كيف نصنع أبناءنا ؟

هدى مصطفى محمد |أستاذ المناهج وطرق التدريس- كلية التربية بسوهاج

وردت مادة صنع في السياق القرآني عند الحديث عن سيدنا موسى عليه السلام  واحدة بمعنى الاصطفاء والاختصاص “وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي” (طه / 41) والثانية بمعنى التربية والتعهد  “وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي “(طه / 39)

وللصناعة خطوات هي : اختيار المدخلات ، وتحديد العمليات ، ثم الوصول إلى المنتج. ويحلو للبعض أن تبدأ الصناعة بتحديد المخرجات (المنتج) فهو الذي يحدد كيفية اختيار المدخلات وتحديد العمليات المناسبة.

فعلى سبيل المثال: أن تختار توجيه أحد الأبناء لدراسة الطب فأنت بدأت بتحديد المنتج (طبيب) فيأتي اختيارك المدخلات باختيار الابن المتميز علمياً فلا تختار من بين أبنائك من لا يهوى الدراسة العلمية، أو من تلمس فيه الميول الفنية لتعده أو تحفزه لدراسة الطب. وبعدها تبدأ في وضع الآليات والعمليات التي تساعد في تحقيق ما تبغيه من منتج ، فأنت بذلك تصنع من ابنك طبيبًا.

ولكي ننجح في صنع الأبناء يصح أن نسير وفق الخطوات التالية :

أولاً: اختيار الأسرة (المدخلات): فاختيار الزوج الصالح والزوجة الصالحة أول المقومات للصناعة المتميزة للأبناء. وقد وضع الإسلام أسسها في اختيار الزوج فقال صلى الله عليه وسلم “إذا جاءكم من ترضون دينه فزوجوه ” وقال في اختيار الزوجة ” فاظفر بذات الدين تربت يداك ” وبذلك حكم الإسلام أسس ودعامة المصنع بالدين.

ثانيا: العمليات: وهي تتمثل في عمليات التربية والتنشئة الصالحة وفق القيم والمبادئ الدينية الصحيحة بلا تطرف، فيكون الاعتدال في التربية بما يحقق التوازن النفسي لتخرج للمجتمع شخصية سوية، ويأتي ضمن العمليات التعليم.  فالتربية لا تنفصل عن التعليم الذي يتم في مؤسساته في طور جاهزية هذا الإنسان؛ ليصبح منتَجَا.

فالعلم أساس العمل في كل المجالات ولعل التعليم الذي نعنيه هنا لنضمن تمام العمليات وسلامتها يجب أن يهتم بالجوانب النظرية والتطبيقية على حد سواء. فدراسة الطب مثلاً تتطلب جانباً نظرياُ وآخر تطبيقي، وكذلك الحال دراسة الهندسة والتربية والفنون، فالاجتهاد في الجانب التطبيقي يؤتي ثماره التي قد تفوق المتوقع وتصل إلى حد الإبداع لدى البعض.

ولكي ينجح الإنسان فيما هو مكلف به يجب أن يكتسب كل هذه العمليات في ظروف وأجواء مناسبة أو ما يقال عنه بيئة تعليمية مناسبة ، وبنفس راضية محبة لما يتعلمه؛ فيستمتع لحد الاندماج مع ما يتعلمه بما يحقق له بهجة التعلم.

ثالثاً: المنتج: وهو الشخصية النهائية ومحصلة ما سبق من مدخلات وعمليات فنكون قد صنعنا الطبيب الحاذق ، والرسام الماهر أو المحامي العبقري . 

وهنا نلفت الانتباه أن الصنع يطلق على العمل المتقن في الخير، وإذا أريد به غير ذلك وجب تقييده على أنه قليل أو للتهكم مثلاً ، ولذلك يصح أن نطلق على بيوتنا مصانع إذا نجحنا في توفير مقومات صنع الإنسان الصالح فتكون هي الحصن المنيع لحماية الأبناء من كل شر وتزويدهم بكل خير.

وقد عرض د/ منيف حمود في مقالة تحت عنوان “صناعة الإنسان في آية” أن صناعة الإنسان جاءت في قوله تعالى : ” أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ ۚ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي ﴿٣٩﴾ إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ مَنْ يَكْفُلُهُ ۖ فَرَجَعْنَاكَ إِلَىٰ أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ ۚ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا ۚ فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَىٰ قَدَرٍ يَا مُوسَىٰ ﴿٤٠﴾ وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ﴿٤١﴾ اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي ﴿٤٢﴾  ” (سورة طه 39 – 42)

وحددها في خطوات وهي  :

  • المحبة : (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي).
  • الكفالة : (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ مَنْ يَكْفُلُهُ).
  • الاهتمام ببيئة المورد البشري: (فَرَجَعْنَاكَ إِلَىٰ أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ).
  • الحماية :  (وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ).
  • الاهتمام على الأمد البعيد: (فَلَبِثْتَ سِنِين فِي أَهْلِ مَدْيَنَ)
  • الانتقال من الرعاية الجزئية إلى الرعاية الكلية:  (وَلِتُصْنَع عَلَىٰ عَيْنِي) ، (وَاصْطَنَعْتُك لِنَفْسِي).
  • التمكين:  (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي).

ونلاحظ في الخطوات السابقة تناسقاً وتدرجاً يتناسب ومتطلبات كل مرحلة عمرية، فبينما كان سيدنا موسى عليه السلام ضعيفاً لا يملك لنفسه مقومات الحياة فألقى الله عليه محبة من عنده ليكون محبوباً ويقع هذا الحب في قلب عدوه فينجو من الموت ، وتسير به الحياة برعاية الله وحمايته حتى يصل لدرجة التمكين ليبدأ فيما أعده الله له وهو تبليغ الرسالة لفرعون وقومه وهذا هو المبتغى النهائي ( المنتج ).

وإذا كان الإنسان خلق الله في الكون؛ فإنه سبحانه وتعالى أتاح لنا الإشراف على صنع هذا المخلوق بشكل متقن، وأرشدنا جل وعلا إلى خطوات وآليات لصناعته أو تجهيز المصنع المعد لهذا الغرض، فعلينا أن نتأمل ونتدبر ونجتهد لنجعل من بيوتنا مصانع قوية تخرج لمجتمعنا منتجات ومصنوعات نفخر ونباهي أنها تتواءم وخلق الله للإنسان الذي كرمه على كل المخلوقات .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى