي لا يلين، حرون لا ينقاد ، وله منى كل العذر . فمن أين له أن يكتب ؟وقد تقاسم القلب همٌّ. لشيء آت وحزن على ما فات ، فاستغلقت منافذه وأوصدت نوافذه ، فلم يجد القلم (وهو المعبر عن اللسان ) ما يمتح (أي يستقي ) منه وكما تعلمون :فالقلوب قدور تغلي بما فيها، وألسنتها مغارفها تجري بما فيها. فإذا أَوْصَدَ القلب أبوابه، وغلَّق منافذه فمن أين يستمد القلم ألفاظه ويستقى كلماته؟
ساعات طوال: وأنا أراود قلبي على المعاني، وأحايل قلمى على الألفاظ، ولكن دون جدوى فصرت كما قال الخليل بن أحمد رحمه الله وقد سئل :
لم لا تقول الشعر ؟
فقال: الذي أرضاه لا يجيئني والذي يجيئني لا أرضاه.
هكذا كنت منذ الصبح حتى الآن إلى أن قلت لنفسى : وهل عليَّ من إصر لو تكلمت على سجيتى؛ فعسى أن أجد من القراء من يلتمس لي العذر في ضحالة يجدها في معنى أو ركة يصادفها في أسلوب ، لا سيما وقد قدمت بين يدي عجزى عذري .
في مثل هذا اليوم منذ خمس وعشرين سنة (1996/5/25) رماني الدهر بسهم نافذ أصاب من قلبي مقتلا، وفي من؟ في أعز إنسان لدي، وأغلى امرئ علي وأحب شخص لي؛ في قرة عيني ومهجة فؤادي ؛ في أمي رحمها الله تعالى.
وقت الأصيل وقبل أن تغرب شمس ذلك اليوم الحزين غربت شمس أمي رحمها الله وهي التي طالما أشرقت علينا بدفئها وحنانها .في هذا الوقت قبض ملك الموت وديعته في الأرض، ثم استودع الأسماع من ذكر أمي وتضحيتها اسما باقيا، ومحا عن الأبصار من شخصها رسما فانيا، فمضت رحمها الله لطيتها محفوفةً بالثناء مشيعةً بالنشيج والبكاء، بعد حياة حافلة بالعناء والتعب، والكد والنصب، والتضحيات التي لا يعادلها تضحيات، والعطاء الذي لاحد له :عنايةً بزوجها ، ومعونةً لبعلها ، ورعايةً وتربيةً لأولادها.
لكم عودتنا رياح الأصيل أن تكون نسماتٍ باردةً ونفحاتٍ عاطرةً تصافح صفحة الوجه فتقيه لهيب الحرارة ، وتلامس الوجدان بطيب المعاني فتبعث فيه الآمال والأماني ، ولكنها في ذلك اليوم جرت على غير عادتها وخالفت ديدنها، فكانت سموما هبت علينا بآلام عضال وهموم جسام.
لا أتخيل كيف عشت بدونك وكيف تحملت الحياة في غيابك؟ وأظن أنه لولا أن تداركتني رحمة من ربي لكنت منذ فقدتك ـ أماه ـ لِقًى (أي شيئا مهملا) على قارعة الطريق لا يستشعر الناس بأنفسهم حاجة للنظر إليه .
فيا لقسوة الأيام التي عشتها بعدك في غيبتك، ويالقسوة الذكريات حين تمر بشريطها على ذاكرتي فتستخرج منى أقاصي الندم على سنين عشتها في كنفك قصرت فيها في حقك. وما ندمي على شيء كندمي على آخر لحظة كلمتك فيها وكان ذلك قبل الوفاة بأيام( فجر الثلاثاء: 1996/5/19)حينما كنت أستعد للسفر للقاهرة لأداء امتحان، وسألتك وقتها : هل تريدين شيئا منى يا أمي فإني مسافر ؟فلم يكن إلا ما تعودته منك دائما: …سلامتَك، ثم همهمتِ بدعاء كان لي (دائما) الحصنَ الحصينَ والدرعَ الواقي من سهام الدهر، حتى جاء سهم نافذ فمزق عني ذلك الدرع بموتك أماه. هذا آخر كلام جرى بيني وبينها، فيا الله ….لو علمت ذلك لتمنيت أن تتوقف عقارب الساعة وتثبت الأفلاك في مداراتها؛ ضنا بهذه اللحظة أن تنتهي ولكن واااااااااااأسفاه :
ما كل ما يتمنى المرء يدركه
تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن
ما أعجب ما كانت علاقتي بك أماه: حين كنتُ لك ابنا وأخا وربما أبا في بعض الأحيان يخفف عنك همك ويُسَرِّى عنك حزنك ، وأعجب منها علاقتك بي: إذ كنتُ بين يديك صغيرًا كالكبير، أو كبيرًا كالصغير .فلم يمنعك صغري من أن تبثيني همومك وأحزانك (وأنا الأصغر) فأحاول التخفيف عنك بما يعينني عليه ربي؛ وكنت كبيرا كالصغير حين يهمنى أمر فأرتمى (وأنا الكبير) على صدرك أرتوي منه حنانا ودفئا وحبا لم أذق مثلهما مذ فقدتك.
والله لكم كنت أتمنى أن يطول بك العمر (أماه) حتى تدركيني زوجا يجعل لك من زوجته ابنةً لك لم تلديها وأبا يعلم أبناءه كيف يكون بر الأبناء بالآباء من خلالك ولكن؟؟؟؟؟ حسبي النية وكما قلت: ما كل ما يتمنى المرء يدركه
لا أكاد أتحمل تلك اللحظة الكئيبة التي فارقت الروح فيها الجسد، وأنا بجوارك لا أملك لك شيئا إلا الدعاء، وأتساءل وقتها متحيرا :أهكذا تنتهي علاقة الميت بالحي بعد طول لقاء ؟أهكذا يسكت اللسان وترتخي اليدان، وتشخص العينان؟ تالله ما أحقر دارا لا يدوم نعيمها ولا يستمر عطاؤها
فيا كل من له أب أو أم ممتَّع بحياتهما:
إن استطعت أن تجعل من خدك لهما وطاءً، ومن كفك لهما وسادا فافعل، فأنت في نعمة لا يحسها إلا من فقدها مثلي، وإلا فلتندمن أشد الندم على كل شيء حرمتَه بتقصيرك في حقهما وساعتها لا تلومن إلا نفسك. وقد بلغت فاللهم فاشهد