لن أرسلَ إبني إلى المدرسة
جميلة شحادة | فلسطين
لقد وُجدت فكرة “المدرسة” منذ آلاف السنين، الا أنه في عام 1369ميلادي تحوّلت فكرة وجود المدرسة من مجرد فكرة، الى تطبيق عملي. حيث أنشئت في هذا العام أول مدرسة، وكان هدفها وضع الأولاد ذوي التصرفات السيئة فيها، كشكل من أشكال العقاب، وتعيين شخص راشد يقوم بمراقبتهم. أي أن الهدف من إنشائها لم يكن تعليم الأطفال أو الأفراد المهتمين بالعلم والمعرفة. غير أن وجود أفراد يثيرهم الفضول للمعرفة، ويعتبرون التعليم كالماء والهواء، لم يعبأوا بوجود أو عدم وجود مدرسة، بل دفعهم فضولهم لأن يسافروا من بلد إلى آخر، ليطلبوا العلم ويستزيدوا معرفة، بالرغم من مشقة السفر ومخاطره، والذي كان يستغرق في بعض الأحيان أشهرًا، وربما سنوات. أما عن المدرسة في الماضي البعيد فقد كانت عبارة عن مجالس أو حلقات دراسية تتكوّن من مجموعة من الطلاب يتجمّعون حول المعلم الذي كان يعمل على تدريسهم في منزله، أو في المسجد، أو في الكنيسة أو حتى تحت شجرة، ويقوم بتعليمهم القراءة والكتابة والحساب وحفظ القرآن بطريقة التلقين (الكتاتيب مثال على ذلك) والمحافظة على تراث المجتمع الثقافي وقيَمه، ونقله من جيلٍ إلى آخر.
أما اليوم، فقد أصبحت تُعتبر المدرسةُ مؤسسة تربوية، وتعليمية، واجتماعية، ويُفترض فيها أن تعمل (الى جانب الأسرة) على تنشئة الأبناء تنشئة صحيحة وذلك بتطوير وتنمية قدراتهم ومهاراتهم في شتى المجالات: الجسمية، والعقلية، والعاطفية، والاجتماعية. كذلك، عليها تنمية وتطوير قدرات الأبناء ومهاراتهم الإبداعية، ورعاية وتشجيع فضولهم للمعرفة، وزرع القيم الإنسانية في نفوسهم، وتوفير بيئة ومناخ يساهمان في دعم صحتهم النفسية بهدف بناء شخصيات متزنة ومتوازنة. إلا أنه في السنوات الأخيرة أصبحنا نسمع عن أولياء أمور لطلاب (ولو أنهم قلة وفي الغالب من المقتدرين ماديا)، يفضلون عدم إرسال أبنائهم الى المدرسة، ويطالبون بأن يُمنح لهم الخيار في ذلك (ودون مساءلة قانونية)، ليقوموا هم بتعليم أبنائهم، (ولعلهم بذلك يعودون الى زمن كان فيه الحكّام والسلاطين والأغنياء يُحضرون خيرة المعلمين والمربين لأبنائهم ليدرسوهم ويكسبوهم العلم والمعرفة والأدب).
هذه الفئة من أولياء الأمور تدّعي، بأنه ليس عبثا ما ينادون به ويطالبون، إذ يوجد لهم رأي وقناعات لذلك، منها:
- هم يدّعون أن بإمكانهم الحصول على أي معلومة يرغبون بأن يتعلمها أبناؤهم، وتعلُّم أي موضوع أو حتى مهارة، عن طريق الشبكة العنكبوتية (الانترنيت). وعندما وُجهّت لهم الأسئلة؛ ماذا بشأن الحصول على الشهادة؟ وماذا عن بناء علاقات اجتماعية، والدخول الى الجامعات والحصول على مهنة؟ قالوا بأن لا حاجة للشهادة، وبخاصة أن هناك كليات في معظم أنحاء العالم، أصبحت اليوم تستقبل أفرادا بدون شهادات ليتعلموا فيها ما يريدون تعلمّه. أولمْ يكن مُتبعا في الماضي أن من أراد أن يتعلم مهنة الحلاقة مثلا، يرسله والده لأمهر حلاق في البلدة ليتعلم هذه المهنة؟! أولم يكن هذا الأمر كذلك بالنسبة لبقية المهن؟! أما عن بناء علاقات اجتماعية، فقالوا: بإمكان الأبناء أن يبنوا علاقات اجتماعية من خلال اشتراكهم في الدورات التي يرغبون بها، أو من خلال نوادٍ هم أعضاء فيها، وأيضا من خلال تعاملهم اليومي مع البقال، والجيران والإخوة والأقرباء والأصدقاء وغيرهم.
- هم يدّعون بأن المدرسة في هذه الأيام لا تربي للقيَم، ولم يعد المربي قدوة لطلابه كما كان سابقا. فهناك تناقض بين ما يتلقاه الطلاب من قيم على يد مربيهم وما يشاهدونه من أفعال تظهر عكس ذلك. فمثلا، كيف توفّر المدرسة المناخ المناسب الذي يشجع الطالب على ممارسة حقه الديمقراطي، وهو يرى معلمه مقموعًا من قبل رؤسائه؟! وكيف تربي المدرسة طلابها على النزاهة وهم يعرفون أن معلميهم وإدارات مدارسهم غير نزيهين في تقييماتهم ومنح العلامات لطلابهم؟! هم يفعلون ذلك إرضاءً لرؤسائهم في العمل ولأولياء الأمور ذوي النفوذ. ثم كيف تربي المدرسة طلابها على الاعتزاز بالنفس وهم يروْن معلميهم مهانين من قبل أهاليهم ومن رؤسائهم؟!
- هم يدّعون بأن المدرسة في هذه الأيام تقتل الإبداع عند أبنائهم، وتسيْ الى حالتهم النفسية نتيجة لكثرة التقييمات وخلق تنافسات غير نزيهة بين الطلاب وبين المعلمين أنفسهم. ” لم أستطع ان أتمالك نفسي، بدأت إحدى الأمهات (وهي معلمة للصف السادس) حديثها معي وتابعت: “انهمرت دموعي تأثرًا وحزنًا على ابني، فقد عاد يحمل شهادة نهاية الفصل ولم يحصل على شهادة تفوق من المدرسة، فقد كانت الشهادة من نصيب زميله لتفوقه على ابني بفارق 3 أعشار العلامة. لقد تحدثتُ مع ابني وأخبرته بمدى إعجابي به ورضائي عن إنجازته ومحبتي له، الا انني لم أنجح بالتخفيف من ألمه النفسي عندما شاهد صور زملائه مع شهادات التقدير منشورة على صفحة الفيس بوك الخاصة بمدرسته. لماذا يجب أن تكون مثل هذه الشهادات؟ وتابعت الأم قائلة: أنا لا تهمني كل الإحصائيات التي تقوم بها المدرسة، انتِ تعلمين انه يقال عن علم الإحصاء بأنه “علم الكذب”؛ وعندما تهتم المدرسة بالإحصائيات وببرمجيات محوسبة للتوثيق، ويكون هذا محور عملها، فهذا يعني أنها تهتم بأن تكون كل أوراقها سليمة أمام المسؤولين وعلى حساب أمور أهم للطالب والمعلم. أصبحت المدارس مصنعا للعلامات وكلنا يعرف ذلك، وأول من يطالب بذلك هم المسؤولون في وزارة التربية بالرغم من أنهم جميعا يتشدقون بالتربية للقيم والتربية ذي معنى. في وضع كهذا وبيئة كهذه لا يمكن أن يكون المعلم مبدعًا ولا الطالب مبدعًا، إذ لا وقت لذلك، فالجميع مشغول بالتقييمات وحساب المعدلات بالأعشار ومنح شهادات التفوّق والتصوير ونشر الصور عبر الفيس بوك الخاص بالمدرسة”. ثم ختمت الأم كلامها قائلة: إذا كان هذا هو الوضع في معظم مدارسنا، فالأفضل أن لا أرسل ابني الى المدرسة. لماذا أساهم في إيذاء أبني في الوقت الذي بإمكان الانترنيت وأنا، تعليمه.
ربما صدقت هذه الأم وغيرها ممن يرون أن المدرسة تقتل الإبداع، لكن الحل ليس بعدم إرسال الأبناء الى المدرسة، وإنما بإجراء الإصلاحات اللازمة في جهاز التربية والتعليم، وبإحداث التغيير على مناهج وأساليب التدريس، وأيضًا إحداث التغيير في متطلباتنا من أبنائنا.