الفارابي في شارع 26 يوليو
توفيق أبو شومر | فلسطين
إنه عجوز نحيل الجسم يبلغ السبعين، يحمل فوق كتفيه حفيدته الصغيرة التي تتشبث برأسه، ويحمل في الوقت نفسه قفة من سعف النخيل على ظهره، مملوءة بربابات موسيقية، مصنوعة يدويا، من نصف علبة مشروب، مثبتة إلى خشبة في حجم المسطرة، وفوقها خيط من النايلون، ومعها قوس خشبي يصنع الألحان، كان صوت الربابة أكبر بكثير من حجمها الصغير، فقد كان لحنها طاغيا على أصوات الشارع المكتظ بالسيارات والمشاة.
كانت حفيدته الجميلة التي لا تتجاوز الثانية من عمرها تنام على كتفه، بفعل هذا اللحن المميز، الذي يصدر عن ربابة الفارابي، التي يُشاعُ في تراثنا العربي بأنها، أضحكت الحضور، ثم أنامتهم بعد ذلك !
ولم يكن شارع 26 يوليو بعيدا عن الأحداث الدامية في محيط وزارة الداخلية في ميدان التحرير، كما أن منظر الدبابات التي كانت تجوب ميدان الأوبرا، لم يمنع الفارابي من عزف ألحانه، وبيع ربابته الصغيرة جدا، والصادحة بقوة!
هكذا هي مصر دائما، فالأحداث لا تعوق مبدعيها الباحثين عن الرزق من إظهار إبداعاتهم وتفوقهم.
وبعد مائة متر تقريبا من هذا الفارابي المبدع، يقف مبدعٌ آخر يعرض اختراعا وسط ميدان العتبة، وهو عبارة عن قطع معدنية صغيرة تجعل من حبة البطاطس وردة جميلة مقطعة بعناية تفتح شهية الآكلين، وتسهل تقطيع البطاطس إلى شرائح متساوية!
نعم إن الشعوب لا تموت إذا عاشت بأملها ، وحوَّلت آلامها إلى أعمال، هكذا هي الشعوب التي تصرُّ على الحياة، عندما يشتدُّ ألمها، وتتواصل مآسيها، غير أن أمة العرب- للأسف- لم تستفد بعدُ من أشهر الحكم والأمثال انتشارا في العالم، وهي [ الحاجة أم الاختراع]، والتي أحسنتْ شعوبُ العالم المتقدمة من توظيفها واستغلالها لرفعة شعوبها.
كثيرون يزورون مصر، ويعودون وهم يحكون قصص البؤس والشقاء والألم والمأساة فقط لاغير، وكثيرون ينسون أيضا تراث المصريين المملوء بالحضارة والإنجازات، وينسون أن مصر هي أول من اخترع ورق البردى كأول وعاء لنقل الثقافة بين الأجيال، وأن أوزوريس المصرية، زوجة إيزيس علَّمت البشرية فن التمريض والعلاج وبشَّرت بالحضارة والصناعات والفنون بكل أنواعها.
نعم إن أكبر نكبات الشعوب في العالم العربي، تكمن في اغتيال الذاكرة التاريخية في عقول النشء الجديد.
حدث ذلك عندما تولى السلطةَ الحكامُ الديكتاتوريون العرب، وقاموا بأبشع جرائمهم فاغتالوا إنجازات وحضارة التاريخ والتراث والثقافة من عقول الشبابَ العربي، وجعلوهم يحيون فقط ليومهم، وصادروا تراثهم العابق بالتعددية والانفتاح وقبول الآخر والديمقراطية، ودفنوا هذا التراث في كهوف وقبور، وكانت غايتهم هي أن ينفردوا بالإنجازات، حتى ولو كان الثمن تدمير التراث وحجبه وإلغائه من مناهج التعليم!