سُنَّة التفقد (٤)
رضا راشد | الأزهر الشريف
الحكمة العالية للشريعة الربانية
قال صلى الله عليه وسلم :”لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا “.
هكذا حدد الشرع الحنيف مدة الإحداد تحديدا يحترز عن الإبهام، ويستعصي على الغموض، بما يقطع الطريق على ظنون التهاون أو التساهل أو التعجيز..وكيف قد حددها باليوم (أربعة أشهر وعشرة أيام وليس مثلا أربعة أشهر ونصف أو خمسة أشهر )..مما يدلنا على أن ثمة حكمة إلهية وراء هذا التحديد لم يكشف عنها الستار كاملا بعد للعقل البشري.
فإن_ قيل – كما قال أخونا عبد الله راتب النفاخ- : كيف لامرأة – طبعت يوم طبعت على ضعف القلب ورقة الإحساس وقوة العاطفة- أن تكف حزنها على موت حبيب من أب أو أم أو أخ أو أخت أو ما شئت – عدا الزوج- وهو الذي لم يجف ماؤه في قبره بعدُ؟ إن ثلاث ليال لا تكفى لامرأة- مهما بلغت قساوة قلبها- لانقطاع حزنهاعلى من مات من أحبتها . وإذن فالتكليف بذلك ربما يكون ثقيلا؟
قلت: إنما باعتراضك هذا قد فهمت الأمر على غير حقيقته من وجوه عدة أهمها:
أولا: أن الذي خلقها هو من أمرها، وحينئذ فلا يخلو الأمر من احتمالين: أحدهما أن يكون الأمر متسقا مع قدرات المخلوق، وهذا هو مقتضى الحكمة والرحمة، وبه يسقط اعتراضك.
ثانيا: أن يكون الأمر على خلاف مقتضى الخلق، وهذا هو عين السفه والعبث، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ..فإذا انتفى الوجه الثاني تعين الوجه الأول، فسقط بذلك استنكارك وتقوض بذلك بنيان اعتراضك.
ثالثا :هلا تنبهت -أخي الحبيب – قبل إبداء اعتراضك أنه صادف محلا غير محله؛ لأن الشرع الحنيف إنما نهى المرأة عن الاستعلان بالحزن (بلبس السواد -من حيث كان مظهرا للحزن-وترك التطيب والتزين والاكتحال) وليس عن الحزن الكامن في القلب.
رابعا: إنك نظرت للحديث بغير العين التي كان ينبغي عليك أن تنظر بها إليه ، أعنى حسن الظن، كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ” إذا حدَّثتُكُم عن رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ حديثًا ، فظنُّوا بِهِ الَّذي هوَ أَهْناهُ ، وأَهْداهُ ، وأتقاهُ”.. فرأيتَ في التكليف عنتا ومشقة، دون أن ترى فيه معونة للمرأة على التغلب على حزنها واستئناف حركة الحياة في الأرض قياما بمهمة الاستخلاف التى ناطها الله عز وجل بأعناق بني آدم .
وذلك أنه مما اتفق عليه العقلاء وأطبق عليه الفقهاء أن هناك تلازما بين الظاهر والباطن، وأن تأثيرا متبادلا كائن بينهما: فالباطن يؤثر في الظاهر من حيث كان مستحيلا على الحزين القلب أن يتكلف السرور ظاهرا، وعلى المسرور قلبه أن يتكلف الحزن في وجهه، من غير أن يبدو ذلك للعامة قبل الخاصة وللصغار قبل الكبار=والظاهر يؤثر في الباطن ، ومن هنا كانت اللحية من شعائر الإسلام كما أن ما يلبسه الإنسان يؤثر في سلوكه .
فإذا تقرر هذا:
فإنَّ مَنْعَ الإسلامِ المرأةَ عن التمادي بمظاهر الحزن (بلبس السواد، وترك التطيب والاكتحال)- معونةٌ لها على التخلى عن حزن القلب رويدا رويدا، والتلهي عن الميت شيئا فشيئا حتى ينتهي الأمر بها إلى السلو والنسيان. وهذا النسيان ليس جحودا من الحي للميت ولا إنكارا لفضله، بل هو نعمة من الله تعالى؛ رحمة منه سبحانه بالحي؛ وضرورة لأن يستأنف الحي مهمته في الحياة، حيث لا يجوز أن تتوقف عجلتها حزنا على موت فلان مهما كان شأنه. وإلا لتوقفت الحياة حزنا على موت البشير النذير محمد صلى الله عليه وسلم . فكان من حرص الإسلام على إعانة المرأة على ألا يطول على غير زوج حزنها -أن منعها من أن تستعلن بمظاهر الحزن فوق ثلاث ليال.
واستشهادا على أن المرء يحزن إذا ما عاش أجواء الحزن ويسلو إذا كان في غيرها =ما حدث معي شخصيا إبان وفاة أمي رحمها الله تعالى، حيث كنت في عطلة من الجيش ثم سافرت بعد يومين أو ثلاثة إلى الوحدة العسكرية فكان أن سلوت الحزن بمقامي بين إخوانى الجنود، فلما عدت إلى البيت بعد عشرة أيام تقريبا ورأيت النساء من أخواتي وغيرهن يتشحن بالسواد(حيث لا التزام بالشرع الحنيف) عاد الحزن إلى قلبي كيوم وفاة أمي وكأنها دفنت لساعتها ..وما السلو من قبل ثم عودة الحزن من بعد إلا تأثر بالبيئة المحيطة بي خلوا من مظاهر الحزن أو حضورا لمظاهره.
إن الله استخلف الإنسان في الأرض ليعمرها، ومن لوازم الاستخلاف أن الحياة على الأرض تدور بين أرحام تدفع وأرض تبلع ،أطفال يولدون وشيوخ يقبرون ..فكان الموت سنة كونية في الأرض وفي الموت فراق أبدي لا لقاء بعده إلا يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه. فلو ترك الحي نفسه نهبا للتفكير في من مات من أحبته لذهبت نفوسهم عليهم حسرات وذاب قلبه كمدا ..وفي ذلك توقف لمسيرة الحياة، فكان من الضروري نسيان الحي لميته نسيانا يعينه يرحمه أولا ثم يعينه على استئناف حركة الحياة ثانيا .
أفرأيتم ما في تشريع الله عز وحل من حكمة عشيت عنها عيوننا الكليلة وأبصارنا الحسيرة ؟! علما بأن هذا فقط هو ما تجلى الله به على فهم واحد من خلقه فكيف بما كان منهم جميعا ؟فكيف بما سيكون من فهوم حتى يرث الله الأرض ومن عليها ..وسيظل كل ما اكتشفه البشر من أسرار التشريع إلى الحقيقة الكاملة كذرة في فلاة أو كقطرة من يم لنبوء على أنفسنا بالعجز قائلين :”سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم