سيمياء الزمان في رواية ( البهلوان ) للروائي الكبير أحمد خلف
أ.د. مصطفى لطيف عارف | ناقد وأكاديمي
لابد من الإشارة أولا إلى أن عزل البنيوية النص,وعلى وجه خاص النص السردي عن محيطه الخارجي, أو سياقه قد أفضى إلى اكتشاف الأنساق البنائية التي ينتظم فيها الزمن السردي, ذلك لأن حاله حال العناصر السردية الأخرى ليس سوى نسق لغوي, ولعل أفضل ما قدمه الشكلانيون الروس لهذه المقاربة النقدية, وبالتحديد توماشفسكي هو تميزه بين المتن, والمبنى الحكائيين, فالمتن الحكائي هو المادة الأولية الخام للقص، أو السرد,أما المبنى الحكائي فهو إعادة صياغة تلك المادة في ضوء رؤية الكاتب, وايدولوجيته, وبعبارة أخرى أن الزمن الخطي الذي نلمسه في المتن الحكائي ستجري عليه تعديلات تتضمن تقديم, وتأخير, وقفزات,وتوقفات,وهذا ما وقفت عنده مقاربة جيرار جنيت الشهيرة في هذا المجال الواردة في كتابه خطاب الحكي,إذ يرى- جنيت- أن زمن الحكاية يرصد عبر ثلاثة مستويات: الترتيب, ويتضمن استباق الأحداث, واسترجاعها, والتكرار أو التواتر ويتضمن المفرد والمكرر, والمؤلف, فضلا عن الديمومة أو السرعة والزمن هو العلامة الدالة على مرور الوقائع اليومية, إذ لايمكن قياسه من خلال الذهن المجرد وحده,بل يمكن استيعابه من خلال الوعي, والإحساس بحركته المتنامية, ويمثل الزمن عنصرا من العناصر الأساسية التي يقوم عليها فن القص, فإذا كان الأدب يعد فنا زمنيا-إذا صنفنا الفنون إلى زمانية, ومكانية- فان القص هو أكثر الأنواع الأدبية التصاقا بالزمن, إن مكانة الزمن في الرواية, وسيطرته المحتملة على بناء القصص لها تاريخ طويل, لكن تدخل الزمن بشكل غامر قد جاء عندما نشر مارسيل بروست: روايته (البحث عن الزمن المفقود) حيث كان الزمن موضوعا,ووسيلة في آن معا, وحيث لم يسند أي تسلسل زمني سوى ما تسيطر عليه حركة الذهن, والإرادة, وقد تناول الروائي احمد خلف الزمن من خلال نزهته اليومية في زمن مضى، وعبر تذكرها وهو في بغداد ينطلق في تحليل تكوين من يعيش معهم , فنراه يسرد لنا الأحداث بلغة السارد العليم لسائقه مراد فيقول: اعلم مراد أنني أصارع الحيتان في هذا البلد! ولو واتتهم الفرصة لباشروا بتقطيعي فورا عليك أن تفكر جيدا قبل أن تفتح فمك مع أي شخص منهم اعلم كلهم لصوص وحفنة من المرتزقة وقطاع طرق! بعضهم يفتخر انه لص دوخ الحكومة هدفهم معي واضح أن يجعلوني اشحذ منهم الدينار بدلا من أن أتمتع بما املك لا ترضيهم طريقتي في العمل.
والنص الروائي في الواقع يختلف عن النص الشعري لافي الوزن ولا في اللغة ولا في العلاقة مع الشخوص والأحداثً ولكن هناك فارق جوهري جذري هو في العلاقة مع الزمن , ذلك لأننا يجب أن نفرق بين مفهومين هما الزمن والديمومة, الزمن هو كل متحد كما يقول بيرغسون: ماضي وحاضر ومستقبل , أما الديمومة فإنها خط حدثي متواصل بين الولادة، والموت كما يقول باشلار ولهذا فان الروائي احمد خلف يعتقد أن النثر هو النص الذي يتزواج مع حركة الديمومة من حدث لآخر هكذا بشكل أفقي متواصل , ومن هنا فان العمل الروائي الناجح هو الذي يشتبك، ويعانق حركة الديمومة هذه , ولهذا تجد أن الناس يحبون قراءة الروايات في القطارات وقبل النوم لما في ذلك من علاقة تناغم داخلية وخارجية مع حركة الديمومة هذا هو النثر, ويسرد لنا الروائي احمد خلف الأحداث بزمن حديث ومعاصر فمثلا هو يسرد لنا في الوقت الحالي زمن اللصوص والحيتان، فنراه يقول: اعلم ياهذا أنهم لن يشبهم مال أو عقارات، أو هدايا ثمينة، أو جاه، نعم حتى الجاه لن يبالوا في صيانته , أنما يطلبون كل شيء, تصور كل شيء تفكر به أو لا تفكر، هكذا هي طبيعة الحيتان صغيرها وكبيرها سواء في الطمع والجشع, سوف يواجهونك غدا بطلب غير متوقع منك فماذا أنت فاعل معهم؟
استطاع الروائي أحمد خلف تناول الزمــن المرتبـط بالشخصية المحورية الفاعل يقوم على استحضار البطل الماضي بواسطة الذاكرة، والومضة الوراثية، وهو زمن المستقبل المعاش في الحلم بنوعيه حلم النوم وحلم اليقظة، وعلى هذا الإحساس بنيت أحداث رواية البهلوان.
فالزمن هو الغالب، وتبتدئ وقائع الحدث بعملية انتقال من وضعية، لا واعية إلى وضعية واعية الاستفاقة من الحلم، وتنتهي بعملية معاكسة، أي الانتقال من حالة واعية إلى حالة غير واعية فنلحظ أن الزمن الداخلي دائما يتم تقليصه على مستوى الخطاب الروائي لإفساح المجال أمام الخواطر, وحديث النفس, والتداعيـات الحرة والذكريات, والأحلام، فلا يتبع الزمن رسما تصاعديا تتطور عبر مساره الأحداث وتتضافر في نسج الحبكة الحديثة, والفنية فإنما يتخذ شكلا تتشابك فيه الأبعاد الزمنية الثلاث, الماضي, و الحاضر , والمستقبل، إذ نجد البطل /الفاعل، عند تلقيه للصدمة يلجأ إلى تغيب رد الفعل الخارجي الجسماني ليحل محله النشاط النفسي المعتمد على الذاكرة التي تتراكم فيها ذكريات مشاعر الإحساس بالمحنة، يتكاثف , أي الزمن الجاري لا زمن القياس زمن يجري, ويجعل كل شيء يتكون.
والزمن الذي يبقى عند طرفي الرواية, البداية و النهاية, و بما أن الرواية ليست حدثا يسير أفقيا فإنه من الصعب بما كان تحديد زمنها، ومع ذلك فإننا نعتمد في تحديد هذا الزمن على مجموعة من القرائن التي تدل عليه، كون الحدث الأول، متى وقع ذلك في الليل, أم في النهار, فهذا المقطع يدلنا على أن الزمن هنا يتعلق بمدة معينة، لذا فإن الزمن الخارجي للرواية يقوم على مدة محددة, وقصيرة، ويكون بذلك الزمن الإطار الخارجي لكامل أحداث الرواية , وهو زمن الحاضر، ونجد ذلك قد تجسد عند الروائي أحمد خلف أيضا في المقطع الآتي من الرواية فنراه يقول: وماذا عن مافيات الفساد وعمليات تهريب العملة الأجنبية, والقتل لردع المعارضين للمافيات وليس للحكومة فقط, والأخيرة بدت لسنين طويلة كالمغلوب على أمرها ولا حول لها ولا قوة، ناهيك عن تجارة المخدرات المستفحلة عبر الحدود, وتهريب حمولات النفط في الجنوب والشمال على قدم وساق, ولا يمكن التغافل عن المنافذ الحدودية، التي كان لها دور مخز وغير طبيعي في تهريب , وإدخال كل ما هو مثير ومحرم دوليا ما الذي يمكنه الراوي العليم أن يفعل إزاء كل هذه الجمهرة من ماسي البلد , ومهازل رجلاته غير المعنيين في حمايته وإعادة هويته المفقودة منذ زمن ليس بالقصير؟ ونحن نعرف أيضا أن القارئ اللبيب سوف ينبري بالقول: أين الزبدة من هذا كله؟ وهل ستستمر في الكلام عن إخفاقات البلد؟
من التقنيات الروائية الجديدة التي تحسب للروائي هو مشاركة الراوي العليم، والقارئ في متن الرواية, فضلا عن شعرية السرد التي تميز بها الروائي الكبير احمد خلف, والعنوان اللافت للنظر , وكشف حقيقة اللصوص, وحيتان الفساد , والمافيات الكبيرة التي سلبت البلد كل خيراته.