لغتنا الجميلة بين القداسة ومتطلبات الحداثة
نهاد أبو غوش | فلسطين
اللوحة للفنانة العراقية| يسرى كماله
اللغة العربية جميلة من دون شك، بحروفها الواسعة المتنوعة، وبموسيقى كلماتها، وبإيقاعها، وبالحركات التي يستعاض عنها بحروف مستقلة في لغات أخرى، وبدرجات المعنى التي تعطيك مترادفات لا حصر لها. وهي جميلة كذلك بخطوطها وأشكال رسم كلماتها وحروفها، وجميلة في قواعدها والمنطق الذي يحكمها، وفي بلاغتها وبيانها وبديعها وعروض شعرها، وفي نحوها وصرفها والنصوص الادبية والدينية والحضارية التي كتبت بها وما زالت متداولة منذ الف وخمسمئة عام على أغلب التقديرات.
واللغة ليست مجرد وسيلة اتصال وتواصل، بل هي رافعة وحاملة للهوية الوطنية، ووعاء للسمات والخصائص الثقافية والحضارية لأي شعب من الشعوب. يستشعر هذه الميزة كل شعب عانى من الاستعمار وتعرضت هويته الوطنية للتهديد، وكل شعوبنا العربية تعرضت للاستعمار باشكاله التقليدية والحديثة، بينما اختص الشعب الفلسطيني بنمط فريد من الاستعمار الاستيطاني الذي سعى لاقتلاع الناس من ارضهم وتشريدهم، وإلى طمس هويتهم الوطنية، وفصم ارتباط من بقي منهم على أرضع بثقافته وهويته وأمته ولغته.
ما دام الحال كذلك، لماذا يعاني الناطقون بالعربية من عقد النقص، فيطعّمون كلامهم وكل جملة من جملهم بكلمات ومصطلحات أجنبية. ولا يكاد يخلو برنامج حواري في التلفزيون والإذاعات سواء كان حول الطب والهندسة او حول الموضة والأزياء والمطبخ، مرورا بالرياضة والعلوم الإنسانية من استخدام مصطلحات أجنبية موجهة لجمهور يتحدث بالعربية. والأخطر هو ما يسود مساقات التعليم الجامعي وورش التدريب والتخطيط والبرمجة، حتى يخال المتحدثون والسامعون انه لا توجد بدائل عربية لهذه الكلمات الملفوظة والتي تكون احيانا كلمات عادية جدا لها بدائل شائعة ومعروفة مثل مصطلحات الحاسوب والبرمجيات، ومعظم المصطلحات الطبية التي يستخدمها طبيب الأسرة ويوجهها للأمهات وربات البيوت.
ربما يكون الشعور بدونية اللغة امتدادا للشعور بدونية الناطقين بها اي دونية الأمة والشعب، وهذا أمر مفهوم في بلاد تستورد كل احتياجاتها من الخارج وتكتفي بإنتاج المواد الخام وتوفير العمالة الرخيصة، ويسري ذلك على بعض المتعلمين في جامعات أجنبية، والمبهورين بحضارة الغرب ( ربما لا ينسحب ذلك على لغات كاليابانية والصينية لأن هذه البلدان كانت بعيدة عنا وعن استعمارنا) ، وقد سبق للعلامة العربي التونسي ابن خلدون أن شخّص هذه الحالة حين تحدث عن ميل المغلوب لتقليد الغالب في سلوكه وطباعه، ولا بد أن نشير هنا إلى أن تفوق لغة على اخرى لا يعود إلى طبيعة هذه اللغة، بل إلى المستوى الحضاري والثقافي لمستخدميها، ولا ننسى أن اللغة العربية كانت لغة العلم والثقافة عالميا في مراحل ازدهار الحضارة العربية سواء في بغداد العباسيين او في قرطبة الاندلسية التي كانت عاصمة العالم الثقافية خلال عقود وقرون في مطلع الألفية الثانية، وفيها أهم الجامعات ومراكز العلم التي يؤمها أبناء الأمراء والنبلاء من كل أنحاء اوروبا .
يعود جزء من مشكلة عدم مواكبة اللغة العربية للتطورات، وقدرتها على استيعاب المصطلحات الحديثة، إلى نظامها الصرفي الجامد الذي لا يتيح اشتقاقات وأوزانا جديدة للمفردات غير تلك التي وردت في القرآن والحديث والشعر الجاهلي. ولعل ذلك يعود إلى هيمنة أوساط رجعية محافظة على مجامع اللغة العربية، ما تزال تصرّ في طريقة عملها على أن اللغة العربية هي لغة مقدسة ويمنع الاقتراب من أنظمتها النحوية والصرفية، فهي ليست حسب اعتقادهم لغة القرآن فحسب، بل هي لغة أهل الجنة، واللغة التي تحدث بها آدم وحواء، ويظن البعض أن القرآن “قديم” خلقه الله يوم خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش، وبالتالي فإن كل ما ورد في القرآن من عقيدة وتشريع وأحكام للعبادات والمعاملات، وقصص، خلقت قبل وقوعها بآلاف السنين، وفي ذلك يخالف هؤلاء “العلماء الأجلاء” كل علوم المنطق واللغة والتاريخ والعلوم الإنسانية والاجتماعية، حيث يسهل على اي متابع او مهتم أن يلحظ الفروق الجوهرية التي طرأت على اللغة العربية بين مطلع القرن الماضي ومطلع القرن الحالي من خلال مراجعة صحف كل فترة وأشعارها على سبيل المثال، ثم مقارنة ذلك بنصوص وصلتنا من عصور سابقة ومتلاحقة وصولا إلى نصوص الشعر الجاهلي وشعر صدر الإسلام الذي يبدو لأبناء اليوم اشبه بالطلاسم، حتى أن كثيرا من آيات القرآن التي يحفظها الناس لا يدركون معانيها إلا بالعودة للتفاسير التي لا تقدم في العادة جوابا حاسما على تساؤلاتهم.
تملك كثير من اللغات الأجنبية قدرة فائقة على استيعاب المصطلحات الحديثة من خلال وسائل عديدة من بينها ما يعرف بالبادئة ( Prefex) أو الخاتمة أو اللاحقة ( suffex)، وهكذا يمكن أن تنحت اللغة عشرات الكلمات مثل مؤيد للفلسطينيين propalestinians، معاداة الساميةantisemetism ، رهاب ( phobia ) من شيء معين، والحياة والعلوم الاجتماعية والطبيعية تطلق كل عام مئات بل آلاف الكلمات الجديدة، التي تحتاج إلى مرونة في الاشتقاق.
من الملاحظ أن اللغة العبرية التي أعيد إحياؤها مطلع القرن العشرين بعد أن كانت محنطة لقرون طويلة، واقتصر استخدامها على الصلوات والكتب الدينية وبعض الكتب الأدبية، باتت الآن قادرة على استيعاب لغة الحواسيب والتقنية، بينما مجامع اللغة العربية تتحكم بها عقليات محافظة تصر على اختراع كلمات من نوع “مرناة” للتلفزيون، وخيالة للسينما، وهي كلمات لا يأخذها الناس بجدية بل تثير سخريتهم وتهكمهم كما هو حال المصطلح العجيب الذي لا أعرف هل هو حقيقة أم نكتة وهو عبارة “شاطر ومشطور وبينهما كامخ” للدلالة على الساندويش أو الشطيرة.
باختصار نحتاج إلى ثورة علمية ولغوية ومعرفية وإلا فإن لغتنا ستنقرض وتتحول كما كانت العبرية القديمة : لغة صلوات وتراتيل وكتب أدبية قديمة