روايات لا تستكشف التاريخ محكياً بل تجتره واقعياً

د. نادية هناوي | ناقدة وأكاديمية عراقية

 

مالت الرواية العربية وقبلها الرواية الغربية إلى استثمار محكي التاريخ استثماراً يحرك كوامن التاريخ المدون بحثاً عن مخفياته ومسكوتاته. وقد تفنن الروائيون في كيفيات هذا الاستثمار فكانت كتاباتهم السردية استكشافية وهي تنقب مستنهضة فينا كقراء الشكوك، ودافعة بنا إلى التشارك في تهشيم ثوابت التاريخ وما رسخه فينا من وقائع وشخوص كنا نظن المؤرخين صادقين قولا وفعلا وهم ينقلون لنا أخبارها.

وإذا كان الساردون الغربيون قد ابتكروا وطوروا كيفيات توظيف محكي التاريخ؛ فإن بعض الساردين العرب شغلتهم أيضا وقائع تاريخية بعينها، فجربوا محكي التاريخ وذلك من قبل أن تصل إلينا رياح ما بعد الحداثة من الغرب فكتبوا رواية التاريخ التي تختلف عن الرواية التاريخية باستثمارها التاريخ استثمارا ما بعد حداثي.

فكانت رواية( الزيني بركات) للمصري جمال الغيطاني 1974 ورواية( حكايات دومة الجندل) للعراقي جهاد مجيد 1988 السباقتين في هذا التجريب اعتمادا على ما دلتهما عليه موهبتهما الادبية ووعيهما الفكري حول دور السرد في انتهاك قدسية التاريخ.

ومع تزايد الاهتمام بكتابة رواية التاريخ صار كثير من الساردين العرب يوجهون اهتمامهم نحو التداخل بين السرد والتاريخ انجذابا لما تلاقيه هذه الرواية من اهتمام قرائي ونقدي وانبهارا بما يتيحه المتخيل التاريخي من مساحات سردية رحبة ومبتكرة.

بيد أن بعض الساردين اللاحقين ظلت تعوزهم بعض المعرفة الامبريقية بمفاهيم التاريخ ونظريات الزمان وهم يحاولون إعادة بناء التاريخ مجربين أدواتهم في إنتاج محكي التاريخ على وفق ما تجود به مخيلاتهم حول هوامش التاريخ ومقموعيه. والنتيجة كتابة روايات نمطية تندرج في واحد من الاتجاهين الآتيين:

الاتجاه الأول / فيه السرد كلاسيكي على الطريقة الجورج زيدانية التي فيها السرد خادم للتاريخ والكاتب لا يعيد كتابة التاريخ وإنما يستعيد منه وقائع وشخصيات وعلاقات إنسانية بلا ابتكار تخييلي ولا حفر سردي ومن ثم لا فرق بين الكتابة اوتوبغرافية/ سيرية وكتابة هستوغرافية/ تاريخية.

الاتجاه الثاني/ فيه السرد واقعي وبأشكال مختلفة وهو يتعامل بوعي ممكن او بوعي قائم مع أحداث الماضي برؤيا للعالم لا إعادة فيها للأحداث بقصد اكتشاف حقيقة ما حدث فيها فعلا؛ بل بقصد مركزة الإنسان والمجتمع والتاريخ والوجود.

وللتمثيل على نمطية الاتجاه الاول نأخذ روايتين الأولى هي ( رُقم الغياب) للروائي علي عبد العال 2020 التي فيها يستعرض الكاتب تاريخ الانسان العراقي عبر آلاف السنين من خلال سارد ذاتي يحكي قصة رحلته التاريخية العجيبة مبتدئا من وطن هو أصل وعائدا إلى أصل هو الوطن، مسجلا وقائع الرحلة في أربعة عشر فصلا، وكل فصل هو رقيم كنوع من استلهام الإرث الرافديني وتحديدا ملحمة جلجامش. وتبدأ الرواية والسارد طفل بصري يبيع السمك مع أمه التي رعته وهي ليست أمه، ودور العرافة وما تحكيه له من الغاز وأحاج وحكايات خرافية في توجيه حياة هذا الطفل الذي يجهل أباه فيهيم في مواسم الحصاد متوهما انحداره من سلالة عتيدة ” توصلت الى حالة اثيرية تقرب الى الحلم اوصلتني ببساطة متناهية الى اعتبار أن أبي كان واحدا من الملوك الكبار المنقرضين ” الرواية،ص22

وبسبب هذا الوهم يخوض السارد الذي فيه تتجسد شخصية جلجامش مغامرات السفر عبر البلدان بحثا عن أصله ويرافقه ماني أو الشيخ ذو النورين الشخصية الحكيمة والعارفة التي فيها تتجلى شخصية اوتونبشتم ليكون هو البوصلة التي ستوجه السارد” أنت لا تعرف اصلك ..امك العراق هي ارض طيبة الرجل السومري لا يقتل ذويه انت من اصل سومري”.

 وتبدأ الرحلة التاريخية بحثا عن الاصل من البصرة وهي ” في طور تكوينها الفكري الجديد ولم يزل واصل بن عطاء تلميذا للشيخ الجليل الحسن البصري ولم تكن القرامطة قد ظهرت بعد ولم يكن اسم حمدان بن قرمط قد ظهر اصلا كل ما كان هو اني سمعت باسم حكيم يتداول الناس اسمه على درجة من الورع والهيبة اسمه ماني” الرواية، ص24 مرورا ببغداد التي “كان المستعمرون يخجلون من الإساءة إليها” ومن بعدها اليونان حيث افلاطون وسقراط إلى أن يصل إلى الأرض الاسكندنافية التي فيها تنتهي الرحلة وقد صار السارد رجلا خمسينيا عليه أن يعود كحيمن مجهري إلى الوطن الرحم الكبير وهنا يعيش احتداما داخليا فإما العودة إلى الجنوب حيث الموطن الاول و” سأقبل لأنني من دون وطن” أو يظل تائها كـ” لاجيء سياسي ما عاد لاجئا سياسيا فقد زال الظلام عن وطني”

ويؤثر الخيار الثاني لان الرحلة لا بد ان تستمر قانعا بوجود “ثعبان ارقط هو مصيرنا منذ ذلك التاريخ الذي حل بوادي الرافدين ساد حكم الزعيم الارقط الذي لم يعرف له نسب في تاريخ ما بين النهرين وهو لا يزال يحكم المنطقة بجوقة من فراخ الثعابين سامة وافاع مرقطة من نسله الشاذ” الرواية، ص289، هكذا تنتهي الرواية والسارد يتقيد بالتاريخ غير كاشف لنا عن مخبوءات تخالف ما عرفناه واعتدناه.

والرواية الثانية هي ( لبابة السر ) للروائي شوقي كريم 2019 وفيها يوظف الكاتب الارث الرافديني متخذا ايضا من الرُقم فصولا للرواية؛ بيد أن كل فصل هو عبارة عن استنساخ لفظي او بالأحرى إعادة تدوير لألفاظ وأفعال وأسماء مرت علينا في ملاحم واناشيد وتراتيل رافدينية ضمتها نصوص ترجمها آثاريون غربيون وعراقيون. وفي بعض هذه النصوص فراغات تركها هؤلاء الاثاريون مؤشرين على مواضع الخرم وربما حاولوا تأويل اسباب الخرم او عملوا على ملء بعض فراغاته.

وهو الصنيع نفسه الذي حاكاه الكاتب متخذا من نفسه شخصية داخل روايته بالاسم ( شوقيا) محاولا جعل الرواية مدونة بابلية فيها سبعة عشر رقيما هي عدد فصول الرواية. وتبدا بالرقيم المعنون ( هل اهتز عرش مردوك) مستعيدا أساطير الآلهة مردوخ وانليل وشمش، مجسدا صورة الإله الماجن الذي تنازل عن صولجان ربوبيته للذائذ حتى احترقت بابل مارا على شخصيات تاريخية وأسطورية مثل الملك حمورابي وديموزي وعشتار.

وباحتراق بابل يعيش الناس حالة فوضى وهم يتساءلون عن بابل المحترقة ومعهم يتساءل المدون/السارد عن الصبايا وسدنة البغايا والمتسولين سائرا في كتابة سرده على نهج الملاحم القديمة مستعملا الأسماء ذاتها متخذا من ألفاظ( نشيد الانشاد / الأسفار / التراتيل/ المسلة ) عنوانات جانبية بلا ابتكار في اسماء ابطاله ولا اكتشاف لأشياء تخالف ما أوصله إلينا التاريخ الرسمي عن بلاد الرافدين من نبوءات وحكم وتعاليم وأسرار. وفي نهاية الرواية يحاول المدون وضعنا قبالة السر بيد أن المفارقة تكون قد ضاعت عليه باللعبة المكشوفة والمكررة في تركيب روايته تركيبا يستنسخ بنية الملحمة والتراتيل التوراتية. وكل الذي فعله الكاتب أنه جمع نصوصا قديمة في كتاب من دون أن يسائل التاريخ الرافديني ولا يضاعف الزمن بزمن الكتابة وزمن الذاكرة.

ان انبهار شوقي كريم بالتاريخ الرافديني جعل هذا التاريخ بالنسبة إليه سردية كبرى وعليه ان يجسد قدسيتها فكان وجلا وهو يسير في دروبها صانعا واقعا نصيا هو نفسه التاريخ المدون. وكان حريا به أن يستنهض من الملاحم تاريخا شفويا لاولئك الهامشيين الذين مارست ضدهم الالهة والارباب والملوك كل صنوف القهر والاضطهاد حتى صاروا مقصيين ومسكوتا عن مصائرهم.

أما نمطية الاتجاه الثاني فنمثل عليها برواية( شارع الزعيم) للروائي عباس لطيف 2019 وفيها لا نجد لحظات يتم اقتناصها سرديا من الواقعة التاريخية المتمثلة باليوم الاخير في حياة الزعيم عبد الكريم قاسم التي هي قصة ضمنية تأطرت بالتناوب مع قصة حب تجمع السارد بفتاة أحلامه (أحلام) التي تعشق سيرة الزعيم. وكادت الحوارات والتساؤلات التي دارت بينهما ان تضع اليد على ملابسات اغتيال الزعيم ومخفيات ما سبقه من قبيل الإطاحة بالملكية وصراع العسكر والمؤامرات الخارجية لولا توزع السارد بين هاتين القصتين المتنافرتين الإطارية التي هي غرامية والضمنية التي هي دموية ليكون الواقع النصي تاريخا اجتماعيا أكثر منه محكيا تاريخيا.

وعلى الرغم من محاولات السارد توظيف ما سماه (ظاهرة الانتقام الثأري التي تتكرر في تاريخ العراق) وتوكيداته بين الفينة والأخرى أن في المصادر وجهات نظر تروي الواقعة بروايات مختلفة حتى لا حقيقة في التاريخ الرسمي وما حاوله أيضا في الفصل 20 من بناء مدينة جابر رضا فإنها ظلت محاولات متدارية ما أثرّت على سير الواقعة التاريخية الرئيسة التي يراها السارد ضرورية من باب أن “كل حدث هو درس والغرض من دراسة التاريخ هو تجنب الوقوع بالأخطاء والنكبات نفسها” الرواية، ص76

وهذا الاعتبار بالتاريخ هو الدريئة التي حالت دون ان يتمكن السارد من كشف مفارقات قد تقلب الواقعة رأسا على عقب وتجعله يتجه إلى وقائع أخرى هي تبعات لمقتل الزعيم حتى انتهت الرواية عند دخول القوات الأمريكية العراق عام 2003 لتكون واقعية محضة “أصبح الواقع عبارة عن نكات ثقيلة الدم فالمدينة فقدت ألفتها وأمانها وصار الناس مثل مجموعة حكم عليها بالموت وكل ينتظر دوره” الرواية، ص146.

إن هذا الذي به نؤاخذ الرواية العراقية الراهنة إنما يظل في حدود الكيفية التي بها وَظفت التاريخ وخاصة الاسلامي والرافديني بعد أن صار توجهها نحوه ظاهرة واضحة وخاصة بعد صدور رواية( ازمنة الدم) 2016 للروائي جهاد مجيد التي كانت سبباً مهماً في فتح الباب على مصراعيه أمام الساردين العراقيين للإفادة من متاحات هذا التاريخ في تمثيل الواقع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى