محنة الأقدام الكاذبة
عرض وقراءة: د. أمل سلمان حسان | أكاديمية من العراق
عن دار نصوص للطباعة والنشر في بغداد لعام ٢٠٢٠ ،صدر للمفكّر والناقد العراقي ،جمال جاسم أمين ،كتابه الجديدالمعنون ب “محنة الأقدام الكاذبة ” بلغ عدد صفحاته ١٥٨صفحة من الحجم المتوسط ، وهو عبارة عن حزمة تنبيهات واخزة وصادمة في السوسيولوجيا العراقية سياسيا واقتصاديا ودينيا واجتماعيا ، و ينتظم تحت أفق وتنظيرات مشروع البديل الثقافي الذي طرحه الأستاذ جمال منذ عام ٢٠٠٥ ،الذي يطرح فيه فكرة “استبدال التالف من خطابنا الثقافي بخطاب بديل أكثر جدوى ونفعا، فكل ثقافة لا تقدم بدائلها باستمرار ولا تجترح أفقا عابرا للسائد هي مزاولة ثقافية وليست ثقافة ” ويستكمل فيه مؤلفاته الأخرى التي جاءت تحت خيمة مشروعه هذا وهي، (مقهى سقراط ، مراحل تدمير المعنى /والأزمة المفتوحة ، مَفهّمة الدولة وكشف الأنساق/وأساطير الاستبداد).
يقوم هذا الكتاب على ركيزتين اساسيتين، الأوّلى، تفكيك فكرةالتمسك بالعقائد والأديان واقحامهما في حياة المرء بطريقة متعسفة. والثانية، تجاهل دور العلم والعقل أمام تقدم الخرافة والأسطرة. زيادة على عدد من الرؤى والأفكار سنأتي على تفصيلاتها .
فخطورة المحنة ، تقتضي منا مراجعة بعض الثوابت وإجراء مكاشفاتعقلانية حادة باستعادة التأريخ السياسي والاجتماعي العراقي وتتبع الخطى الحثيثة لتصاعد إيقاع الإسلام السياسي وتأثيره الكبير على الحياة العربية بشكل عام والعراقية تحديدا ،فعلى الأقدام أن تكون حقيقية في التصدي لمنعطفات الطريق ووعورته وأن لاتكون كاذبة، فنبقى نعيش في الزيف والخديعة .الأمر الذي يتطلب الوقوف إزاء تحديات ثقافية ومعرفية مصيرية وجريئة ، ويمضي المؤلف في نقد الخطاب الاستبدادي ونقد هيمنة الخطاب الديني بكل صوره وتمظهراته مشخصا الاضرار التي يدفع المجتمع ثمنها كل يوم ومنتصرا لقيم العدالة الاجتماعية التي توجد متى ما نهضنا بالإنسان متبنيا مصطلح الأنسنة، بوصفه الخطوة الوحيدةالتي لابد منها لاستعادة العقل وتثبيت الأقدام على سكة العلم السالكة والمستقيمة لا سكة الخرافة المعوجة / ص ٣٧
فمن الذي يضع الأقدام على طريقها الصحيح ؟ إنّه المفكر المقاوم أو التنويري ،الذي يقف بالضد من مثقف الأزمة ؛ فهوناقد تشكّل فكرة التحول مادة أساسية في إشتغالاته النقدية ، وما هو بكاتب ملهاة ولا رائد سياحات ثقافية بين المناهج إنما هو صانع رسالة قبل اي شيء آخر تقع عليه مهمه تزويد الجماعات بالقيادة المعنوية والسياسية والبيداغوجية /ص ١٤ وعمله يمكن أن يندرج تحت ما يسمى بالنقد التحولي، ولقد لحظنا كيف تستميت الأنظمة الشمولية من أجل الوطن وتترك المواطن يجوع ويعرى ” ص١٥
ويوضح سبل الأرتقاء بالإنسان والأخذ بيده للخروج من ظلامية الخرافة إلى نورانية العلم والمعرفة ، محددا بعض سمات الإنسان الذي تربى على الخرافة ، فهو إنسان يسهل خداعه، ويسهل استخدامه ضد مصالحه الحقيقية خدمة للايدلوجيا التي تستعمله ” وفي العراق اليوم كما في سائر دول الأيدلوجياتالدينية شرائح واسعة من هذا النمط المستعد للاستغفال والخداع ، هؤلاء هم مادة الديمقراطية الأصولية التي زوّقها الاحتلال زورا وبهتانا ، اصوات جاهزة تكرر انتخاب من سرقها ! ” ص٢٠
ويقف المؤلف على ، قضايا حيوية محاولا استبدال النظر إليها بوصفها مقدسات ، فمثلا التأريخ الذي بني على الروايات هو تأريخ يحتاج إعادة فحص وتوثيق يقول ” يبدو اليوم أن المسالة أصبحت اعقد مما نظن فبعد توالي الحقب التأريخيةالطويلة التي تفصلنا عن زمن المرويات واشتغال فواعل الاحتراب السياسي المقنع بمرويات الدين ،تضعنا إزاء كم من المقولات التي لا يمكن فحص صلاحيتها إلا بمعالجتها عقليا بمعنى أن ثمة مشكلة اسمها (التأريخ) المتراكم الذي إلتبست ظروف إنتاجه وروايته ، ص ٣٣ .
ويتعرض لمسألة العمل بديلا عن الارتزاق، فعندما نريد لعصرالإنسان أن يبدأ بعد رحلة الخلاص من خدر اليوتوبيا لابد ان تتقدم فكرة العمل بوصفها السبيل الأمثل لبناء الحياة الإنسانية، والعمل المنشود هو المبادرة واستثمار الوقت والطاقات بدلا من الانتظارات التي لا تجدي ص٤٥ ، فسمة هدر الوقت أصبحت من العلامات الفارقة للمجتمعات التي تسود فيها ثقافة الكهنوت وتظهر عبر مظاهر شتى من بينها كثرة المناسبات الدينية والسياسية الموسمية والسنوية التي يتعطل فيها العمل على كل الأصعدة الرسمية والشعبية، ومن هنا تبدأ بطالة المجتمعات ،كما يتكاسل الفرد بانتظار ما لا يحتسب، الكسب بلا جهد، هو ما يسمى بالارتزاق؛ لأن للعمل منظومة قيم نبيلة لا تتوفر في الإرتزاقالذي يقع دلاليا بمرتبة النهب أو الحيلة ، هذا الوصف يمكن سحبه على الجنود غير الشرعيين الذين لا يقاتلون عن قناعة ما بل مقابل ثمن يتلقونه،” هذا النوع من البشر مسخ غير قادر على العمل النبيل ، العمل الاقتصادي المنتج الذي يخدم الحياة ” ص٤٨، فنرى اليوم شرائح من الشباب انخرطوا في خرافة السياسة للعمل في ورش عاطلة عن اي نتاج هولاء أطلق عليهم المؤلف ب صبيان الاحتلال .ووضح صفاتهم وتاثيراتهم على المجتمع وانعكاسات ذلك على توقف عجلة العمل النبيل المثمر .
ويذهب المؤلف بعيدا في تشخيص هذه الأمراض المجتمعية فيقف عند أزمة المكونات، فيقرر ” أن أزمة المكونات لم تكن هي السبب في التكارهوالاحتراب، فهناك الكثير من المجتمعات التي تتمتع بالتقدم والرفاه فيها من عدد المكونات والأعراق ما يفوق عدد مكوناتنا ،إذن هناك ما يسميه بـ(غاطس أزمة) سياسي مخابراتي في أغلبه ص٥٩ تمتد سفوحه إلى قوى أقليمية وعالمية هو الذي يتحكم عن بعد وأحيانا عن قرب بوساطة أذرع صبيان الاحتلال أو الواجهات الغامضة التي تأخذ صورة مصارف أهلية ومنظمات ثقافية وشركات سفر أحيانا ومدارس دينية وجامعات .
ويعرض أمين ، عددا من المشاريع الثقافية والفكرية والمشروع المقصود هنا في نظر المؤلف هو ،”تلك الكتابة المصحوبة بأفق إجراءات وأنشطة عملية تصل إلى حد النضال الاجتماعي والثقافي من أجل رسالة مغايرة يتبناها صاحب الكتاب والمدونة وهنا تخرج التآليف الأكاديمية والمدونات الأدبية الجمالية الصرف من خانة المشروع المقصود تبنيه “، فيقف أمين على بعض هذه المشاريع ومنها:
مشروع علي الوردي الذي انصب على تفكيك ثلاث عقد عراقية ص٧٥ والمشروع الفكري والإنساني للمفكرالعراقي إدريس طه حسين ، الذي تبنى مفهوم الأنسنة، ونحت مفهوم (التصدي) الذي ينبع من المسؤولية الفردية ، فالإنسان هو المسؤول عن نفسه ص٩٧ ومشروع البديل الثقافي ، الانتباهة المبكرة في مشهد كسول ! و الذي يعد مؤلف محنة الأقدام الكاذبة ،هو صاحبه الذي تبناه وما زال يناضل من أجلهكي يرى النور في هذا الظلام الدامس ص٨٠ ويقف معه طويلا في خاتمة هذا الكتاب شارحا آلياته وطموحاته مشخصا المشكلات التي يعاني منها المجتمع العراقي وواضعا لها الحلول ص ١٠٥ _ ١٤٨ / ومشروع د.ميثم الحلو الذي طرحه في كتابه (لمن يجرؤ على العقلانية، قراءة بديلة في الطريق نحو دين إنساني )ص٨٣ ومشروع القاص والروائي سعد محمد رحيم ، في كتابه (المثقف الذي يدس أنفه ) ، والذي خرج فيه من معطفه الجمالي الأدبي ليكشف ملامح المثقف النقدي الذي يصلح أن يكون فاعلا في صناعة التحولات المجتمعية والثقافية ص٩٠ ومشروع الناقد الدكتور ، فوزي منصور في كتابه (خروج العرب من التأريخ)، الذي وضح فيه ظروف خروج العرب من التأريخ ، إذ تراهم يتحركون في التيه تتساوى الطرق؛ لأنها جميعا لا تؤدي إلى شيء فهم يتحركون لتغيير السلطات لكن لا أحد يفكر بتغيير المجتمعات ، والتأريخ قد يصبر على قوم في هزائمهم وقد يمد يده لمن تخلف عن الركب ، لكنه لا يتسامح ولا يمد يده لمن يدير ظهره له ، وذلك تحديدا ما فعله العرب ص٩٤
ويختم المؤلف بعد هذه السياحة الفكرية الماتعة في مناخات هذه المشاريع بالوقوف عند أزمة العراق ومستقبله واضعا الأسباب والمسببات والحلول للخروج من هذه المتاهة التي فرضتها الأنظمة الحاكمة بأسلوب مائز مغاير حمل سمات الفكر العميق والشعر العذب واكتنز بالمعارف الثقافيةوالتأريخية والإنسانية، وما هذه المراجعة إلا إلقاء بعض الضوء على ما اكتنزه هذا الكتاب .