سيرة الأمكنة تقولها لنا: القدس
جميل السلحوت | فلسطين
محمود شقير كاتب متميز بطريقة لافتة، كتب القصة القصيرة، والقصة القصيرة جدا، وقصة الاطفال، ورواية الفتيان، وأدب السيرة، وأدب الرحلات، والمقالة النقدية، والمقالة السياسية، والمسرحية، والمسلسلات التلفزيونية، وصدر له حوالي اربعين مؤلفا، ومحمود شقير أبرز كاتب قصة فلسطيني، ومن كتاب الصف الاول في القصة القصيرة على مستوى العالم العربي، ترجمت بعض اعماله إلى أكثر من لغة أجنبية.
وآخر اصداراته هو:(قالت لنا القدس) وهو مجموعة(نصوص،يوميات وشهادات) عن القدس.صدرت طبعته الاولى عام2010 عن وزارة الثقافة الفلسطينية.
وأديبنا محمود شقير المولود عام 1941 في جبل المكبر أحد أحياء القدس، مسكون بمدينته، هو يعيش ويسكن فيها، لم يفارقها الا في سنوات ابعاده عن ارض الوطن ما بين 1975-1993 لكن المدينة وهمومها تسكنه، تسكن وجدانه وعقله وفكره ،” هي مدينتي الأولى، لم اعرف أية مدنية قبلها “ص5 وهي أيّ القدس” بالنسبة لي حاضنة الروح ومهد الطفولة والشباب، لا يكمن ان أتصور تجربتي في الحياة دون ان تكون القدس حاضرة فيها تمام الحضور”ص5 والقدس بالنسبة لأديبنا ليست مدينة كسائر المدن،”هي مدينتي التي تعلمت منها، وهي التي ألهمتني كثيرا مما كتبت، وما زالت تلهمني، لها المجد والحرية والخلاص ”ص7″ ويظهر ارتباط أديبنا بعروس المدائن، ومدى سطوتها عليه من خلال كتاباته فمجموعته القصصية الاولى “خبز الآخرين” كل احداثها وحكاياتها تدور في القدس ، لكن أديبنا ما ان عاد الى مدينته بعد ابعاد قسري دام ثمانية عشر عاما، حتى ابدع لنا رائعته ”ظل آخر للمدينة” اعتبرها سيرة للمكان، في حين يراها آخرون- وانا منهم- انها كانت جانبا من سيرة المكان وجانبا من سيرة الكاتب نفسه في المدينة، جاءت على شكل روائي ابداعي .
ثم ما لبثت ان صدرت له في العام 2010 مجموعة قصص قصيرة جدا تحت عنوان ” القدس وحدها هناك” فيها استلهام أدبي لتاريخ المدينة وحاضرها،جاءت قصصا قصيرة جدا، منفصلة عن بعضها البعض يربطها خيط دقيق لتشكل رواية القدس، فهل جاء اصداره الجديد “قالت لنا القدس” ليشكل ثلاثية عن جوهرة المدائن؟ أم أنها جاءت عفو الخاطر؟ وفي تقديري ان الكاتب لم يخطط لكتابة ثلاثية عن القدس، لكن القدس التي تسكنه، تدفعه وتحرضه للكتابة عنها، خصوصا وانه معاصر لأحداث يرى فيها ضياع المكان، ويري كيف يجري سرقة تاريخ المدينة بعد أن سرقت جغرافيتها، فيؤرقه ذلك، فيجمع أفكاره ويحاول ان يكتب تاريخ المكان كشهادة على مرحلة يجري فيها تزوير ماضي المدينة وحاضرها، ومحاولة بناء مستقبل زائف لها.
ومحمود شقير في كتابه هذا: ”قالت لنا القدس” ابتعد عن الأسلوب الروائي والقصصي، ولجأ الى المقالة، وأسلوب المقالة هذا لا يخلو من التأريخ تماما مثلما لا يخلو من الأدب، وهذا ديدن الأدباء، فعندما يكتبون حتى المقالة السياسية فإنها لا تخلو من الأدب. والباحث في تاريخ القدس الحديث لا يمكن ان يقفز عن دور المفكر والمربي المقدسي خليل السكاكيني، الذي عاش في القدس القديمة وخارج أسوارها ، وبني بيتا في حيّ القطمون في القدس الغربية، حيث كان يلتقي كبار الأدباء الفلسطينيين والعرب، ومن خلال يوميات السكاكيني يروي لنا الأديب شقير كيف تشكلت الجمعيات الاسلامية المسيحية إلى جانب تشكيل الأحزاب السياسية، وتأسست تجمعات للمرأة الفلسطينية إلى جانب تأسيس النوادي واصدار الصحف والمجلات ” ص15 وكانت الحياة عامرة في القدس منذ بدايات القرن العشرين حيث الحفلات الغنائية والعروض المسرحية ودور السينما.
ولا يغيب عن بال الكاتب دور المرأة المقدسية حتى انه خصص له عنوانا: ”في مديح بنات القدس” ويذكر اسماء بعض الناشطات منهن مثل: شهندا الدزدار رئيسة جمعية النساء العربيات في القدس، وزليخة الشهابي التي اصبحت فيما بعد رئيسة الاتحاد النسائي في القدس، وسلطانة عبده زوجة خليل السكاكيني، وفاطمة البديري أول مذيعة ومعدة برامج، والشهيدة رجاء أبو عماشة وحياة المحتسب، ولا أعلم كيف غاب عن الكاتب اسم هند الحسيني مؤسسة دار الطفل العربي.
واللافت هو حديث أديبنا عن شبابيك القدس، فالقدس مدينة تاريخية، ابنيتها يطغى عليها فن العمار الاسلامي المطعم بالفن البيزنطي والفارسي والروماني فوظيفة الشبابيك تمرير الهواء الى داخل البيت، وكذلك اشعة الشمس، أو تمرير شحنة من نور حيثما تكون الشبابيك واقعة في مدى أشعة الشمس”ص 25 وللشبابيك مهمة نضالية ايضا منها” سكب الزيت المغلي وإسقاط أصص الورد المليئة بالتراب على جنود الاحتلال الذين يتعقبون شباب الانتفاضة ”ص27″ ويتحدث الكاتب عن “ترييف” المدينة، من خلال هجرة أبناء الريف وأبناء المخيمات اليها، وما يترتب على ذلك من اضعاف الحياة المدينية والاقتصادية، مما أدى الى هجرات من المدينة، خصوصا هجرة الفلسطينيين المسيحيين حيث كان يصل عددهم عام 1967 الى اثني عشر الفا والآن عددهم خمسة آلاف فقط ص39 ويعرج الكاتب على مقاهي القدس التي “تشكل مع النوادي ودور السينما والمكتبات والفنادق والمطاعم مظهرا من مظاهر النزوع المدني المرافق لنهوض الطبقة الوسطى ” ص42 والمقاهي التي كان يرتادها المثقفون والوجهاء، والمتقاعدون، لم تعد قائمة في غالبيتها مثلما أغلقت دور السينما أيضا، وقد عرفت المقاهي المقدسية ”الحكواتي” الذي كان يحكي السير الشعبية القديمة، وهذا ما لم يتطرق اليه الكاتب. ويبدي الكاتب أسفه لعدم ازدهار المؤسسات والأنشطة الثقافية في القدس ويصفها بأنها في حال لا تسُرّ البال ” ص46 ويبدي الكاتب حزنه لأن الابداع الفلسطيني في القدس وعن القدس قليل، ولا يتناسب وحجم المدينة التاريخي الحضاري، هذا الابداع الذي يجب ان يتواصل وينمو خصوصا وان المدينة تشهد حالة حصار يمنعها من التواصل مع محيطها الفلسطيني وامتدادها العربي، وان القوانين الاسرائيلية تحد من البناء العربي في المدينة، وتعمل على تهجير مواطنيها الفلسطينيين، اضافة الى تشتيت العائلات كما هو حال الشعب الفلسطيني. وهذا الكتاب بنصوص ويوميات وشهادات مؤلفه يشكل اضافة نوعية للمكتبة الفلسطينية والعربية عن مدينة تضرب جذورها في التاريخ، وتأبى أن تكون الا عربية. القدس والأقصى في ميزان السياسة والتجارة° عريب الرنتاوي أعادني إعلان تجاري قرأته من قصاصة عائدة لإحدى الصحف اليومية وفيه دعوة للناس لانتهاز فرصة حلول الشهر الفضيل ، وزيارة القدس والأقصى نظير مبلغ “مقدور عليه” من المال ، أقول أعادني هذا الإعلان إلى سجالات عباس ـ الهباش ومن والاهما من جهة والشيخ القرضاوي ومن تبعه ووالاه من جهة ثانية، حول جواز أو عدم جواز زيارة القدس والأقصى وهما ترزحان تحت نير الاحتلال، وهو سجال بلغ حداً مؤسفاً من الإسفاف والتكفير والتخوين والتسفيه.
والحقيقة أنني لا أريد أن أقارب المسألة أو أقترب منها من بوابة الشرع والدين، أو الحلال والحرام ، فإنا آخر شخص يمكن أن يبيح لنفسه أو يقبل من غيره ، أمر “تسييس الدين” أو “تديين السياسة”، وأفضّل أن أدخل للمسألة من بوابتها السياسية، وهذه البوابة تقول أن القدس والأقصى تحت الاحتلال، وأن الدخول إليهما لا يتم واقعياً، إلا عبر البوابة الإسرائيلية ، بتصريح من المحتل (فيزا) وترتيب من مؤسساته ومعها، ولن يكون لهذه الزيارات أثر من أي نوع، لا على تدعيم صمود الأهل في الوطن، ولا على مستوى تعزيز التضامن معهم. حتى وفقا لتقسيمات أوسلو الجغرافية، فإن القدس والأقصى ليسا في عداد المناطق “أ أو ب”، بل ولا “ج” حتى، فهما تنتميان إلى “ما وراء… ما وراء…المناطق ج”، وتصريح السلطة – الذي تمنحه إسرائيل بوساطة السلطة كما هو معروف – لا يمكن حامله من دخول القدس والأقصى ، فالسلطة نفسها، بمن فيها العناصر القيادية ووزير الأوقاف والرئيس ممنوع عليها وعليهما أن يَصًلوا القدس ويُصلّوا في أقصاها، وهم لا يدخلونها إلا للقاء أولمرت أو بارك أو ليفني أو من نظرائهما (لا أدري من هو نظير وزير الأوقاف في البروتوكول الإسرائيلي)،
فلماذا “يستبسل” الممنوعون من زيارة القدس في دعوة غيرهم لزيارتها، وفي غيبتهم وغيابهم وحضور محتلّيهم؟ نحن نفهم أن تدعو السلطة الناس لزيارة رام الله ونابلس والخليل، وأن تشجع “شد الرحال” إلى قطاع غزة المحاصر، وأن تعد زيارات من هذا النوع، تعميقا للتبادل والحوار والتعاضد بين الأهل والعشيرة، وتعزيزا للصمود، وذلك برغم كل ما يمكن أن يكون قيل أو قد يقال حول جواز هذه المسألة وجدواها، وهي مسألة إشكاليه على أية حال…ولكننا لا نفهم أبداً ، ولا بحال من الأحوال، هذا الترويج المتحمس لزيارة القدس والأقصى التطبيعية، فهي “تقدمة مجانية” يقدمها من لا يملك – والأمر ليس بيد الهباش او عباس كما تعلمون – لمن لا يستحق: الاحتلال. دعوات السلطة هذه ، لا يشبهها من حيث التناقض الحاد بين ظاهرها وباطنها، سوى إعلانات “سماسرة السياحة” المغلفة بـ”الورع الرمضاني” و”التقوى الإيمانية”، هؤلاء لا يترددون عن وضع الهلال على خلفية خضراء وسوداء من لون رايات المسلمين في بدر وأحد، لحث المواطنين على الصلاة في الأقصى حيث الركعة بخمسمائة ركعة، وفي رمضان ربما تصبح أكثر قيمة وجدوى، مع التذكير دائماً بإن إجراءات الحصول على “الفيزا” من السفارة الإسرائيلية تقع على عاتق الشركة السياحية ومسؤوليتها، ومن دون توضيح أين ستذهب “رسوم الفيزا” وهل ستسخدم لشراء المزيد من الاسمنت والحديد لبناء مستوطنات جديدة أم لتسديد أثمان القنابل العنقودية والفسفورية التي ألقي منها أو سيلقى على رؤوس الأطفال في جنوب لبنان وجنوب فلسطين.
في زمن المقاطعة الأكاديمية وتآكل صورة إسرائيل في العالم، هناك من بين ظهرانينا، ولأسباب تتصل بسياسته التجارية أو تجارته السياسية، للقيام بدور البلدوزر الذي يعبد طرق التطبيع مع الاحتلال وتفكيك أطواق العزلة عليه، ودائما باستخدام أنبل المبررات وأقدس الأعذار.
إنهم يغلفون الدناسة بالطهارة، ويروجون بضائعهم الفاسدة تحت ستار كثيف من “الوطنية” و”الأسلمة” الزائفتين، فبئس الأهداف والنوايا والمصالح الضيقة، التي تحشرج في الصدور الضيقة والعقول المريضة والنفوس الأمّارة بالسوء.