مذاق الإيجابية: الاستمتاع بمذاق الحياة ورنين الإيجابية

د. محمد السعيد أبو حلاوة أستاذ الصحة النفسية، كلية التربية، جامعة دمنهور

 

أولاً- مقدمة:

يتضمن مصطلح Savoring توجه الشخص إلى تذوق رنين البهجة في الحياة الانتباه والتركيز الشديد والتقدير والتوقف التدبري في خبراته الحياتية، خاصة الخبرات الإيجابية، وييسر هذا الأمر ابتهاج الإنسان في الحياة ومع تراكم الأثر الإيجابي لهذا التوجه تتحقق ملامح طيب الحياة والهناء فيها، ومن أهم ملامح حالة الابتهاج بمذاق الحياة التركيز على الخبرات الحياتية الحالة في الحاضر أي هنا والآن، رغم أن مذاق الاستمتاع بالحياة وبرنين الإيجابية فيها يتضمن أيضًا استدعاء الخبرات الحياتية الإيجابية والذكريات المبهجة التي تعايش معها الإنسان في الماضي وتذكرها واستدعاء حالة البهجة التي اقترنت بها، فضلاً أيضًا عن التصوير الإيجابي والتفاؤلي للمستقبل.

ويمكن أن يستمتع الإنسان بالخبرات ويتذوق رنين الإيجابية ومذاقها المفرح بعدد من الطرائق منها:

  • التمهل والتروي والتركيز على ملاحظة الخبرات والأحداث والوقائع الحياتية الإيجابية وتقديرها.
  • الانتباه المفعم باليقظة في مظاهر الجمال في الحياة.
  • الاستمتاع بالحياة وبكل خبراتها ووقائعها وأحداثها.

ووصف فريدبراينتFred Bryant  وجوزيف فيروفJoseph Veroff  (2007) مختلف الحالات الانفعالية التي تقترن بحالة تذوق مذاق الإيجابية في الحياة والاستمتاع بها، ورأيا أن الخبرات الانفعالات تتوقف على ما إذا كان تذوقها والاستماع بها قائمًا أساسًا على “التدبر المعرفي cognitive reflection ” أو قائمًا على “الاندماج أو الاستغراق الخبري “الخبراتي” أو التجربي أو الفعلي أو التعايشيexperiential absorption“، أو إذا ما كان قائمًا على انتباه الفرد على تكوينه النفسي الداخلي وما يموج به من مشاعر وانفعالات أثناء الخبرة، أو انتباهه على الظروف والوقائع الخارجية.

ثانيًا- تعريف  مذاق الإيجابية والاستماع بالحياة:

عرف فريدبراينتFred Bryant وجوزيف فيروفJoseph Veroff (2007) مصطلح Savoring بأنه “ملاحظة الشخص وتقديره للجوانب الإيجابية في الحياة وبحثه عنها وعيشه فيها” وتمثل حالة التوجه الذهني القائم على الاستمتاع بمذاق الحياة النظير الإيجابي لحالة المواجهة coping فالمواجهة دائمًا مجابهة لشدائد وضغوط ومصاعب ومشاق وعنت وعثرات، أما الاستمتاع بمذاق الحياة فتلمس على الدوام لكل جوانب البهجة فيها ولكل مظاهر الجمال ولكل ما يوجب الفرحة والبهجة ومن ثم صناعته والغرق فيه والتعايش معه والتركيز عليه، وأشار فريدبراينتFred Bryant وجوزيف فيروفJoseph Veroff (2007) إلى أنّ الاستمتاع بمذاق رنين الإيجابية في الحياة لا يعني مجرد السرور واللذة، بل يركز فيه على “حالة الوعي العمدي واليقظة العقلية الآنية”، و “الانتباه الإرادي” للخبرات المبهجة وسعي متواصل للبحث عنها وتلمسها في كل شيء بل والاجتهاد في تكوينها حال افتقادها فيما يعرف بصناعة فرص وخبرات الابتهاج الإيجابي (Bryant &Veroff, 2007: 5)، فضلاً عن أن بإمكانك أن تتذوق الابتهاج بما يعرف بالعبرة أو الابتهاج البديل عندما تسعد وتحلق في السماء فرحًا بسعادة شخص آخر أو بنجاحه أو بإنجازاته، الأمر الذي يعبر عن دلالات أخلاقية بالغة الرقة تقترن بهذا المصطلح تتثمل في السعادة بسعادة الآخرين، الابتهاج ببهجة الآخرين والاندفاع في صناعتها لهم.

وحدد فريدبراينتFred Bryant وجوزيف فيروفJoseph Veroff (2007) عددًا من العمليات النفسية المتضمنة في تذوق بهجة الحياة تتعلق أساسًا بضبط  وتنظيم الخبرات الإيجابية (Bryant &Veroff, 2007: 14) تتمثل فيما يلي:

  • ضبط وتنظيم ما يعرف بانفعال التقوى والخشية والرهبة من المنظور الروحي.
  • تقديم الثناء والشكر والعرفان كتنظيم وضبط وتعبير عن “الامتنان”.
  • التنعم والاستمتاع كتنظيم للفخر والاعتزاز.
  • الترف والثراء فيما يخص تنظيم اللذة والسرور الجسمي.

وتتحقق حالة التذوق الإيجابي لرنين البهجة في الحياة على مستويات متفاعلة تدور حول حلقات الزمن الثلاث:

  • توقعanticipate مستقبل إيجابي والاجتهاد في تصوير المستقبل وتلوينه بالاستبشار وتوقع الخير.
  • الحنين والشوق reminisce للخبرات الإيجابية والذكريات السارة في الماضي واستعادتها والاستمتاع بها والاجتهاد في تخليقها مرة ثانية.
  • الاستمتاع بالحاضر وتلمس والتعايش مع experience كل الخبرات المبهجة فيه وفقًا للتمتع بروح اليقظة الذهنية لكل ما هو إيجابي في الحاضر.

ثالثًا-نموذج العوامل الأربعة في وصف وتفسير “التلذذ بمذاق الحياة” (نتائج دراسات براينت، 1989، 2003):

يركز نموذج العوامل الأربعة في وصف وتفسير “الاستمتاع والتلذذ بمذاق الحياة” وفقًا لتصورات براينت (1989، 2003) على تناول قدرة الفرد على  (Bryant, 1989,2003):

  • تجنب الأحداث السلبية ويعرف باسم عامل الضبط السلبي الأساسي primary negative control.
  • مواجهة الأحداث السلبية أو التوافق معها ويعرف باسم عامل الضبط السلبي الثانوي primary negative control.
  • الحصول على أحداث إيجابية ويعرف باسم الضبط الإيجابي الأساسي primary positive control.
  • التلذذ والاستمتاع بالنواتج الإيجابية والابتهاج بمذاقها ويعرف باسم الضبط السلبي الثانوي secondary positive control.

ويتطلب التلذذ بمذاق الحياة وفقًا لتصورات وحدد فريدبراينتFred Bryant وجوزيف فيروفJoseph Veroff (2007) المقومات التالية:

  • الشعور بالآنية أو الفورية فيما يتعلق بالتركيز على الحاضر وفقًا لذهنية هنا والآن.
  • التحرر من الحاجات الاجتماعية وحاجات التقدير والدافعية، بمعنى أن لا يعلق الشخص سعادته واستمتاعه بالحياة بظروف مسبقة أو شروط محددة تتعلق برضا الآخرين أو سخطهم بل التحرر من كل الضغوط التي تقيد الشخص من السعي والبحث الإيجابي عن كل ما يبهجه في الحياة ويتذوق طعمه ويندمج فيه طالما كان أخلاقيًا ولا ينتهك قيمًا أو ضوابط معيارية.
  • تركيز الانتباه بوعي حاضر وذهن متقد على الخبرات الإيجابية في الحياة.

رابعًا-أبعاد مذاق ورنين الإيجابية والاستمتاع بالحياة:

مفارقة وجودية حقيقية في الطبيعة البشرية هي أم أن الحياة بالفعل لا يوجد فيها ما يستدعي البهجة وما يثير الفرح؟ غريب أمر البشر في واقع الأمر يفوتون على أنفسهم كثيرًا من موجبات السعادة والابتهاج ويتصورن أن الإنسان خلق مكتوب عليه التعاسة والبؤس، وإن جاءته فرصة للسعادة فهي زائفة لا تستوجب التوقف عندها فهي استثناء وخروج على القاعدة.

على الجانب الآخر ربما لدينا هكذا تلقائيًا توجهًا نحو الانتباه التام والتركيز الشديد على الجوانب المظلمة وموجبات الحزن والتعاسة والكدر بالتفات غريب لها وتوقف تام عندها وغرق شديد فيها، حتى أننا ولغرابة التصور عندما نضحك ربما نقول “خير اللهم اجعله خيرًا”، أهو خوف من الفرح؟ أم حنين واشتياق للتعاسة؟!!!.

وواقع الأمر أن موجبات السعادة والابتهاج لا تتحقق إلا لمن يستحقها ويترقبها ويسعى إليها وينتبه إلى مظاهر الجمال والخير والجوانب الإيجابية في الحياة، وهي ليست كما يتصور البعض مرتبطة في طابعها العام بالأحداث والوقائع الحياتية الكبرى، بل ترتبط في الغالب باللحظات الصغيرة التي تغزوك فيها مشاعر الارتياح والبهجة ربما بهدية أو ثناء أو إطراء أو مجاملة أو ابتسامة من صديق أو حبيب أو من مجرد وقوفك في فضاء وتطلعك للسماء ورؤيتك لمظاهر الإبداع فيها أثناء لحظة المطر أو أثناء مجرد مرور نسمة صيف باردة أثناء قيظ لم تكن تحتمله. وكثيرة هي جدًا وقائع استنهاض المشاعر المفرحة في تكوين الإنسان لكنه يتجاهلها أو يتنكر لها ربما بسفه أو استمراء لحالة النكد والكرب.

إذن ما يولد الانفعالات الإيجابية في التكوين النفسي للإنسان ليس وقائع الحياة الكبرى بل تلك اللحظات الصغيرة التي يتنسم فيها عبير البهجة بالامتنان بمظاهر النعم والجمال في الحياة، بما يؤكد على قيمة وأهمية الدلالات النفسية لتعبير “التلذذ بمذاق الحياة savoring“، ومع ذلك ما المقصود بالضبط بمصطلح “التلذذ بمذاق الحياة؟” وكيف يمكن أن يكون عاملاً قويًا في تنمية وتعزيز الإيجابية وبناء السعادة؟ أليس من بحث عن السعادة وسعي إليه وترقبها أتته من حيث لا يدري؟

ثانيًا- ما المقصود بالتلذذ أو الاستمتاع بمذاق الحياة؟What is savoring

التلذذ أو الاستمتاع بمذاق الحياة يعني فقد أن نحاول أن نملئ تكويننا النفسي بالشعور بالبهجة والفرحة بمظاهر الجمال والجوانب الإيجابية في الحياة وإثرائنا وتوسيعنا لنطاق ووسع ومدى وعمق خبراتنا الإيجابية في الحياة

والتلذذ والاستمتاع بمذاق الحياة طريقة وأسلوب حياة رائع لتنمية مسار طويل الأجل للأفكار والانفعالات الإيجابية حتى وإن كانت الأحداث الإيجابية الكبرى ليست محددًا بالضرورة لجعل الإنسان سعيدًا على الدوام في حياته لأن الأحداث الإيجابية الكبرى محدودة ومؤقتة التأثير.

وأشارت تشيكي ديفيس (2018) إلى أنها بعد الانتهاء من كتابها “تغلب على هاتفك الذكي: عادات تقنية واعية لإيجاد السعادة والتوازن والاتصالOutsmart Your Smartphone: Conscious Tech Habits for Finding Happiness, Balance, and Connection ” أدركت قيمة وقوة تأثير “التلذذ والاستمتاع بمباهج الحياة الطبيعية خارج نطاق حالة الهوس والانشغال القهري بالعالم الرقمي فيما يعرف بحالة الوجود تحجبًا خلف الشاشات الزرقاء التي سلبت من الإنسان كل ما يمكن أن يبهجه وحرمته من تذوق متعة وبهجة اللحظات والمظاهر الإيجابية في الحياة الإنسانية الطبيعية.
وأفادت تشيكي ديفيس (2018) أنه إن أردت أن تستمتع بمذاق مظاهر الجمال والجوانب الإيجابية في الحياة مارس بصورة منتظمة الإجراءات التالية:

  • تذوق بهجة الماضي واستمتع بهSavor the past:

ربما تذوق الماضي في واقع الأمر وفقًا لمفهوم الحنين أو التوق والشوق Nostalgia أيسر الطرق لممارسة “تذوق البهجة والاستمتاع” والغريب “مهما كان ذلك الماضي” فما الحال وإن كان به عديد من الذكريات والأحداث والخبرات الحياتية الإيجابية، ولتقوم بهذا الأمر عليك أن تقضي دقائق في التفكير في حدث مفرح ومبهج وسار حدث لك على الأقل خلال الأسبوع أو الشهر الماضي، كأن تكون قضيت رحلة ممتعة مع أعز أصدقائك أو أنجز مشروعًا مهمًا.

فمع تفكيرك واستدعائك لحدث سار والتفكير في الناس والأصوات والإحساسات الجسمية والمناظر التي خبرتها وتعايشت معها ومحاولة التجاوب مرة ثانية مع الانفعالات الإيجابية التي استولت عليك أثناء هذا الحدث.

  • تذوق الحاضر والاستمتاع بهSavor the present:

هل أنت من صنف الأشخاص الذي يتوقفون كثيرًا ويتأملون ويلاحظون ويقدرون المسرات وجوانب السرور والمتعة والمنح والنعم الحالة التي تقدمها له الحياة؟ إن كنت لا تندرج تحت هذا الصنف من الناس، عليك أن تمارس ما يعرف بتذوق الحاضر والاستمتاع به، ويمكنك أن تفعل هذا الأمر عن طريق الانتباه لأي لحظة تخبر وتعيش فيها وتتعرض فيها لشيء أو حدث أو خبرة إيجابية، وعندما تلاحظ أنك تشعر بحسن الحال ستجد أن تفكيرك يتميز بالإيجابية وتعتريك على الفور انفعالات إيجابية.

وقد يستلزم الأمر كذلك ممارسة ما يعرف بالامتنان وتذكير ذلك على الدوام بأنك مدين لكل ما ولكن من سبب لك هذه المشاعر الإيجابية عرفانًا وثناءً وإطراءً وحفظًا للجميل وردًا له.

  • استفد من الحاضر وعظم استفادتك منهCapitalize on the present:

لتذوق بهجة ومذاق الانفعالات الإيجابية لمدة أطول عليك أن تفعل كل ما يمكن أن يزيد هذه الانفعالات ويثريها عمقًا وتنوعًا واتساعًا ومرونة وابحث دائمًا عن الأحداث التي تنتجها فإن لم تجد هذه الأحداث عليك أن تصنعها، وعندما تشعر بحسن الحال عبر عن ذلك الشعور بل اجعل الحياة بكل ما ومن فيها يعيش معك هذا الأمر وشارك الآخرين هذه المشاعر بالطرائق السوية.

  • تذوق بهجة ورنين المستقبل واستمتع بهSavor the future:

هل تعرف أن الخبرة بالانفعالات الإيجابية تتحقق عندما تثابر من أجل تحقيق هدف مهم وإيجابي حتى قبل أن تحقق هذا الهدف؟ هذا صحيح تمامًا، لكن السؤال كيف؟ عن طريق التخيل والإبحار في المستقبل بذهنية قائمة على التخيل والتصوير الإيجابي له تزداد سعادتك، على سبيل المثال قد تتطلع إلى القيام برحلة في أجازة آخر العام، إذا كان الأمر كذلك قد تستمتع بهذه الأجازة وتتذوق بهجتها قبل القيام بها بالفعل بمجرد التفكير فيما سوف تقوم بفعله ومن سيكون معك والانفعالات الإيجابية التي تأمل أن تشعر بها.

خامسًا- المصادر:

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى