قراءة في ومضة شعرية للكاتبة المصريّة سميرة علي

أ. محمد موسى العويسات ـ القدس

(في الشّقاء
تمرح العصافير الكسولة
لعلّ الرّيح ..
تُنبت لها أجنحةً
فتطير ..!!)
وهذه ومضة للكاتبة لفتت انتباهي فما وجدت بدّا من الكتابة عنها، فيما يشبه القراءة، أو كما قرأتها، والومضة خاطر إن وقفت عليها استدرّت من خاطرك خواطر… إنّها تكثيف لفكرة أو قصّة أو حالة أو ظاهرة ما.

فبكلمات قليلة بلغت إحدى عشرة كلمة رصدت الكاتبة ظاهرة بشريّة اجتماعيّة سلبيّة، تمثّلها فئة من النّاس تعيش الشّقاء والمعاناة دون أن تسعى للتّغيير، تنتظر من يأخذ بيدها أو أن يأتيها الفرج من غيب لا تعلمه، أو هي لا تثق بنفسها وقدرتها.
وقد استخدمت الكاتبة ألفاظا وتراكيب تحمل دلالات عميقة موحية جميلة، فكلمة تمرح من الفعل (مرح) وهو شدّة الفرح والمبالغة فيه، والمرح أمر مذموم، قال تعالى: “ولا تمش في الأرض مرحا”، هذا ذمّ في مرح عام، فما بالك بمرح في الشّقاء، وإنّه فيها لأذمّ، وقد جاء به في صيغة الفعل المضارع الدّالّ على الحال والاستقبال ليفيد التجدّد والاستمراء.

وكنّت عن هذه الفئة بالعصافير، وهي المعروفة بضعفها، ومعروفة أيضا بقدرتها على الانتقال والتحوّل من مكان إلى آخر بيسر وسهولة، فكيف تقيم على الشّقاء؟! وزادتها وصفا بالكسولة، فهل هناك عصافير أخرى نشيطة؟ نعم، هناك عصافير نشيطة، بل النّشاط في العصافير طبع وديدن، والكسل أمر طارئ عليها وغريب.

وفي مثل هذه الحالة ترجو وتتوقّع هذه الفئة من العصافير أن تأتيها الرّيح فتنبت لها أجنحة فتطير، واستخدام كلمة (لعلّ) وهو حرف ترجٍ وتوقّع يدلّ على أنّ العصافير ضعيفة العقل والإدراك عندما ترجو من الرّيح أن تنبت لها أجنحة، فهذا أمر مخالف لنواميس الحياة، واستخدمت الكاتبة كلمة الرّيح، والرّيح في اللغة العربيّة، وفي القرآن خاصّة تستخدم في الشّدة والعذاب، إذن المتوقّع عقلا وواقعا محسوسا أن تهلك العصافير لا أن تنبت لها أجنحة، ولا تخلو هذه العبارة من الاستهزاء والسّخرية بعقول هذه العصافير.

واستخدمت الكاتبة كلمة (تنبت) وتدلّ الكلمة على نموّ متدرّج متباطئ يحتاج وقتا ويمرّ بمراحل الإنبات، والريح معروف عنها العصف والمرور السّريع، فأنّى لها أن تنبت ما يحتاج إنباته لزمن طويل وعناية؟! فلم تقل الكاتبة تمنحها أو تخرج لها أو تصنع لها.

وفي العبارة دلالة على أنّ هذه العصافير الفرِحة في شقائها، لم تلتفت لأجنحتها الأصيلة فيها، ولم تثق بقوّتها، وتنتظر المستحيل لتغيير واقعها. فهي قاصرة في نشاطها وفي تفكيرها، ومقصّرة بحقّ نفسها. ومن الجدير بالملاحظة أن الكاتبة قد أبدعت من جهة التّركيب النحويّ في ابتداء ومضتها بالجارّ والمجرور (في الشّقاء)، إذ قدّمته على الفعل تمرح، وهذا له دلالات بليغة، منها لفت الانتباه للأمر المهمّ، وهذا من معاني التّقديم، وكذلك صنع جوّ من الإثارة والتوقّع والبؤس، فالفرق كبير بين قولنا: في الشقاء تمرح العصافير، وقولنا: تمرح العصافير في الشّقاء، وقولنا أيضا: العصافير تمرح في الشقاء.

فكان استخدام التّركيب الأول موفّقا أيّما توفيق. وكذلك وفّقت في قولها: تنبت لها أجنحة.. فهو أبلغ من القول: تنبت أجنحة لها. فكان تقديم الجار والمجرور إشارة على حاجتها المسيسة للأجنحة، وإشارة من طرف خفيّ على أنّها بلا أجنحة أو فاقدة الثّقة بأجنحتها الأصيلة.

ثم جاءت بالفعل (فتطير) مقرونا بفاء السّببيّة، والتي تعني أنّ ما قبلها سبب فيما بعدها، والتّرجّي من مواقع فاء السببيّة، وحمل الفعل (تطير) معاني كثيرة، ولا يقتصر في دلالته على الطّيران وحده، بل يحمل معنى التّحول والمفارقة والمفاصلة والتّغيير، فكان الغلق بهذا الفعل جميلا، يترك فسحة لخيال القارئ.
وأخيرا تعدّ هذه الومضة قصّة لحياة فئة مجتمعيّة تستمرئ الشّقاء بما فيه من الذّل والهوان وتفرح به، ولا تسعى للخلاص من شقائها مع قدرة على الخلاص. فهي بحقّ إبداع أدبيّ يُقدّر، من حيث المعنى والمبنى اللغويّ الدلاليّ والتركيبيّ. وفيه احترام لخيال القارئ بترك آفاق مشرعة للتحليق. وربّما يوافق الشّطر الثاني من بيت المتنبّي بعض ما في هذه الومضة إذ يقول:

ذو العقل يشقى في النّعيم بعقله

وأخو الجهالة في الشّقاوة ينعم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى