حياة خلف أسوار الموت: قراءة في رواية “الستار المبهرج” لـ”سومرست موم”
بقلم: سارة طارق الحريري
حظيَتِ النفسُ البشريّةُ باِهتمامِ الفلاسفةِ منذُ القدَم، وقامَ الكثيرُ من دارِسيها بالتبحُّرِ في خباياها أملًا في فهمِ كُنهِها وكشفِ أغوارها، هذا نتيجةً لكونِ نفسِ الإنسانِ تتمتَّعُ بتركيبٍ شديدِ الإبهام، حتى أنّ مَكنوناتِها تتباينُ تباينًا هائلًا إذا ما قورِنَت في خصائصها من إنسانٍ لآخر. لذا فما اِنفكت الكتبُ والمقالات والنظرياتُ الباحثةُ في معالم النفسِ تنهالُ علينا من كلّ حدبٍ وصَوبٍ… كيف لا وقد أقسمَ الله تعالى بالنفسِ في القرآنِ بقوله: (ونَفْسٍ ومَا سَوَّاهَا)[1]. فهي من أكثرِ المخلوقاتِ تعقيدًا في خلقِها. وكم من أناسٍ فارقوا الحياةَ دونَ أنْ يدرِكوا فرقًا بين وجودهمُ الماديّ والمعنَويّ، فاستسلموا لنزواتِ الجسدِ ورغَباته، وفاضَت أيّامُهم بالفوضى دونَما رادع، فتجدُ أحدهم يجهلُ طبيعةَ نفسه، فيندفِع في الحياةِ كيف يشاء، ثمّ إذا بهِ يستنكرُ ما ألمَّ به بأسئلةٍ عشوائيةٍ في لحظاتِ الضّيق…أما كان الأحرَى به أن ينظرَ في حقيقةِ خلقه؟
مؤخّرًا، لمستُ في العملِ الأدبيّلـ “سومرست موم”، وهو روائِي وكاتبٌ مسرحي وناقدٌ أدبيٌّ إنجليزي ذاعَ صيت أعماله في بداية القرن العشرين، حكمةً بالِغة، حيث وظّفَ الشخصية الرئيسية في روايته التي حَملت عُنوان: (السّتارِ المبهرج)[2]، توظيفًا ذكيًّا، وجسَّد فيها درسًا وجوديًّا لا شكَّ في أنه يَحملُ العقولَ على التنبه، فيُرغِمُ القارئَ على الوقوف عند عتبةِ الكتابِ قُبيلَ الاِنتهاء منه ليتأمّل فيما آلت إليه حياةُ اِمرأة تركت لنفسِها زمامَ المبادرة من غير قيودٍ تكبحها. قام الكاتبُ بالتماس الإلهامِ الذي قاده لكتابة روايتهِ من رحلاته إلى إيطاليا والصّين، ولقائه بأشخاصٍ أثروا على اِنتقائه لطباعِ شخصياتِ روايته واختياراتِهم، كما أسهمَ ذلكفي تعزيز مهاراته في إضفاءِ العمق على كَينونة الشخصيات، التي بدورها صَنعت حبكةً قويةً وواقعيةً للأحداث. في هذه الصفَحات، سأقومُ بإلقاء الضّوء على عدّة جوانبَ من هذا العمل الأدبي للكاتب “موم”، في محاولةٍ للغوص في عالمِ هذه الرواية.
قطارُ الزَّمانِ على سِكةِ المكَان:
وقعتْ أحداث الرواية في ثلاثةِ أماكنَ مختلفة، وإذ إن الوصولَ إلى فهمٍ متكاملٍ للشخصياتِ والأفعالِ الصّادرةِ عنها مرتبطٌ بعنصرِ المكانِ الذي يجسّدُ فيه الكاتبُ الشخصيّة[3]، فقد قدَّم الكاتبُ “موم”شخصياتَهُ عبر السفر بنا إلى أمكنةٍ عِديدة، كما أسفرَ ذلك عن إدخالِ الماضي في الزمنِ الحاضر للأخذِ بيدِ القارئ نحوَ اِستيعاب النّزاعاتِ الداخليةِ للشخصيَّات. فبدايةً، آثرَ الكاتبُ أن يستهِلّ القصة بوصفِ حياةِ الشخصيّةِ الرئيسيَّة، التي تُدعى: “كيتي فين”، مع زوجِها في مُستعمرة تشينغ- يين في الصين، وهو اِسمٌ خياليٌّ بديلٌ لمدينةِ هونغ كونغ الصينية، والذي اختلقهُ الكاتب تجنُّبًا لمشكلاتٍ قانونيّة… فوضَّح تفاصيلَ الحياة الاجتماعية للعائلاتِ البريطانيةِ هناك، ولقاءاتهمُ المتكرّرَة في المسارحِ الكوميديةِ والتراجيديّةِ في آن… وفي حفلاتِ الشاي وزياراتِ العشاء. ثم عادَ بالأحداث إلى ليفربول في بريطانيا، حيث كشفَ من خلال السرد عن ماضي عائلةِ كيتي، وعاداتها وحفلاتها الرّاقصة، التي كانت المهدَ للقاءِ كيتي بالرجلِ الذي تزوجتهُ لاحقًا، ويُدعى “والتر فين”. بعدها، ينتجُ عن سلسلةٍ من المُسبّبَاتِ انتقالُ كيتي مع زوجهَا إلى مقاطعةِ ميتان -في الصين أيضا-، حيث أحسَن الكاتبُ تصويرَ صعوباتِ الرّحلة، من الطرُق الموحِلةِ والوَعرةِ بتلالِها وهضابِها الرّطبة، إلى حرارةِ الشمسِ وأشعّتها المُلتهبةِ التي هاجَمت بسَاتينَ الخيزرانِ السّاكنة… وحتى المسكنِ الخشبيّ المتواضع الذي كان بانتظارِ كيتي قُبالَة النّهر وعلى مشارفِ المدينة، حيث كان الضّبابُ يغطي المشهدَ كسحابةٍ من الكآبةِ اِنساقَت من وراءِ السّورِ الذي فَصَل بين كيتي، والمدينةِ التي اختنَقتْ بالجثثِجرّاء وباءِ الكوليرا المُميتِ الذي غزاهَا.
كُتبت الرواية في عام 1925، ورغم أن الكاتب لم يذكُر أيَّ تواريخ ليحدّد الزمانَ بدقّة، إلا أنه يتيسر للقارئ أن يستنتجَ أن الأحداثَ دارت في عشرينيّات القرنِ العشرينِ إبّانَ الحركةِ القوميّة الصينية وبعد الحربِ العالميّة الأولى، حين كانت الصين ذاتَ نظامٍ سياسيّ ضعيفٍ وشعبٍ مرهَق، فكانت ضحيةً مثاليّةً للمجاعاتِ والأوبِئة. أمّا عن وجودِ المستعمرات البريطانية في هونغ كونغ، فكان ذلك نتيجةَ تنازلِ الصين عن المدينةِ لبريطانيا في عامِ 1824، حيث كانت ميناءً للتجارة البريطانية في الصين، غيرَ أن ذلك لم يمنع أهلها من اِزدراءِ الأجانبِ المستعمرين.
فتورٌ في السُّطورِ ومُجرَياتٌ عسيرَة:
اِمتاز تواترُ أحداثِ الرواية بالبطء، ذلك بسبب اعتماد الكاتب بصورة كبيرة على تقنية صعبة،وهي تقنية المونولوج الداخلي، لأن عدم استعمالها بالصورة الصحيحة قد يؤدي إلى الإخفاق في جذب القارئ نحو النص السردي[4]، حيث تخلّلَ الوقائعَ المحورية وصفٌ دقيق للحالةِ النّفسية للشخصية الأساسيّةِ على وجهِ الخصوص، وأفكارها وظنونِها، وتحلِيلها لتصرّفاتِ من حولها، وحتى توقعاتها لما سيحصُل معها في المستقبل. وبدأتْ عقدةُ الرواية بالتنَامِي حينَ أدركتْ كيتي أنّ حبيبها – “تشارلي”- الذي خانتْ زوجها لأجلهِ خذلها، فلم يكن ينوي تحمُّل أي مسؤوليةٍ معها، ثم وصلت الأحداثُ للذروةِ حين تأزّمت علاقةُ كيتي بزوجها بُعَيد اكتشافهِ لخيانتها، فاضطرَّت للذهاب معه إلى مدينةٍ تغصُّ بالمرض، حيث تطوع للمساعدةِ في الاهتمام بالمصابين هناك لكونهِ عاملًا في مجالِ الجّراثيم والأوبئَة، فكان خوفها من زوجها الصّامت، والموت، يحومُ في عقلها طوال الوقت، وقد واصَلَ الكاتبُ ضَمّنا إلى كلّ ثانيةٍ من تلكَ الهواجسِ التي استحوَذتْ على كيتي… أمّا تأثيرُ العقدةِ على حياتها فلم يزُل تمامًا، فقد بدا أن عواقبَ أفعال كيتي ستستَمرُّ بملاحقتها حتى وقتٍ طويل، حيث توفي زوجُها في نهايةِ الروايةِ بصورةٍ مأساويَّة، ليتركها تواجهُ مصيرًا غامضًا مع طفلٍ مجهولِ الأب في أحشائها، ولكنَّ هذا لم يكن ختامَ معاناتها، إذ واجَهها تشارلي في الصفحاتِ الأخيرة بحملِها قائلًا: “أرى أنَّه من المرجّحِ أن أكونَ أنا الأب أكثرَ من والتر… قريبًا ستقطعينَ الشك باليقين، كما ترَين: أطفالي الثلاثةُ هم صورةٌ حيَّةٌ لي”[5]، ليُثبتَ بذلك قلةَ حيلتِها وسَطوتَهُ المُمتدَّةَ على كيانِها الهزيلِ.
نحوَ قاعِ الشخصيَّة:
فضلًا عن كيتي، يُعتبر زوجُها عالم الجراثيم “والتر فين”، وحبيبها “تشارلي تاونسند” رجل الأعمال، من الشخصيات الرئيسية في الرواية، أما الشخصيات الثانوية فكثيرة، كوالدَي كيتي وأختها، وزوجة تشارلي تاونسند، وهي “دوروثيتا ونسند”، وقد ظهرت الشخصياتُ المذكورة آنفًا خلال وجود كيتي في بريطانيا ومستعمرة تشينغ – يين. هذا بالإضافة للشخصيات الثانوية التي ظهرت بعد انتقال الزوجين إلى مقاطعة ميتان حيث الكوليرا، مثل الراهباتِ الفرنسيات، والسيد “وادينغتون”، الذي كان خيرَ رفيقٍ لكيتي في الأوقات العصيبة التي مرّت بها، بالإضافة لأميرة المانشو زوجة وادينغتون.
لم تكن كيتي بالإنسانةِ النّقيةِ الصّالحة، لقد كانت جَوفاءَ الجوهرِ بلا شكّ، حيث كانت تقيسُ قيمةَ الأشياءِ بحسب بريقها الخارجي، فضلًا عن السذاجةِ وخفّة العقل اللتينِ تجلّتا في أخطائها. في الواقع، لم يُبدِ الكاتبُ نيةً في إبرازِأيّ جانبٍ إيجابيّ من شخصية كيتي، وقد تعمَّد إظهارها أنانيةً وضيقةَ الأفُق،كما شدّدَ على حقيقة ضياعها وتوغّلِها في الحياة بلا هدفٍ سوى الركض وراء المتعةِ والرّاحة. والأهمُّ من ذلك كله هو أنها كانت تبحث عن الاِهتمام، ولعلّ تلك السّمة فيها كانتِ السببَ الأول في اِنغماسها في الرَّذيلة، حيث يبدو أنّها لم تستطع السّيطرةَ على هوسها بجذبِ الانتباهِ نحوها، ويعود ذلك لعدةِ عواملٍ أهمّها أسلوبُ أمها في تربيتها، فقد كانت تولي كيتي جُلَّ انتباهها لكونها جميلةً… على عكس ابنتها الأصغرِ سِنًّا “دوريس”، فبنت آمالًا كبيرة لمستقبلِ ابنتها كيتي، مما يترجُم طبيعةَ المجتمع المادية والسطحية، فالفتاة الحسناءُ تعني زوجًا غنيًّا ذا منصبٍ رفيع وسُمعةِ مُتميزة، مما يحقّقُالعزَّ والفخرللعائلة أمامَ الناس. لذا، فقد كانت كيتي مشروع أمّها المكتوبِ له النجاح ُيقينًا. إلا أن كيتي -ولشدة غرورها- رفضت كلّ رجلٍ تقدم إليها بطلب الزواج، حتى بلغت سنَّ الخامسة والعشرين، ما أسفرَ عن مُشادّاتٍ مستمرة بينها وبين أمها. وبالتدريج، ساءَت علاقتهما، لتصبح “دوريس” صديقةَ والدتها الجديدة، حيث خُطبَت لرجلٍ غني وهي في الثامنة عشرة فحسب، فأضحَت كيتي عانسًا تتلقّفُها الألسُنُ في كل مناسبة، بينما تنعمُ دوريس بدور الاِبنة الصالحة البارَّة.
وهكذا، فقد كان ظهور “والتر فين”، بمثابة طَوقِ النجاة بالنسبة لكيتي، فعرضُه الزواجَ عليها لم يكن سوى سبيلٍ للخلاصِ والتنصلِ من الضغط الاجتماعي الذي عانت منه، والهروبِ من عتابِ أمها. إلا أنها وفي غَمْرةِ تلذّذِها بالانتصار، اختارت أن تغضَّ الطرف عن حقيقة نفورها من والتر، وحتى تقزّزها من شخصيته المتضاربةِ تمامًا مع شخصيتها، والأمَرُّ من ذلك إشفاقها عليه نظرًا لسلوكه المتحفّظ وخجله، حتى أنّها كرهَت انضباطه ورصانته، ونسبَت ذلك لكونه لا مباليًا بأحدٍ سوى نفسه، وأرى أن الاِمتعاض الذي شعرت به كيتي نحو خصالِ والتر الحميدة تخفي وراءها غيرة وحسدًا، فحين لم تستطع تقبل كونه أفضل منها، بدأت بتفسير صفاته كيفما يحلُو لها لتشعرَ بالراحة والأمان، مما يبرزُ نرجسيتها وتلوُّث قلبها. وكمحصلةٍ لاِستحالة اِجتماع حُبّ رجلٍ والإشفاقِ عليه في قلب اِمرأة، استندتْ موافقةُ كيتي على عرضِ والتر على الأنانيةِ المَحضَة، فلا هي بادلته مشاعرهُ الجيّاشة نحوها، ولا هي أكنَّت له اِحترام زوجةٍ لزوجها… فكانتِ البَلوى.
كان” تشارلي تاونسند”معتدًّا بنفسه جدًّا، محبًّا للمناسبات الاجتماعية حيث يمكنه لفتُ الأنظار وإثباتُ مهاراته، فهو الرّاقص الأفضل، يجيدُ الغناء، لاعبُ بطاقاتٍ ماهر، رياضيٌّ محترف، متحدثٌ لَبق، وذو وضع ماديّ ممتازٍ ينعكس على مَلبسِه وأزرارِ قميصه الفاخرة. لهذا، فقد كان الرجلَ الأكثر شعبيةً في المنطقة، وشغلَ مناصبَ عليا. كنتيجةٍ طبيعية لذلك، لم يكن عليه أن يحرمَ نفسه ما تشتهي، وباتَ يحصل على كلّ ما يريده، كان ذلك حين ظهرت كيتي بحُسنها الأخّاذ أمامه، فما كان منه إلا أن نفشَ ريشه كطاووسٍ مزهوّ وأغدقَها بكلماتٍ معسولَة كان من شأنها أنْ تجعلها أسيرةً لجاذبيتِه الملحوظَة، فلم يَبدُ كلام الناسِ عنهُ بكونِه متغطرِسًا متكبّرًا ومتمركِزًا حولَ ذاته حقيقيًّا لكيتي، فما لبثت أن وقعتْ ضحية البريقِ الذي يحيطُ بتشارلي، هي التي لا تقدّسُ شيئًا سوى القشُورِ البرَّاقة. فكان سحرُ حديثه ومظهرُهُ هما المحرّكينِ الرئيسيَّين لمشاعرها تجاهَه. وكلمَا غرقت أكثرَ في حُبّها لتشارلي، تضاعفت شَفَقتُها على زوجها والتر، ليذهبَ الأملُ الأخيرُ في تحسّن علاقتهما أدراجَ الرياح… مع مرورِ الأيام، بدأت كيتي تتّقبَلُ فكرة خيانتها لزوجها، كما آثرت -لضعفٍ في نفسها- أن تُحمّلَ والتر المسؤولية، وحسبَ ظنّها، فقد اِضطرَّها إلى سلكِ هذا الطريقِبكونهِ مضجرًا إلى هذا الحد…ثم واسَت نفسها بحقيقة حبّهِ اللامُتَناهي نحوَها، والذي سيجبرهُ على مسامحتها بلا شكّ في حالِ اكتشفَ أمرَها. وممَّا زاد من راحتِها ثِقتُها بوجود تشارلي بجانبها، فهو ما انفكَّ يطمئنُها بأنهُ سيتأكدُ من مرورِ الأمرِ على خير ما يُرام، كما أنّه يتمتَّع بسلطةٍ واسعة، ولن يجرؤَ والتر على التعرض له. أما ما حدثَ بعدها، فقد خالفَ توقعاتِ كيتي تمامًا، فحين اكتشف والتر خيانتها، هرعَت إلى حضن تشارلي الدافئِ كي يحميها، فبُهتت بالكلمات الغربيةِ التي صدرت منه، كلما تٌوقعت موقعَ السكاكين على قلبها. فانكشف قناعُه، وتبدَّلت ملامحه التي ألِفتها كيتي، فانهالت عليه بالشتائم والعتاب، ليُفاجئها بجدارٍ قاسٍ بينهما يفصلُ بين مصالحهِ الشخصية ومشاعرها الجارِفة… خذلها، وأبدى احتياجه الكبيرَ لزوجته دوروثي، فلولاها لن يستطيعَ الوصول لمنصب رئيس المستعمرةِ الذي يتطلَّعُ إليه، فشخص كتشارلي لم يكن ليُضحي بعائلته ومكانته المرموقة من أجلِ امرأة استمتع بصحبَتها لبضعة أيام. وإثرَ تأكده بأن والتر لايحمل دليلًا يدينُه ويثبتُ خيانتَه لزوجته، لم يكن من العسير على تشارلي أن يُزيح كيتي من طريق نجاحهِ ويتخلى عنها بغضون دقيقة، وبعد أن أخبرها بأنّها كنزٌ، وبأنها أجملُ ما شاهد من لوحات، مضت بعدها دامعةَ العينينِ، خاويَة اليدينِ إلا من حفنةٍ من مُجامَلات.
في المقابل، كان تفاني والتر فين جديرًا بالإعجاب، سواءً تفانيهُ تجاه حُبّه لزوجته، وزواجه بها رغبةً بإسعادها رغم علمِه القطعي بكونها إنسانةً تافهة قبلت به لأن الوقتَ ناسبَ رغباتها، أو تفانيه تجاه عمله، فهو رزينٌ وفطن، مرهفُ الإحساسِ رغم تكتمه، ذو روحٍ مضحية، جر نفسه إلى مستنقعِ وباءٍ لمعالجة الناس ومساعدتهم بتطويرِ دواءٍ للكوليرا، وكرّس نفسه للعمل في مختبره حتى داهمه المرض، فجفّ جسده حتّى مات.كما كانت كلماتُه الأخيرة صادمةً ومؤلمة، حيث قال: “لقد مات الكلب”[6]، ليذوي جسدُه الهزيل بعدها على السرير وسط ذهول كيتي، التي جثت على ركبتيها ترجُو منه أن يسامحها قبل أن يموت… ولربما تحمل جملته هذه دلالةً مستترةً لإدراكٍ حزينٍ راودَه في لحظاتهِ الأخيرة، فقد أفنى نفسه لإرضاء زوجته، فخسرَها، ثم للعناية بالمرضى، فهلك… وفي هذا وفاءٌ وإخلاصٌ اِستثنائي. من جانبٍ آخر، ليس هناك بدٌّ من الوقوع على قراراتِ والتر وتحليلها، فرغبته المُستَميتة بالزواج بكيتي ليست من الغرابةِ في شيء، فمن طبيعة الرجل أن ينجذبَ نحو جمال المرأةِ ورقتها، ولكنّ اختياره الزواج منها رغم معرفته بطباعها وثقافةِ عائلتها غير مُبرَّر، وبكونه شخصية ذكيةً ونبيهة، كان يجدر به أن يتوقع ما سيؤول إليه حالهُ عقبَ زواجهِ بامرأة أنانية، فأنانيةُ المرأة تهدم الأسرةَ لا محالة… وإن غضَّ المرءُ الطّرف عن ذلك، يجد أن والتر لم يوجّه أيَّ لومٍ تجاه تصرفات كيتي أو شخصيتها،بالأخصّ لدَى قوله: “معظم الناس يتذمرون عندما يشعرون أنّ المحبوب لا يبادلهم المحبة، لكنني لم أفعل… ما يراه معظم الأزواج كحقوق، كنت أراهُ أنا خدمةً منك”[7]، وهذا يتوافق مع قراره بالاِرتباط بها، ويظهر التزامهُ وتحمله للمسؤولية. إلا أنّهذا لم يساعده حين اعتصره الألمُ جرّاءَ تعرضه للخيانة من قبل المرأة التي شغفته حبًّا، فهجرها وتقوقَعَ على نفسه. وأجدُ -شخصيا- أن لا مفرّ من إلقاء قليلٍ من اللوم على عاتق والتر، لإصراره على الزواجِ من امرأةٍ يعلم حتمًا أنها لن تتوانَى عن إلحاقِ الأذى به إذا ما تزيّنَ لها الهوَى.
انتقالًا إلى الشخصيات الثانوية، كانت إضافةُ الكاتب لشخصية وادينغتون والراهباتِ في الدير إضافةً مميزة، حيث استعملَ هذه الشخصيات في محاولةٍ لتهذيب تصرفات كيتي وتنوير بصيرتها، فقد اِستطاع وادينغتون، بكونه شخصيةً مرحة، وديّة وعفوية، التقربَ من كيتي بسهولة… كما قد يُباغَتُ القارئ بحقيقةِ كون وادينغتون سريعَ البديهة،حيث اكتشف بذكائه حكايةَ كيتي دون أن تنطقَ ببنتِ شفة،فحدَّثها عن واقعِ تشارلي وعلاقته بزوجته دوروثي، ليزيدَ من ندمها واِشمئزازها من نفسها… هذا فضلًا عن دورِ الراهبات البارز في التأثير على روح كيتي وأفكارها وتوجُّهاتها، فعندما أصبحت كيتي تتردّدُ على الدير بين الفينة والأخرى جراء شعورها بالمللِ والوَحشة، وبُعَيدَ استنكارها لقرارِ الراهبات العجيبِ بترك حياتهنَّ بمسراتها وملذاتها وراءهن، ونذرِ أنفسهن للربّ والخير والإصلاح، باتت تحترمُهن احترامًا كبيرًا، حتى إنها تعلقت بالدير وعملتْ على رعاية الأطفالِ اليتامَى فيه، ولم تقوَ على تركه حتى بعد وفاة زوجها. وأثناء انشغالِ كيتي بالعمل في الدير والخوفِ من الموت وانزعاجها من غموضِ والتر وقسوتِه معها، بدا أن أفكارها لا تفتأ تزدادُ تشوشًا، حيث أسهَبَ الكاتب في سرد بناتِ عقلها، إلا أنّ ذلك لم يساعد القارئ في فهمِ ما تريدُه كيتي حقًا، فاستمرَّت بالإشارةِ نحو هدفٍ بعيد ينتظرها، لكنها لم تستطع رسمَ ملامحهِ أو إدراكَه. ولعلّ الكاتب قد جسَّدَ هدف كيتي البعيدَ في صورة الدير، فنجدُ أنها كلما دخلته، تركتْ وراءها خطاياها وذنُوبها، وغسلَت عنها وحلَ الآثام. كما مثّلتِ الراهباتُ في الدير النقيضَ المثاليّ لكيتي، فهن غايةٌ في الطهارة والعفةِ والزُّهد، مما جعلها تهرع إلى الدير يوميًّا تغشاها سكينةٌ لم تعرف لهامَأتى، وهذا يفسر عبارتها الأخيرة مخاطبةً والدها، بعد اتفاقهما على الذهابِ معًا إلى جزرِ الباهاما في نهايةِ الرواية: “أرى الرَّحمةَ والمحَبة، أرى الطريقَ والمسافرَ عليه، لعلَّ الطريق يصلُ بنا في النهايةِ إلى الرَّب”[8].
ما الذي يختبئُ وراءَ السِّتار؟
لقد أفلحَ “موم”في اختيار عنوانٍ مثيرٍ مُتَّشح بالغموض، فعنوانُ الكتابِ هو جزءٌ مُهم للغايةِ من تكوينه وتأثيره على عقولِ القرَّاء[9]، واللّغزُ الذي قدمهُ عنوانُ الروايةِ حملَ تأويلاتٍ متنوّعة…(الستار المبهرج)، عبارةٌ تثير ارتباكَ من يحاول فهم مقصدها، فالستارُ المبهرج لا يخفي وراءَه الجمالَ بالضرورة،كما أنّ الترجمة الإنجليزية لعنوانِ هذه الرواية قد تعني الطرحةَ المُبهرجة، والطرحةُ هي قطعة القماش التي تسترُ وجه العروسِ يوم زفافها، والتي تكونُ بيضاءَ عادة لترمزَ للعفةِ والنقاء، لذا فإن تَلوُّنَها قد يشير لتلوثِ هذا المعنى. إذن فإن تكهُنَ مقصد الكاتب من اختيار هذا العنوان قد ينقسم لعدة احتمالات، فلعله يرمي إلى نية كيتي من الزواج بوالتر، والتي لم تكن صافيةً كما يجدر بها أن تكون، أو قد يعني جمال كيتي وحُسنها، وهو الحسنالذي لم يحجب وراءه سوى الرَّذيلة. من جانبٍ آخر، ربما يقصدُ الكاتب ظاهر الحال من حياة تشارلي تاونسند، ففيه مواصفاتُ الرجل المثالي لعائلتهِ وعمله، ولكنّه في النتيجةِ رجلٌ انتهازي وأناني وضيعُ الشأن يخدعُ الناس بسحره. أيضا، ومن زاوية أبعد، قد يكون الستارُ المبهرجُ رمزًا لحياة البريطانيين في مستعمرة تشينغ -يين، فهم يمرحُون ويتمتّعون بما طاب لهم من المَأكل والمَلبسِ، بينما تتوارى بمسافةٍ ليست بالبعيدةِ عنهم، مدينةٌ قد عبث بها الخوفُ والجوعُ والمَوت.
———
في النهايةِ لا يسعني إلا أن أبدي إعجابي بأسلوبِ الكاتب الحذقِ في ضبطِ المعطياتِ في السرد وصياغةِ حوارٍ واقعي، حيث ترك للقارئ مساحةً مثالية للتفكير والتأمل، مما قد يبدو قاسيًا للبعض لصعوبة فهم بعض الأحداث، حيث ينتهي المرءُ من الرواية مشيرًا بإصبعهِ إلى الكثير من مواطنِ الغمُوض، ليجد أنّ الكاتب يجبرُه على تحليل نوايا الشخصيات واستنباط ما يستتر وراء أفعالها، وهذا يكشف عن مهارتهِ الجديرة بالملاحظة، فلم يُسفر إسهابُه في الوصف عن كشف الكثير من أسرار شخصياته، كما تظهر بوضوح مهارته في بناءِ السّرد معتمدًا على المونولوج الداخليّ لاِمرأة بَرَعَ في تصوير عالمها الداخليّ ومخاوِفها وأحزَانها ورغباتِها، حيثُ اِستطاع الاِنغماسَ في نفسِ كيتي وعقلِها ليصفَ بدقة-دونَ أن يقعَ في الفجوةِ المتوقّعةِ من كونهِ رجُلًا- ما تعيشه من انفعالات يومية. من جهةٍ أخرى، أجدُ إطنابهُ في الحديث عن الراهبات وحياتهنَّ الشخصيةِ بتفاصيلها ليس بذي فائدةٍ تذكر، حيث تضمنت الرواية فصولًا طويلة تحكي قصة إحدى الراهبات منذ طفولتها، ويبدو أنّ هذا يعود للقاء الكاتب “موم” براهبةٍ وسماعهِ لقصتها وتأثره بها قبل كتابةِ روايته. كما أنّ إدخاله لشخصيةِ أميرة المانشو كان عشوائيًّا إلى حدٍّ ما، فليس لها أيُّ تأثيرٍ على شخصيات الرواية أو وقائعِها، ولا يذكرُ القارئ منها سوى لقبِها المميّز.
ختامًا، إنه لمن المؤسفِ أن كيتي لم تستطع السيطرةَ على نفسها فعلًا حتى بعد أن نجت من المرضِ وتركت زوجها خلفها، فما إن رجعت إلى تشينغ- يينحتى عادت لما كانَت عليه مع تشارلي، رغم كلّ الاِحتقارِ الذي كانت تكنُّه له، واقتناعها بخُبثه، ووصفت حالها الباعثَ على الأسى بعبارةٍ أجد أنه من الشجاعةِ أن يعترف بها الإنسانُ لذاته، بحديثها مع نفسها: “لم تكن امرأة، تلاشت كينونتُها، لم تكن سوى رغبة”[10] …فكم هو خطير أن يمشي الإنسان في طرقٍعمياء دون مبادئٍ تعيدُ إليه البصيرةَ فيرتدُّ إلى صوابه. والإنسانُ السوي لا ينفكُّ يجاهدُ نفسه ويهذبها حتى لا ينساقَ مع شهوات النفسِ وأهوائها.
المراجع والمصادر والإحالات:
[1]سورة الشمس، الآية 7.
[2]سومرست موم: الستار المبهرج، دار مرايا للنشر والتوزيع، ط1، 2021.
[3]حسن بحراوي: بنية الشكل الروائي (الفضاء- الزمن- الشخصية)، المركز الثقافي العربي، ط1، 1990، ص30.
[4]ديفيد لودج: الفن الروائي، ترجمة: ماهر البطوطي،المجلس الأعلى للثقافة، ط1،2002، ص57.
[5]سومرست موم:الستار المبهرج، ص244.
[6]المصدر نفسه، ص202.
[7]نفسه، ص74.
[8]نفسه، ص258.
[9]ديفيد لودج: الفن الروائي، مرجع سابق، ص218.
[10]سومرست موم: الستار المبهرج، ص237.