أدب

قَلب طِفل!

مناسك إبراهيم حسن (الطنطاوية)

يا بُني، جئتُك قاصدًا قلبك المتخبط المضطرب، المشتت بتفاهات المجتمع وسفائف الغايات. خذها مني واسمع… ما أودُّ قوله لك ليس قصةً تُحكى لتسلية السامعين، ولا رواية تُسطّر لتزجية أوقات الغافلين، ولكنها حكاية قلب طاهر، ونفثة روح لم ترضَ أن تذلَّ لغير خالقها، ولا أن تركع لغير بارئها.

لقد وُلد إبراهيم في بيتٍ من بيوت الوثنية، وأيُّ بيتٍ أتعس من بيت تمتلئ أركانه بالأصنام؟! أبوه ينحتها بيديه، ويعرضها في الأسواق كما تُعرض السلع الرخيصة، ثم يأتي الناس فيسجدون لها ويستغيثون بها، كأنها آلهة تضر وتنفع!

تأمل ذلك المشهد: صبي صغير، يفتح عينيه فيرى أباه صانعًا للأصنام، والناس عابدين لها، ثم ينظر إلى قلبه فلا يجده مطمئنًا. فأي قلب هذا الذي يسكنك يا إبراهيم؟ قلب أكبر من عمرك، وأصفى من دمعتك، وأصدق من نظراتك.

ثم رفع رأسه إلى السماء… فإذا كوكب يلمع في ظلمة الليل، فاهتز قلبه وقال: هذا ربّي. ولكن ما أسرع ما غاب، فتنفّس إبراهيم تنفّس العارف، وقال: لا أحب الآفلين.

وانتقل ببصره إلى القمر في بهائه، فأكبره وقال: هذا ربّي. فما لبث أن غاب، فهتف قائلاً: لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين.

وطلع النهار بالشمس، أكبر الكواكب وأعظمها سلطانًا، فقال: هذا ربّي، هذا أكبر. فلما أفلت، صاح: يا قوم، إني بريء مما تشركون، إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفًا وما أنا من المشركين.

هنا ارتفع الصبي إلى مقام النبوة، وبدد الشك بنور اليقين، وصار قلبه ملهمًا، وروحه موصولة بخالق السماوات والأرض.

واعلم يا بُني أن الإيمان ليس ميراثًا يتوارثه الأبناء عن الآباء كما يتوارثون المال والعقار، بل هو نور ينبثق من القلب بعد بحث وتفكر وتأمل. نتعلم أن الطفل الذي يُمنع من السؤال يُحرَم من اليقين، وأن العقل الذي يُساق بغير نظر إنما يُساق إلى هاوية الضلال.

أيها الآباء، اتركوا لأبنائكم فسحة يسألون فيها ويعجبون ويتأملون، ولا تقولوا لهم: “هكذا وجدنا آباءنا.” فإنها كلمة أضلت أقوامًا من قبل، فما أغنت عنهم شيئًا.

وعلّموهم أن يقولوا “لا” للباطل كما قالها إبراهيم. لا تُربّوهم على الطاعة العمياء، فإن الطاعة بلا بصيرة عجز، والعجز ضعف، والضعف مهانة. علّموهم أن يكونوا أحرارًا في نفوسهم، كرامًا في مواقفهم، فإن الرجل الحق لا يُعرف بقوة الجسد، ولكن بثبات القلب!

وتذكروا أن التربية ليست صراخًا ولا قسوة، ولكنها رفق وصبر وحكمة. إبراهيم لم يواجه قومه دفعةً واحدة، ولم يسبّهم أو يعنفهم، بل أخذهم خطوة خطوة، حتى أقام عليهم الحجة، وأبان لهم سبيل الحق. وهكذا يجب أن تكونوا مع أبنائكم: أقنعوهم بالحكمة، وافتحوا لهم أبواب الحق برويّة.

إن قصة إبراهيم ليست حكاية مضت وانقضت، بل درس خالد يتكرر في كل بيت. فإن رأيتم طفلًا يسأل عن ربه، أو يتأمل في نجمة لامعة أو قمر منير، فلا تضحكوا منه ولا تزجروه، ولكن قولوا له: “فتش يا بني، فإن الله يحب القلوب التي تبحث عنه.”

وإن رأيتموه وحيدًا بين أقرانه، قد دعوه إلى الباطل فأبى، فمدوا له أيديكم وقولوا له: “طوبى لك، فقد فعل إبراهيم مثل ما فعلت.”

فالإيمان ليس جدلًا عقيمًا ولا فلسفة جافة، ولكنه نور يتنزل على قلب صادق، وعقل مفكر، وروح متطلعة. وكفى أن ينشأ جيل حاذق واعٍ، يرفع رأسه إلى السماء ويقول:
“إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفًا وما أنا من المشركين.”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى