تاريخ

العالم السرى لفرقة “الحشاشين” الإرهابية

دموية ضالة استباحت القتل باسم الدين ورفعوا الإغتيال إلى مرتبة الواجب المقدس

الكاتبة شيرين أبوخيشة | القاهرة 

دفع ضرر العدو عن الدين والنفس والحرمة واجب إجماعًا فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه.

(ابن تيمية حوالي عام ١٣٠٠)

ترك الخليفة العاضد قاعة الذهب بعد خروج نجم الدين وابنه ولم يبقَ معه إلا أبو الحسن فلما خرج أمر الحاجب أن يأتي بصاحب اللباس لينزع عنه ثيابه وحلاه لأنه في حاجة إلى الراحة وألا يأذن لأحد بالدخول فأتى صاحب اللباس وأخذ في نزع العمامة وما عليها من الجواهر ووضع كل قطعة في علبة خاصة بها وجاءت الوصائف يحملن الثوب الآخر ليلبسه الخليفةوقد تغيَّرت سحنته وانقبضت أساريره واحمرَّت عيناه وشعر ببرد طقطقت له أسنانه واصطكت ركبتاه حتى لم يعد يستطيع الوقوف فبادر أبو الحسن إليه فأسنده وبالغ في التخفيف عنه ولكنه حالما لمس يده أحسَّ بحرارتها فعلم أن الخليفة مصاب بالحمى لكنه لم يشأ أن يخوفه.
ولما فرغ الخليفة من تبديل الثياب ألقى نفسه على السرير وقد أحس بانحطاط عزيمته فقال أبو الحسن
بماذا تشعر مولاي أمير المؤمنين فقال أشعر بارتعاد مفاصلي وببرد يتمشَّى في ظهري لا أظنه إلا من عواقب الكظم وتحمل الضيم آه يا أبا الحسن وقال ذلك بصوت مختنق وترقرق الدمع في عينيه فبادر أبو الحسن إلى التهوين عليه أن لكل أجل كتاب يا مولاي ولا بد من زوال هذه الأزمة…فقال وهو يلهث من شدة الحمى شعرت بهذه القشعريرة منذ ركبت في هذا الموكب لملاقاة هذا الكردي آه كيف أقوى على احتمالهم وقد سلبوني ما في يدي من سيادة وثروة وأنا مع ذلك لا أقدر إلا أن أجاملهم وألاطفهم وأرحِّب بهم
فمشَّط أبو الحسن لحيته بأنامله ثم قبض عليها وهو يتمتم كأنه يدعو أو يصلي ويُظهِر التقوى وسعة الصدر وقال لا بد من الصبر يا مولاي ولا شك أن الله سامعٌ دعاءنا فإني أصلي ليل نهار وأطلب إليه تعالى أن ينصفك من هؤلاء الظالمين فرد عليه إلى متى الصبر يا أبا الحسن كأنك لم تعلم بما فعلوه معي ولم تسمع إلا مجاملتهم لي بالكلام ومخاطبتي بالإمارة إنهم لم يتركوا لي من هذه الإمارة إلا لفظها إن يوسف صلاح الدين هذا قد منع المؤذنين من الأذان بجملة «حي على خير العمل» كما كانوا يفعلون في دولتنا وعزل قضاة مصر لأنهم من شيعتنا وولَّى قضاة شافعية على مذهبه وقبض على مرافق البلاد بيد من حديد وتقول لي اصبر أين الصبر قال ذلك وغص بِرِيقه وكان أبو الحسن صفراوي المزاج لا يبدو في سحنته شيء من التأثرات مهما بلغ من تأثيرها في قلبه أو لعل قلبه لا يتأثر إلا مما يريده أو هو قادر على التظاهر بما يشاء من غضب أو فرح أو حزن بغير أن يكون ذلك ناتجًا عن تأثر قلبه فلما سمع قول الخليفة تنحنح وأظهر الاهتمام وقال لا أزال أقول اصبر اتكل عليَّ فإني باذل نفسي في سبيل هذا الأمر وهو يهمني كما يهمك أليست الدولة دولتنا والشيعة شيعتنا وفي حياتها حياتنا وفي موتها موتنا ثق أني فاعل ما تريد ولولا خوفي من أن أثقل عليك لذكرت لك التفاصيل لكنك الآن في حاجة إلى الراحة فامضِ إلى فراشك إذا شئت وسأقص الخبر على الشريف الجليس وهو يقصه على مولاي
رد الخليفة وهو يتململ من القشعريرة افعل إني ذاهب إلى دار النساء ونهض فأعانه أبو الحسن على القيام وأتى بعض الخصيان تعاونوا على حمله على محفة في دهليز يؤدي إلى دار النساء فودَّعه أبو الحسن وقال أنا ذاهب بأمرك إلى الشريف الجليس أقص عليه ما يسرك ثم يلحق هو بك إلى دار النساء
فأشار الخليفة أن افعل وكانت دار النساء قصرًا قائمًا بنفسه لكنه يستطرق إلى قاعة الذهب بممر مسقوف لانتقال الخليفة إليه متى شاء وللقصر باب خاص عليه الحرس من الخصيان وكان رئيسهم من عهد غير بعيد خصيًّا يُسمى مؤتمن الخلافة فأتى عملًا أغضب صلاح الدين فقتله وجعل مكانه الطواشي بهاء الدين قراقوش أحد رجاله المخلصين.
صار العاضد في تلك الدار أنزلوه من المحفة فمشى وهو يتوكأ على بعض الغلمان وهم يظنونه يطلب الذهاب إلى حجرة إحدى نسائه فإذا هو يشير إليهم أن يأخذوه إلى حجرة أخته سيدة الملك وكانت عاقلة حازمة يرتاح العاضد لحديثها ويستأنس بآرائها. كأنه وهو في تلك الحال أحس بحاجته إلى رأيها.
ساروا به في رواق يؤدي إلى غرفتها وهي منفردة عن سائر غرف القصر ولما بلغها نبأ قدومه خرجت لاستقباله وأعانته على الدخول إلى غرفتها فجلس على مقعد وهي تقول له ما بال أمير المؤمنين ومم يشكو روحي فداه فقال أشكو من برودة وقشعريرة اصرفي الخدم فإني أحب السكينة ولا يبقى في هذه الغرفة غيرناففعلت وكانت سيدة الملك جميلة الخلقة طويلة القامة صبوحة الوجه ذهبية الشعر جذابة المنظر إذا نظرتَ في وجهها شعرت بهيبة تنجلي في عينيها. وهي أكبر من أخيها الخليفة ببضع سنين إذ إنها في الخامسة والعشرين من العمر فلما خلت به جلست بجانبه على السرير وطوَّقت عنقه بيدها وهي تقول مم يشكو أخي حماه الله من كل أذى إذا اعتل أمير المؤمنين اعتل الناس جميعًا
فأسند رأسه إلى كتفها وتنفس الصعداء أشكو حسب الظاهر من حمى تنتابني لكن العلة الحقيقية في هذا القلب وأشار إلى صدره ثم أرخى يده من شدة الحمى فجسَّتها فرأتها شديدة الحرارة فقالت هل أدعو لك الطبيب،قال كلا إن هذه الحمى ستنصرف الليلة ولكن إذا كنت تعرفين طبيبًا ينقذني من أولئك الأكراد فعليَّ به فأظهرت أنها تمازحه قائله ولو عرفت طبيبًا في الهند وعلمت أنه يشفيك لذهبت إليه بنفسي ولكن فرفع رأسه عن كتفها ليعاتبها بنظره فوقعت عمامته فمد يده ليتناولها فتناولتها هي ووضعتها على رأسه فقال إنك تتجاهلين يا سيدة الملك إنك أفطنُ من ألا تنتبهي إلى مرادى فضحكت وقالت أني فهمت مرادك فأنا لا أرى الأمر يستوجب الاهتمام إلى هذا الحد اصبر لا بد من الفرج فتنهد وهو ملقٍ رأسَه على كتفها وحوَّل عينيه نحو وجهها وقال لم أجد بين رجالي مَن يسعفني في هذا الأمر إلا ابن عمنا أبو الحسن فإنه تقي غيور وقد أكد لي أنه باذل جهده في هذا السبيل فلما سمعت اسم أبي الحسن أجفلت وكادت البغتة تظهر في وجهها لو لم تبادر إلى التجلد ولو انتبه العاضد وهو مستلقٍ على صدرها لشعر بتسارع ضربات قلبها حالما سمعت ذلك الاسم لكنه تطرق شاغل من أمر نفسه أما هي فتجلَّدت وقالت كيف أكد لك ذلك رد عليها أكده لي اليوم وسيذكر تفصيله للشريف الجليس وهو يقصه علينا متى جاء بعد قليل ،وسألته هل تصدِّق هذا الرجل وبان الكدر في عينيها فأجابها كيف لا أصدقه إنه رجل محب مخلص ومن ذوي قرابتنا وأنت تعلمين غيرته على دولتنا فهزت رأسها وسكتت ولسان حالها يقول إنه منافق
فاعتدل العاضد في مجلسه لأن الحمى أخذت في الهبوط واشتدت عزيمته وقبض على يد أخته وهو يقول أرى الحمى تخف وطأتها عني أليس كذلك أنت يا سيدة الملك سيئة الظن في هذا الرجل منذ عرفناه لغير سبب أو دليل فإنه من أبناء عمنا نعم إنه ليس من أحفاد الحافظ لدين الله جدنا ولكنه من أحفاد الآمر بأحكام الله فهو من أعمامنا
قالت فليكن ما شئت وتشاغلت بطرف ضفيرتها الذهبية تفتله بين أناملها وبان الغضب في وجهها.
فقال وما الذي يغضبك من ذكره إنك تكرهينه بلا سبب وهو بعكس ذلك لم أسمع منه إلا التعلق بك إنه يتفانى في سبيل إرضائك فنظرت إليه شزرًا نظر العاتب وقالت أكثر الله خيره إني لا ألتمس هذا الرضا قال لا حاجة بنا إلى التمسك بالرفض وهو ابن عمنا.
قالت بصوت مرتاب ومَن يؤكد لنا صدق انتسابه إلى الآمر ليس عنده دليل غير شهادته لنفسه … دعنا منه إنه لا يستحق الاهتمام.
قال إنك تظلمينه بهذا الحكم وأراد أن يتم كلامه فإذا بأحد الغلمان دخل ووقف فعلمت سيدة الملك أنه آتٍ بخبر فقالت ما وراءك قال إن الشريف الجليس بباب القصر يطلب المثول بين يدي مولانا أمير المؤمنين والطواشي بهاء الدين قراقوش يمنعه فالتفتت إلى الخليفة وسألته إذا كان يشعر براحة تؤهله لمجالسة الشريف الجليس فقال إني أشعر براحة فليأتِ
فالتفتت إلى الغلام وقالت امضِ إلى الطواشي أَنْبِئه أن أمير المؤمنين هنا يريد أن يرى الشريف الجليس فلا يمنعه من الدخول فمضى الغلام وأحست سيدة الملك باستياء أخيها من معاملة بهاء الدين ولكنها تجاهلت وبعد قليل جاء الجليس وهو شيخ طاعن في السن يجالس الخليفة ويؤانسه ويحدِّثه وهو مستودع أسراره فلما رآه الخليفة هشَّ له وأمره بالجلوس بين يديه ولم تحتجب سيدة الملك عنه لأنه من المقربين وقد عرفته من صغرها فاكتفت بتغطية شعرها والالتفاف بمطرف من الخز فوق أثوابها وجلست على كرسي بجانب سرير أخيها إما الخليفة فنظر إلى الجليس نظر استفهام عما جاء به فأدرك هذا غرضه فقال جئت للسؤال عن صحة مولاي فقد بلغني من الشريف أبي الحسن أنك أصبت بحمى لا أصابك الله بسوء وأرواحنا فداك
فابتسم وقد استلطف عبارة الجليس وقالو إني بدعائك وحسن نيتك قد زال عني كل بأس جس يدي قد ذهبت الحمى ما الذي جئتنا به غير ذلك فجسَّ يده وأشار بعينيه إشارة الاقتناع وإن لم يقتنع وقال نحمد الله على ذلك فقال الخليفةقل ما الذي جئتنا به قال خيرًا إن شاء الله وظهر في ملامح وجهه أنه يكتم شيئًا لا يستحسن ذكره بين يدي سيدة الملك.
فأدركت ذلك ونهضت وقالت إذا كان وجودي يمنع الجليس من الكلام فإني خارجة فأمسك أخوها بثوبها وقال اجلسي لستِ ممن يُكتم عنهم تكلم يا عماه ما الذي جئت به ،قال إني جئت بأمر ذي بال. هل تأذن أن أقول كل شيء
قال قل ولا تخف ما الذي أطلعك عليه أبو الحسن من مساعيه في سبيل مصلحتنا إنه محب غيور
قال أصبت يا سيدي إن حسن الصباح شديد الغَيرة على منصب أمير المؤمنين وهو ساعٍ في إنقاذنا من هذا العدو المقيم فتوجَّه الخليفة نحو الجليس بلهفه متسائلا من هو فأجابه الجليس وهو يخفض صوته ويتطاول بعنقه كأنه يحاذر أن يسمعه أحد يرى الحسن يا مولاي أن العقدة التي يطلب حلها إنما هي يوسف صلاح الدين هذا فإذا ذهب تخلصنا من كل هذه الشرور … و الحسن في إنقاذنا منه …فقال العاضد: «وكيف ينقذنا»
فأشار الجليس بكفِّه على عنقه إشارة الذبح يعني أنه يقتله فبان الاستغراب في وجه الخليفة وقال ” مَن يقتله” ليس في مصر كلها مَن يجسر أن يمد يده إليه
قال ليست هذه خطته إنه سيُقتل هذا الرجل بدون أن يُعرف القاتل ألا يعرف مولاي جماعة الباطنية أو الإسماعيلية فأجفل العاضد عند سماع ذلك الاسم وقال نعم أسمع بهم وأسمع أنهم من أنصارنا أصلهم من شيعتنا ولكنهم الآن قوم شغلهم القتل
فقطع الخليفة كلامه وقال ليس هذا شأنهم اليوم فقط أظنك حدثتني عن أفعالهم غير مرة ألم تقل لي إنهم قتلوا الملك الأفضل أمير الجيوش وزير الآمر بأحكام الله وكان رئيسهم يومئذٍ يُدعى بهرام وهم قتلوا نظام الملك وزير ملك شاه السلجوقي وقتلوا غيره لقد قتلوا كثيرين. هذا هو شغلهم
فقال العاضد «مَن هو زعيمهم الآن وأين هم»
قال إن أصلهم يا سيدي من أتباع الحسن بن الصباح في زمن جدك الحاكم بأمر الله رحمه الله أي منذ أكثر من مائة وخمسين سنة فأقام حسن هذا في قلعة ألاموت قرب قزوين وألَّف جمعية من الفدائيين الذين لا يخافون الموت ويُعرفون بالحششة أو الحشاشين نسبة إلى عقار مخدر يتناولونه يسمونه الحشيش وتوالى عليهم زعماء كثيرون في بلاد فارس والعراق والشام وزعيمهم الآن يُقال له راشد الدين سنان يقيم في جبل السماق من أعمال حلب يعتصم هناك بالقلاع وعنده رجال مجربون يطيعونه حتى الموت إذا أمر أحدهم بقتل ملك أو سلطان بادر إلى الطاعة حالًا وقد قتلوا كثيرين وللشريف أبي الحسن صداقة شخصية مع سنان هذا بالنظر إلى نسبه الشريف وله عليه دالة فإذا أمره أن يبعث رجلًا يقتل هذا الرجل فبان البِشرى في عيني العاضد يخالطه الاستغراب وقال وكيف يستطيع القاتل أن ينجو من هذا المعسكر وكيف يصل إلى يوسف ودون الوصول إليه سدود وعراقيل ،قال إن هؤلاء الفدائيين يتنكرون عادة بألبسة السُّيَّاس أو الخدم ويختلطون بالخدم زمنًا يترقبون الفرص فإذا سنحت فرصة فعلوا فعلهم ثم لا يهمهم ماذا يصيبهم بعد ذلك ولا يبالون بالموت لأنهم يرون القتل في هذا السبيل حياة سعيدة
فالتفت الخليفة إلى أخته يلتمس مشاركتها فرآها مطرقة تفكر فقال لها أرأيتِ اهتمام هذا الشريف بمصلحتنا فظلت ساكتة ولم تُجِب.
فالتفت إلى الجليس وقال هل أخبرك متى يباشر هذا العمل فتشاغل الشيخ بحك عثنونه وسعل وتنحنح وبان الارتباك في عينيه فلم ينتبه الخليفة له أما سيدة الملك فلم يفتها ما ينطوي تحت تلك الحركات فأخذت تختلس النظر وتصيخ سمعها فإذا هو يقول إنه مولاي يشترط عليَّ هذا العمل شرطًا واحدًاوإن مولاي يعلم أن أبا الحسن عريق في النسب الشريف. وهو أكبر أبناء عمكم المرشحين لولاية العهد سنًّا
فلحظت سيدة الملك غرضه فبادرت قائلة أظنه يشترط أن يكون وليًّا للعهد بعد أمير المؤمنين
فأجاب الشريف بسرعة كأنه يعتذر عن تطاول الحسن إن طلبه هذا من قبيل الجنون ولا معنى له لأن مولانا أمير المؤمنين أطال الله بقاءه وعجَّل موتنا قبل أن يُصاب بسوء ما زال شابًّا في مقتبل العمر وأبو الحسن في حدود الكهولة ولكنه يشترط ذلك ترضية لنفسه على تحمل تلك المشقة مع ما يحدق بها من الخطر ومَن يدري هل يبقى حيًّا يومًا واحدًا بعد تنفيذ مهمته يشترط أن يكون ولي عهد الخلافة إن الرجل لا يرجو أن يتولى الملك ولكنه يحب أن يتمتع بولاية العهد فقط على ما يظهر
فأطرق الخليفة وهو يُعمِل فكره والتردد ظاهر في عينيه ثم رفع بصره إلى الجليس وقال وما رأيك
قال إذا أذن لي مولاي فإني أرى أن يوليه الولاية ويشترط في عقدها أن تكون بعده إلى نجلكم سيدي الحامد لله الأمير داود ولي العهد الحقيقي فإذا استطاع إنقاذنا من هذا الكردي وإعادة النفوذ إلى مولاي أمير المؤمنين فإنه يكون قد استطاع عملًا لم يستطعه سواه وتكون ولاية العهد ترضية معنوية له
ولحظت سيدة الملك أن أخاها أوشك أن يُقبِل وظهر لها من خلال حديثه أنه راضٍ أن يزوجها به وهي لا تقدر أن تتصوره بل هي تكرهه كرهًا شديدًا لغير سبب سوى الشعور الذاتي فإنها تتصور فيه الخبث والخيانة ثم هي منصفة لا ترى صلاح الدين يستحق القتل لأنه لم يعمل عملًا يستوجب ذلك وإنما هي السيادة تَحمل طُلابها على انتحال الأسباب الباطلة فنظرت إلى أخيها وقالت تريد أن تقتل صلاح الدين وتستبدل به أبا الحسن هذا إذا استطاع قتله سميته ولي العهد ومامصير داود ابنك سيكون وليًّا للعهد بعده ولماذا هذا العمل ولماذا تريد التخلص من صلاح الدين وترتكب كل هذه الآثام والأخطار في سبيل قتله ماذا فعل قال تسألينني عما فعله كأنك لا تعلمينه ،ردت سيده الملك ربما كنت أعلمه لكنني أحب أن أسمع ذلك من أمير المؤمنين
قال إنه جعل كل النفوذ له ولم يبقَ لي من السيادة غير الاسم ألم يكن الوزراء هم أصحاب النفوذ وكلهم من الأجانب الأرمن أو الأتراك وهذا كردي وما الفرق
فأحس أنها فازت عليه بالبرهان فلم تصبر حتى يتم كلامه فقالت إذا كان قد استبد فإنما استبد في رفع الظلم عن الناس كانت المكوس لا تُحتمل فرفعها أو خففهاألأجل ذلك تدس الدسائس عليه وتكيد المكايد لقتله إن الساعين في ذلك هم طلاب السلطة وهم يحسدون الرجل على مكانته ولذلك يثيرون غضب أمير المؤمنين عليه وإذا شاء أخي أن يعرف حقيقة منزلة هذا الكردي فليتذكر الطريقة التي استنجدنا بها سلطانه نور الدين ألم ترسل شعورنا مع كتاب نور الدين تقول فيه هذه شعور نسائي في قصري يستعنَّ بك لتنقذهن من الصليبيين فالرجل لبَّى الطلب وأنجدك بأسد الدين وابن أخيه هذا يوسف صلاح الدين هل يستنجد قائد بطريقة أذل من هذه إن شعري لا يزال ينقص تلك الخصلة التي قطعتها منه قالت ذلك وجست ضفائرها كأنها تتحقق من ذلك ثم عادت إلى الحديث فقالت ومع ذلك فقد اشترطنا لنور الدين أن نعطيه ثلث البلاد إقطاعًا غير إقطاع رجاله ولما أتوا وأنقذونا من الإفرنج نسينا جميلهم وصار وزيرك شاور يدافعهم ويماطلهم فقتلوه ويشهد الله أن صلاح الدين أحسن قلبًا وأشد إخلاصًا لك من شاور هذا لكننا لم نستفد من هذا الحادث فشجعنا الخصي مؤتمن الخلافة قيم هذه الدار على مناهضة صلاح الدين ورجاله حسدًا منه ألا يعلم مولاي وأخي ماذا فعل مؤتمن الخلافة إنه اتفق مع جماعة من المصريين على مكاتبة الصليبيين ليتحد معهم على قتل صلاح الدين فهل فعل ذلك غيرة عليك أو على الدولة وبلغ خبره إلى صلاح الدين فقتله فغضب خصيان القصر لمقتله لأنهم سود من جنسه فاجتمع منهم خمسون ألفًا وناهضوا رجال صلاح الدين والتقى الجيشان أمام هذا القصر ونحن فيه لا أنسى هول ذلك اليوم ولا أنسى أمير المؤمنين يومئذٍ وقد جلس في المنظرة يشرف على المعركة ويشجع العبيد فاشتدت عزائمهم وخاف صلاح الدين أن تعود العائدة عليه وعلى رجاله فأمر النَّفَّاطين أن يرموا قوارير النفط المشتعل على المنظرة وعلى القصر فقطع الخليفة كلامها ولكنني شجعت رجال صلاح الدين فأرسلت زعيم الخلافة يقول دونكم والكلاب العبيد أخرجوهم من بلادكم فامتنعوا عن إرسال النفط ولكنك لم تقل ذلك إلا خوفًا على المنظرة من الحريق وكانت سيدة الملك تتكلم بحماسة وكل جوارحها تتكلم معها وقد توردت وجنتاها وأبرقت عيناها فلما وصلت إلى ذكرى الحريق امتقع لونها وتغيرت ملامحها كأنها فوجئت بذكرى محزنة فتوقفت عن الكلام فاستغرب أخوها تغيرها فجأة والتفت إلى الجليس فرآه ينظر إليها أيضًا.
أما هي فتجلدت وعادت إلى الكلام قائلة ولم يكن كلامك وحده الذي أوقفهم هذا الموضوع الآن في تذكره ما يؤلمني ويؤلمك وأنت أحوج إلى الراحة والسكينة وتشاغلت بإصلاح نقابها على رأسها فجس العاضد يده وقال إني في خير ولا بأس بي وقد زالت الحمى والحمد لله قولي ما هو السبب الآخر فمدت يدها إلى جيبها واستخرجت خصلة من الشعر ذهبية من لون شعرها ودفعتها إليه وهي تقول هل تعرف هذا الشعر،فأجفل وقال هو شعرك هذه هي الخصلة التي قطعتها من شعرك وأرسلتها في جملة شعور نسائي إلى صاحب دمشق من أين أتتك وكيف وصلت إليك … وصلت إليَّ في ذلك اليوم الذي نشبت فيه الحرب بين عبيدنا ورجال صلاح الدين
قد ذكرت أنت الآن أن صلاح الدين منع رجاله من إرسال قوارير النفط قبل أن ينطلق منها شيء على القصر قد يكون هذا الواقع لكنني أعلم أننا ونحن في هذا القصر وقلوبنا ترتجف هلعًا والسهام تترامى علينا من رجال صلاح الدين رأيت قارورة مشتعلة وقعت في الدار قرب حجرتي هذه لا أدري من أين أتت فذعرت وصحت بالخدم أن يتلافوا خطرها فلم يسمعني أحد لاشتغال الرجال برمي النشاب بعيدًا عني وبينما أنا في ذلك وأهل القصر كل منهم في شاغل من نفسه إذ رأيت رجلًا متنكرًا بثوب الخصيان قد غطى وجهه باللثام وثب من داخل الدار لا أدري كيف دخلها فذعرت ولكنني ظننته أسرع إلى نجدتي فما عتَّمت أن رأيته أمسك بيدي وجذبني إليه كأنه يريد أن أتبعه فتخلصت منه فعاد وأمسكني ثانية وجذبني إليه كأنه يريد أن يحملني ويطير بي ولم يكن في هذه الغرفة أحد يراني فصحت واستغثت فلم يُسمع صوتي لأن الضوضاء كانت قد ملأت هذا الفضاء ثم جاء رجل آخر أعان الأول على اجتذابي وهما يشيران إليَّ أن أتبعهما وهددني أحدهما بخنجر استله من منطقته فأثر فيَّ ذلك المنظر وخارت قواي وكدت أُغلب على أمري وقد ذهب نقابي وانحل شعري وإني لفي ذلك إذ رأيت شابًّا وثب نحوي يظهر من لباسه أنه من رجال صلاح الدين فأيقنت أنه سيعين ذلك الرجلين عليَّ وإذا به صاح بهما صيحة الجبارين وخنجره مسلول في يده وأوشك أن يقتلهما فلما رأياه خافا وتركاني وعمدا إلى الفرار وظل هو واقفًا كالأسد ونظر إليَّ بلطف وقال لا تخافي يا سيدتي إني من رجال صلاح الدين المحاصِرين لهذا القصر ورأيت الرجلين يعذبانك وحالما رأيت شعرك الذهبي علمت أنك من نساء الخليفة فبادرت إلى إنقاذك وأحمد الله أني قد فزت فأكد لي أنهم لم يُلقوا نفطًا علينا وإنما كان ذلك من بعض اللصوص رموا النفط من جهة أخرى لغرض لهم ولعلهم أرادوا أن يشغلوا الناس بالنار ويختطفوك ولما وصلت سيدة الملك إلى هذه العبارة تغيرت سحنتها وتوردت وجنتاها وبلعت ريقها وهي تلهث من التأثر.
وكان الخليفة والجليس يسمعان كلامها ويراعيان الحماسة التي كانت تتجلى في محياها ولحظا التغير الذي طرأ عليها عند ذكر ذلك الشاب ولم ينتَبِها لما يخالج قلبها من جهته فلما سكتت قال العاضد مَن هو هذا الشاب وكيف عرف أنك من نساء الخليفة إنه لأمر غريب كيف يعرفك شاب غريب وأنت لا تخرجين إلا محتجبة هو مع ذلك من رجال صلاح الدين قولي الحق،قالت وهي تنظر إليه شزرًا إنك تتهمني يا أمير المؤمنين ولا مكان للريب قد سألت الشاب كيف عرفني فمد يده إلى جيبه واستخرج هذه الخصلة ودفعها إليَّ وقال أليست هذه من شعرك وأدناها من شعر رأسي فإذا هما بلون واحد فابتدرها الخليفة مسَّ شعرك بيده
دافعت عن نفسها إنه لم يمسه ولكنه أدناها من شعري إنه شاب غير متهم وأنا مدينة له بحياتي وشرفي ولولاه لذهبت فريسة للخائنين وإنى لم أعرفهما يقينًا ولكنني كدت أعرف أحدهماولا أستطيع القول لأني أخاف أن يخطئ ظني فأجلب الأذى لرجل بريء. ولولا ذلك لأطلعتك على هذا الحادث من ذلك اليوم وقد مضى عليه الآن أكثر من سنة ولم أذكره لك لئلا ألقي الشك في خاطرك إني لم أقل ولا أقول الآن خوف الوقيعة بالأبرياء وقد نجوت والحمد لله ولكنني قصرت في حق ذلك الشهم الذي أنقذني قالت ذلك وأبرقت عيناها ولو تفحَّص أخوها صدرها لرأى قلبها يخفق خفقانًا سريعًا لكنه لم يفقه ذلك ولم أسأله عن اسمه وكنت أتوقع أن يأتيك في اليوم التالي ويقص عليك ما وقع فتكافئه إنه لم يفعل وأنا لم أتمكن من رؤيته أما هو فبعد أن اطمأن عليَّ وتحقق نجاتي من الخطر دفع إليَّ هذه الخصلة وهو يقول خذي يا سيدتي هذه الخصلة من شعرك صيانة لها من أن يمسها غير مستحقيها ولم يكن يجدر بالخليفة أن يرسلها وسيلة للاستغاثة قال ذلك وانصرف مسرعًا سرعة البرق ولم أعد أراه من ذلك الحين …فصاح العاضد وقد امتقع لونه من شدة الغضب لماذا لم تخبريني حتى الآن أيصيبك مثل هذا الأمر وتكتميه طول هذه المدة من تجاسر على هذا العمل من تظنين ذلك الرجل غلى صدر الخليفة من شدة الحنق ونسي ضعفه في ذلك اليوم ونهض بسرعة فقبض على الخصلة واجتذبها من يد سيدة الملك وجعل يتفرس فيها ويقابلها بسائر الشعر فإذا هي منه فالتفت إلى الجليس وقال ماذا ترى يا عماه كيف يدخل الغرباء قصري ومعهم شعور نسائي ولكن آه أنا المذنب لأني تسرعت في الاستغاثة فأرسلت شعور نسائي إلى صاحب دمشق ولكن كيف وصلت هذه الخصلة إلى هذا الشاب وكيف احتفظ بها حتى عرف صاحبتها
وكان الجليس يسمع ويرى وقد أخذته الدهشة فلما رأى غضب الخليفة وشدة تأثره قال خفف عنك يا سيدي لكل شيء سبب ولا يهمنا سبب وصول هذه الخصلة إلى ذلك الكردي بقدر ما يهمنا معرفة الرجل المتنكر الذي أراد اختطاف مولاتي سيدة الملك مَن يجسر على ذلك
فالتفت العاضد إلى أخته وقال مَن تتهمين من ذلك النذل الذي تجاسر على دخول قصري وخرق حرمتي قال ذلك وهو يلهث وقد احمرت عيناه وأرجع الخصلة إليها ورجع إلى مقعده وقد أحس بانحلال قواه وحياة رأسي ألا قلتِ مَن هو ذلك الخائن وأعدك ألا أسارع إلى الانتقام إلا بعد التبصرفتقدمت أخته نحوه وأخذت تخفف عنه وتمسح جبينه وتقول له لا تغضب يا أخي اسمح لي ألا أذكر اسم الرجل الذي أتهمه لأني اتهمته بالظن وبعض الظن إثم وأنا واثقة أن هذه التهمة مهما تكن ضعيفة فهي تكفي لإيقاع الأذى بصاحبها فحرام عليَّ أن أعرِّض نفسها للهلاك
فأطرقت وهي تصلح نقابها على رأسها ثم جعلت تلاعب خصلة الشعر بين أناملها وأخوها شاخص فيها ينتظر نطقها فلما استبطأ جوابها قال ما بالك لا تقولين قالت بالله دعني سأقول لك ذلك بعد الآن دعني أفكر قليلًا فالتفت الشيخ الجليس إلى العاضد وقال دعها يا مولاي الآن ولا تغضبها وستقول لنا وليس في الأمر ما يدعو إلى العجلة ولنرجع الآن إلى ما كنا فيه من أمر النجاة من هؤلاء الأكراد ماذا رأى مولاي فيما عرضه علينا ابن عمه أبو الحسن
فلما سمعت سيدة الملك ذلك الاسم مرة أخرى اقشعر بدنها ولكنها تمالكت وصبرت لتسمع ما يقوله أخوها فالتفت إلى الجليس وقال هو يعدنا بقتل الرجل ويطلب ولاية العهد مكافأة له فنحن نعده بذلك
وعدُ أمير المؤمنين يكفي وقوله حُجة لكن أبا الحسن لا يصدقني فهل تكتب له كلمة قال لا. لا. يكفي أن تقول له ذلك شفاهًا فتبسَّم وقال قد أدركت من حديثك أنك لا تحبين أبا الحسن فابتدرته ولماذا أحبه وهل يتطلب مني ذلك قال لا لكنه يلتمس التقرب من أمير المؤمنين والتشرف به فالتفت الجليس إلى العاضد وقال مراده وتنحنح ثم حوَّل وجهه نحو سيدة الملك فأدركت ما يعنيه وكان قد ذكر لها مرة قبل هذه رغبة أبي الحسن في الزواج بها فرفضت فلما سمعته يشير إلى ذلك تجاهلت وقالت لا أفهم مرادك ردعليهاأظنك فهمت ما أعنيه إني لاأرى أكفأ من أبي الحسن لأختي فاعتدل الجليس في مقعده وقال لا ريب أنه خير كفء لما يتصل به من النسب الشريف فضلًا عن تعقله ودهائه ويكفي ما رأيناه من تفانيه في مصلحة مولاي لإنقاذه من هؤلاء القوم والذي أراه أن نوافقه على هذا الطلب فيهون عليه السكوت عن الشرط الآخر أعني إذا كان جواب مولاي من حيث خطبة مولاتي له بالإيجاب لا أظنه يشدد في طلب الشرط بولاية العهد بل يكتفي بهذا لأنه شديد الاحترام لسيدة الملك ويُعد حصوله عليها منة كبرى وعند ذلك يكون هو عونًا لنا فيما نريد بلا شرط فلما سمعت سيدة الملك ذلك التصريح قالت وهي تتصنع خفض صوتهاهو يطلب أن يتزوجني وأنت تستحسن ذلك وأحب أن أعرف رأي أخي أمير المؤمنين أيضًا فظنها تعني ما تقوله حقيقة وهو يريد أن تقبل طمعًا في النجاة من صلاح الدين فقال وهذا هو رأيي أيضًا كما تعلمين من قبل فأجابت ببرود «لكنه ليس رأيي أنا» وحوَّلت وجهها عنه.
فقال العاضد يظهر أنك ما زلت على خطتك إن أبا الحسن ليس في أهلنا جميعًا مَن هو أكفأ منه لك هذا إلى تفانيه في خدمتنا فقالت إني لا أطلب كفؤًا ولا غير كفء قلت لك من قبل إني لا أطلب الزواج دعنا من هذا الآن وليطلب النصيب من طريق آخر
وحاول الجليس إقناعها إذا قبلت فإنها تخدمين مصلحة مولانا الأمير لأن أبا الحسن أقدر إنسان في الدنيا على إنقاذه فنظرت إليه نظر الاستخفاف إن أبا الحسن كاذب إنه لا يستطيع شيئًا من ذلك
فضحك الجليس ضحك استعطاف قد ظلم بهذا الحكم يا سيدتي لأني على يقين من تفانيه في خدمة مولانا وهو صادق الغَيرة على شرف آل البيت لأنه من صميمهم ،فقالت وهو كاذب في هذا أيضًا إن آل البيت عُرفوا بصدق اللهجة والإخلاص وهذا رجل كاذب منافق وكفى فامتعض العاضد من حكمها بهذه الصراحة وقال لا دليل على ما تقولين غير قولك وقد عرفت الرجل من بضعة أعوام ولم أرَ منه إلا كل مودة وإخلاص ولا أعلم كيف جاز لك الحكم عليه بالكذب والنفاق ،فردت أما أنا فأعلم وستبدي لك الأيام صدق قولي أظنك قد تعبت يا أخي وأتأسف لأننا شططنا بالحديث إلى هذا الحد وأنت منحرف المزاج فاذهب إلى فراشك وسترى في الغد أني أقول الحق وكان العاضد قد تعب فعلًا وكان لقولها تأثير شديد فيه … فرأى أن يطيعها ويؤجل الأمر إلى فرصة أخرى فنهض الجليس وذهب كل إلى فراشه والخليفة أحوج إلى الرقاد.
كان الجليس أقلهم رغبة في الرقاد لما أصابه من الفشل في المهمة التي كلفه أبو الحسن بقضائها وكان الجليس شيخًا حسن الظن قد استهواه أبو الحسن بدهائه ومواعيده وأقنعه ببرهانه وذلاقة لسانه أن انتقال ولاية العهد إليه خير للدولة له ولكل مَن فيها ولم يكن عند الجليس شك في اقتدار أبي الحسن على إنقاذ الدولة من صلاح الدين فلما كلفه بهذه المهمة سعى فيها من كل قلبه وصمَّم على ترغيب العاضد فيها وهو يعتقد أنه يخدم بها مصلحته فلما عاد بالفشل أصبح لا يدري كيف يبلغ أبا الحسن نتيجة تلك المهمة فأعمل فكرته في تلطيف الأسلوب حتى لا يثقل الأمر عليه.
وكان أبو الحسن نازلًا في دار الأضياف على مقربة من القصر الغربي وهي دار كبيرة كانت في الأصل قصرًا للمظفر بن أمير الجيوش أقام بها حتى تُوفي فجُعلت دارًا لأضياف الأمراء والوافدين من قبل الملوك ويتولاها نائب يُسمى عدي الملك ينوب عن صاحب الباب في لقاء هؤلاء الضيوف ويُنزِل كلًّا منهم في دار تصلح له ويقيم له مَن يقوم بخدمته ثم صار صاحب دار الأضياف يُسمى في الدولة التركية المهمندار ..وكان عدي الملك كثير العناية بابن الحسن لما رأى من تقربه إلى الخليفة ومنزلته عنده فأفرد له دارًا خاصة وأمر الغلمان بخدمته وكان أبو الحسن قد سحره بمظاهراته وبما يقصه عليه من اقتداره وعلو منزلته والدولة في أواخر أيامها تروج فيها السفاسف والمظاهرات ويتعلق أصحابها بالأوهام دون الحقائق وبالقشور دون اللب ويشتغل كل منهم بنفسه ويصبح همه الاحتفاظ برزقه ورزق أهله وهو يتوقع زوال الدولة فلا يرجو ضمان ذلك فيها فتطيش آماله وتتعلق بأضعف الأسباب وأوهى المواعيد والإنسان إذا تولاه اليأس في أمر صدَّق كل قول يعيد إليه الأمل ولو كان ذلك القول من المستحيلات ويتكاثر أهل الدسائس في مثل هذه الحال للاصطياد في الماء فيزينون القول ويزوقون الأعمال فيصبح أكثر معول الناس على الظواهر وكان أبو الحسن من أولئك الصيادين وهو من أهل الدهاء والذكاء قوي الحجة لا يبالي بما قد يرتكب في سبيل الوصول إلى غرضه من قتل أو كذب أو تملق أو تزلف والذكي الداهية إذا أغضى عن مراعاة الذمة وصدق النية لا يعجزه الوصول إلى ما يبغيه من الأغراض وكان أبو الحسن طامعًا في الخلافة أو ولاية العهد على الأقل كما تبين من حديث الجليس الشريف فاتخذ كل وسيلة تؤديه إلى ذلك الغرض ومن جملة ذلك طلبه التزوج بسيدة الملك لعلمه بنفوذها على أخيها ولأن انتسابه إلى العلويين يتأيد بزواجها حتى إنه يفضل التزوج بها أولًا فيسهل عليه كل ما يبغيه لكنها لم تكن تحبه ولا تخلص له ولا كانت تعتقد صحة نسبه.
وفي الصباح التالي بكَّر الجليس إلى أبي الحسن في دار الأضياف قبل أن يطلبه الخليفة لمجالسته وكان أبو الحسن في انتظاره على مثل الجمر لكنه حالما جاءه الغلام ينبئه بمجيئه نهض لاستقباله ورحَّب به وأظهر أنه لم يكن يتوقع مجيئه واهتمامه إلى هذا الحد فابتدره بالسؤال عن صحة الخليفة فارقته مساء أمس أحسن حالًاأرجو أن يكون العارض قد زال بحول الله بزوال السبب ..فأدرك الجليس غرضه فقال أرجو أن يزول السبب تمامًا وعند ذلك نتحقق زوال المسبب إن السبب لا بد من زواله بإذن الله إني أفعل ذلك لمصلحة أمير المؤمنين وأنا أحبه وأحترمه لا لغرض يهمني
فأُعجب الجليس بطيب عنصره وازداد خجلًا من التصريح له بما جرى أمس ولحظ أبو الحسن سبب ارتباكه لأنه كان يتوقع رفض الخليفة طلبه ويعلم أن سيدة الملك لا تقبل خطبته من أول طلب فتجاهل ونظر إلى الجليس وهو يظهر السذاجة وسلامة النية وقال إنما أرجو أن يطمئن مولانا أمير المؤمنين منذ الآن أنه ناجٍ من كل شر ليرتاح خاطره ويسترجع صحته فأنى أكدت له عزمك وهو يعتقد اقتدارك على هذا الأمر وتشاغل بحك لحيته وقد ارتج عليه.
فابتدره أبو الحسن أود أنك لم تفاتحه بما كنا تحادثنا به البارحة من حيث ولاية العهد لئلا يظنني أعلِّق أهمية هذا الشرط إني لم أعنِ اشتراطه ولا جعلت نجاة الخليفة متوقفة على إنفاذه لكنني متى وفقت إلى إنقاذه لا أظنه إلا فاعلًا ذلك من نفسه.
فلم يصبر الجليس إلى إتمام كلامه فقاطعه بارك الله فيك وهذا ما كنت أتوقعه من أريحيتك ولكنني صرحت بالأمرفأسرع أبو الحسن ولا شك أن الأمر شق عليه لأنه غريب على خاطره ولكن هل ذكرت ذلك في جلسة سريةإذ قضت الأحوال ذكره له في حضور أخته لا بد أنها كانت أكثر استغرابًا منه أنا لا ألومها على ذلك كما أني لم ألم أخاها ولعلك ذكرت لهما شيئًا آخر غير ولاية العهد قال ذلك وهو ينظر في عيني الجليس ويُظهِر المداعبة فابتسم الجليس نعم ذكرت لهما وتكلمت بما يمليه عليَّ إخلاصي لك
قال هذا وبلع ريقه فعلم أبو الحسن أن جوابها لم يكن بالرضا ولولا ذلك لانتهج الجليس أسلوبًا آخر في التبليغ فرأى أبو الحسن أن يغطي فشله بالدهاء فقال أتمنى أن تكون قد ترددت في إجابة هذا الطلب أيضًا فاستغرب تمنيه وقال نعم ترددت قليلًا وأظنها أجَّلت الحكم في ذلك إلى ما بعد انقضاء هذه الأزمة
قال كن صريحًا يا عماه إنها رفضت وقد تكون عالقة القلب بأحد فليكن ما تريد أنا لا أعتب عليها ولكني أعتب على أخيها الخليفة فإنه مطالب بسيرة أخته وسمعتها…أكد له أن أمير المؤمنين حسن الظن به فقال أبو الحسن وهو يتشاغل بتمشيط لحيته يكفي كنت أحسبها عاقلة كما يقولون ولكن يظهر أنها لا تعرف مصلحة نفسها ولا لوم عليَّ بعد الآن لا أعني أني أكف عن فداء أمير المؤمنين بدمي ولكنني لا أرى وجهًا للرفض إلا أن تكون مشغولة ببعض الرجال فهذا شيء آخر.قال كلا لكنها قالت إنها لا تريد الزواج فضحك أبو الحسن وهو ينهض من مجلسه وقال لا تريد أن تتزوج هذا كلام غير معقول ولكنها سترى بنفسها مضطرة للزواج بغيري وتندم
فنهض الجليس لنهوضه وصبر ليرى ما يريده فقال أبو الحسن أظنني أخَّرتك عن مجالسة أمير المؤمنين وقد يكون في حاجة إليك فأرجو أن تؤكد له أني مقيم على ولائه أفديه بروحي ولا تذكر له شيئًا عن سيدة الملك إنما أقول سامحها الله لأنها لم تحسن المعاملة فودَّعه الجليس وهو معجب بطيب سريرته وعلو همته وسعة صدره وعاد إلى منزله ينتظر أمر الخليفة وكان الحسن الصباح رجل داهيًا ولكنه لم يكن من الدهاء بحيث يستر مطامعه ولا يثير المخاوف فيمن حوله أو لعله كان داهيًا عظيم الدهاءولكن هيامه بالسيطرة واندفاعه إليها كانا أعظم من دهائه فانكشفت غايته على كره منه وحيل بينه وبين بلوغ تلك الغاية من كل طريق ينافسه فيه المنافسون ومما لا ريب فيه أن الرجل لم يكن من الغفلة بحيث يصدق كل خرافة من الخرافات التي كان يذيعها ويتولى نشرها والدعوة إليهاولكن التواريخ والشواهد لم تحفظ لنا خبرًا واحدًا يدل على أنه كان من السمو الفكري بحيث يسلم من جميع الخرافات ويتبطن ما وراءها من الحقائق ولا سيما إذا كان التصديق هو طريقه إلى السلطان والغلبة وقهر الخصوم والانتصار على النظراء فمن مألوف النفوس أن تعتقد ما يواتيها على هواها ويعزز إيمانها بمطمعها كما يفعل المحب الذي يؤذيه الشك ويؤذيه العلم بعيوب محبوبه فيروض طبعه على اليقين وتجميل العيوب على هواه من عذاب الشكوك وانكشاف العيوب
وهذه الطبيعة المعهودة في أمثاله دون غيرها هي التي تفسر لنا أعمالًا شتى يبدو فيها خادعًا مخدوعًا في وقت واحد فهو حصيف لا شك في حصافته ولكن كيف يقع الحصيف في مثل ذلك السخف الذي لج به حتى يسول له البطش بأقرب الناس إليه
وفيما هو أسخف منه إذا كان مغلوبًا على أمره مضطرًا إلى تسويغ دفعته بعقيدة تجملها في نظره وتلبسها ثوب الواجب الذي لا محيد عنه ولا هوادة فيه فقد كان يريد شيخ الجبل من وراء ذلك أن يقنع أنصاره بأن هذه هي الفردوس الحقيقية حيث حاول تصميمها الفردوس بوصفها حديقة جميلة تجرى فيها أنهار من خمر ولبن وعسل وماء ومكتظة بالحور العين وبالتأكيد فإن المسلمين في تلك النواحي وقد تحدث المؤرخون عن أسرار تلك القلعة العجيبة التي تزجى الأحاديث عنها بين الناس فيصدقونها لأنهم يحبون الاستماع إلى العجب والتحدث بالعجب ويصعب عليهم بعد العثور على حديث عجيب أن يفرطوا فيه كما يصعب عليهم التفريط في كل قنية عجيبة أو كل تحفة نادرة
من هذه الأعاجيب أن الحسن بن الصباح عرف سر الحشيش من أستاذه الطبيب ابن عطاش فسخره في نشر دعوته وأنه توسل به لإقناع أتباعه برؤية الجنة عيانًا لأنه كان يدير عليهم دواخين الحشيش ثم يدخلهم إلى حديقة عمرت بمجالس الطرب التي يتغنى فيها القيان وتتلاعب فيها الراقصات ثم يخرجهم منها وهم في غيبوبة الخدر ويوقع في وهمهم ساعة يستيقظون أنه قد نقلهم إلى جنة الفردوس وأنه قادر على مرجعهم إليها حين يشاء وأنهم إذا ماتوا في طاعته ذاهبون بشهادة أعينهم إلى السماء قالوا وإن هذا الإقناع أو هذا الإيمان العمياني يفسر طاعة أتباعه الذين كان يأمرهم بالهجوم على أعوانه من الوزراء والأمراء بين حاشيتهم وأجنادهم فيهجمون عليهم ويغتالونهم غير وجلين ولا نادمين وإن كلمة «أساسين»التي أطلقت في الغرب على قتلة الملوك والعظماء ترجع إلى كلمة الحشاشين أو الحسنيين نسبة إلى الحسن بن الصباح وقالوا إن الفتى من أتباع شيخ الجبل كان يبلغ من طاعته لمولاه أن يشير إليه الشيخ بإلقاء نفسه من حالق فيلقي بنفسه ولا يتردد وإن أحدهم كان يقيم بين جند الأمير المقصود بالنقمة ويتكلم لغتهم حتى لا يميزوه منهم وأنه يفعل فعلته ويتعمد أن يفعلها جهرة ولا يجتهد في الهرب من مكانها وإن أمهات هؤلاء الفدائيين كن يزغردن إذا سمعن خبر الفداء ويبكين إذا عاد الأبناء إليهن ولم يفلحوا في اغتيال أولئك الأعداء فإن التكذيب أرجح من التصديق في كل خيط من الخيوط التي نسجت منها القصة ذلك النسيج الواهي المريب إن الحسن بن الصباح كان معروفًا بالصرامة والشدة على نفسه وعلى أتباعه وكان يتنسك ويتقشف رياء أمام أتباعه وتلاميذه ولم يكن من اليسير في تلك القلاع المنفردة أن يخفى أمر القيان ومجالس الراقصات والغناء زمنًا طويلًا دون أن يطلع عليه المقربون إن لم يطلع عليه جيرة القلعة أجمعون وليس من المعروف عن مدخني الحشيش أن يحفظوا وعيهم ويفقدوه في وقت واحد وأن يتلبس عليهم كلهم أمر العيان والسمع هذا الالتباس وليس من المعروف عن الحشيش أنه يهيئ صاحبه لموقف الإقدام على المخاطر والإصرار عليها شهورًا أو سنوات هناك حاجة إلى تأويل شجاعة تلك الفئه من المسلمين وهم في عرفهم قوم هالكون لا يؤمنون بالدين الصحيح فخطر لهم إنهم يستميتون في الجهاد لأنهم موعودون بالجنة التي تجري تحتها الأنهار وترقص فيها الحور الحسان إذا استحبوا الشهادة في سبيل الله واستغرب شجاعة الفدائيين هو الذي أحوجهم إلى سبب كذلك السبب و يقبلون الموت وهم قوم هالكون فهم في شجاعتهم مخدوعون إن القوم قد عجبوا كيف يطيع الفدائيون شيخهم هذه الطاعة وكيف يقدمون بأمره على الموت المحتوم فلم يتخيلوا لذلك سببًا غير الجنة الموعودة وعرفوا الحشيش فالتمسوا فيه سر الجنة التي ترى في هذه الدنيا رأي العيان وقد جاء ذكر الحشيش في كلام مؤرخي الشرق وذكر بعضهم أن أناسًا من شيوخ الطرق كانوا يستبيحونه ولا يحسبونه من المسكرات المحرمة وذكر البندري مؤرخ آل سلجوق جماعة الحشاشين وعنى بهم طائفة الإسماعيليين وحيرة المؤرخين والباحثين النفسانيين هي حياة الرجل في السنوات الأخيرة من مقامه بقلعة آلموت إنه لم يكد يفارقها بعد دخولها ولم تكن له أسرة فيها غير امرأته وولديه وهذا الزعيم الباطنى الذي قيل عن مذهبه إنه ذريعة إلى استباحة المحرمات والتهالك على اللذات فضلًا عن الحرام وزعم بعض المؤرخين حين قتل ابنه أنه قتله لمخالفته إياه في شرب الخمر على الخصوص ولم يقتل ولدًا واحدًا بل قتل ولديه الاثنين وهو في شيخوخة لا مطمع له بعدها في الذرية وهذه هي حيرة أخرى من حيرات لا تحصى في مسلك هذا الإنسان العجيب كله وفي مسلكه قبيل وفاته على الخصوص.
هل هو مجنون مطبق الجنون .إن المجنون المطبق لا يستغرب منه قتل أبنائه في شباب ولا شيخوخة وتزول بهذا غرابة القتل ولكنها تزول لتَخْلُفها غرابة أعضل وأدهى وتلك هي قدرة المجنون المطبق الجنون على التدبير المحكم عامًا بعد عام وقدرته على حفظ مكانه ومكانته بين وزرائه وأعوانه ومنهم الأذكياء والدهاة وفيهم الشجاعة والهمة والإقدام له عقيدة يصبر في سبيلها على الشظف والضنك ويستبيح من أجلها إراقة الدماء دماء الأبناء كدماء الأعداءإنه خلق العقيدة خلقا فمن البعيد أن يخلق العقيدة وينخدع بها ويصبر في سبيلها على ما صبر عليه ويستبيح في سبيلها ما استباح والذي يبطل الحيرة في اعتقادنا هو التفسير المقبول لطبيعة هذا الإنسان العجيب إننا ينبغي أن نستغرب من حسن بن الصباح ما هو غريب منه لا ما هو غريب من غيره ولو كانوا معظم الناس فالغريب تجرده من الحنان الأبوي أو فتور هذا الحنان فيهم ولكن هل خلا الجنس البشري من آحاد يهون عندهم الحنان في جانب النوازع القوية التي لها السلطان عليهم وليس لهم عليها سلطان هل خلا الجنس البشري من آحاد تستهويهم الشهوات الصغار فضلًا عن الشهوات الكبار فلا يبالون ما يصيب أبناءهم بل هو دأب الطامحين من أمثاله إلى السيطرة ودأب الذين يهون عليهم شظف العيش ولا يهون عليهم الخضوع والبقاء في زوايا الإهمال وقد يكون الولدان اللذان أمر بقتلهما قد تآمرا عليه مع بعض أعوانه المتطلعين إلى مكانه كما جاء في بعض الروايات وقد يكون أحدهما هو الذي تآمر عليه كما هو الأرجح ويكون ظنه بالآخر أنه لا يفلح ولا يؤمن على مصير الدولة بعده وقد يكون بطشه بابنه في سبيل رسالته هو المسوغ المقبول أمام ضميره لإقدامه على البطش بالغرباء في هذا السبيل فإذا كان الظن بجنونه المطبق حيرة وكان الظن بغفلته حيرة مثلها فأنفى الظنون للحيرة أنه أطاع طبعه في طلب الغلبة على الرغم منه وأنه اتخذ من فساد زمانه حجة على وجوب رسالته وقداستها وأنه راضَ نفسه على شدائد تلك الرسالة لتكون الشدائد التي يضطلع بها حجة له على صدقه ومطاوعة طبعه وأنه كان نوبة الفتك في أزمات طبعه ولكنها نوبات دون الجنون المطبق في جميع الأحوال وهذا كله جائز غير مستغرب أما المستحيل فهو أنه مصاب بالجنون المطبق أو خادع لا عمل له ولا غواية من وراء عمله غير الخداع والتضليل أو أنه مغفل لا يدري موضع الغفلة من سريرته وهو يتسلل بالإقناع إلى سرائر المئات والألوف ومنهم الأذكياء والألباء والحصفاء…إذا كان الشق الأول من العمل السرى يتمثل في الدعوة ونشر الفكر الإسماعيل كما تفهمه حركة الحشاشين فإن الشق الثاني من هذا العمل يتمثل في استخدام الرعب كسلاح ضد الأعداء اللدودين للحركة الذين لا يتورعون عن شن حملات التقتيل والتشريد ضد أعضائها ولكن كيف يمكن المجموعة صغيرةأن تبث الرعب في قلوب أولئك الأعداء الأقوياء إن على المجموعة الصغيرة يمكنها أن تفعل ذلك إذا كان ورابعا عقل محنك يستطيع أن ينظمها التنظيم المحكم الذى يؤهلها القدرة على توجيه ضربات مؤثرة إلى الخصم هم امتصاص ولا الفعل العنيف الذي لا محالة واقع الأمر الذي يتطلب رجالاً يؤمنون بعقيدة استشهادية تلهمهم الشجاعة والصمود في مواجهة أي تصفية جسدية يقوم بها الخصوم تجاههم ..وقد استطاع الحسن الصباح من علمه بالدين والفلسفة وبما رزق من موجية أن بيت في عقول أتباعه العقائد التي تدفعهم دفعاً إلى الإقدام بشجاعة على الموت كما تمكن من ابتكار تنظيم محكم الأركان يستطيع الحضارة القيام بالعمليات الفدائية التي كان يديرها الحسن بذكاء وحنكة وقد أسفرت هذه العمليات عن زرع الرعب والإرهاب خلال مدة قصيرة في أوصال الدولة السلجوقية وبلاط الخلافة العباسية الخصمين الرئيسيين لحركة الحشاشين وتظهر براعة الحسن الصباح منذ اللحظة الأولى التي تختار فيها الفدائيين
حيث يعمد إلى أهل المناطق الجبلية والصحارى الذين يتميزون بالصلابة والقوة ونشأوا على النقرة من السلطات السنية فكان يصطفى منهم الشبان ويتعهدهم بالتربية والتثقيف الفكرى الذي ينمى روح الجهاد والتضحية فيهم ويتوجهم دور وسائل المجوم واستخدام المتاجر والقدرة على تقمص الشخصيات المختلفة حسب مقتضى الحال كما يعلمهم لغات مختلفة حتى يمكنهم الظهور بشخصيات أجنبية عن المنطقة التي يقومون فيها بأداء الواجبات المكلفين بها وعندما يتم تكوينهم وإعدادهم فإنه كان يشرح لهم خطة العملية التي عليهم تنفيذها وكانت هذه الخطة تهدف إلى الحتيال الشخصية المستهدفة في مكان عام وبمرأى من الجماعية مثل الجامع الكبير وفي يوم الجمعة أو في عظيم وسط الحرس والجنود أو في السوق أو في مقر الحكم وكانوا يتخفون أحياناً في ملابس النساء وأحياناً أخرى في ملابس الجنود ولكن كان الأغلب أنهم يتخفون في زي المتصوفة والدراويش حيث لا يتوقع الحرس منهم شراً أو أذى وتظهرنا بعض الحوادث أن منهم من كان يدخل على خدمة الضحية حتى تبق فيه لم يجهز الفرصة المناسبة الإجهار عليها وفى بعض الأحيان إذا كانت الضحية عالماً من علماء الدين فإنه كان يواظب على حضور دروسه ويظهر نبوغاً في التعلم وحباً واتباعاً للشيخ حتى ينال ثقته ويجهز عليه في الوقت المناسب الشخصيات المستهدفة بالأعمال كانت هي تلك التي تتربع على قمة المجتمع السياسي والعسكرى والعلمى فقد أمكنهم عدد من الخلفاء مثل الخليفة العباسي المسترشد بالله ومن بعد الخليفة الراشد كماالخليفة الفاطمي الأمر بأحكام الله واغتالوا عدداً موفوراً من القواد العسكريين والأمراءوالسلاطين والوزراءولم يتورعوا عن توجيه خناجرهم المسمومة إلى صدور العلماء والمفكرين والقضاة الذين كانوا يعارضون دعوتهم كما كانوا يغتالون كل من تسول له نفسه الارتداد عن دعوتهم بعد الدخول فيها وكذلك بعض أصحاب القلاع الذين يرفضون تسليمها أو بيعها لهم وتتمثل الأهداف المحورية لعمليات الاغتيال في الرغبة في القضاء على رموز الشر في العالم من وجهة نظرهم والانتقام من القواد والأمراء الذين كانوا يحاربونهم وردع علماء الدين الذين لا يكفون عن نقدهم وإظهار مثاليتهم في خطب الجمعة ولكن أكثر الجوانب إثارة في عمليات الاغتيال هو شجاعة الفدائيين وإقدامهم العجيب على طلب الموت الأمر الذي حير كثير من المحللين وتضاربت بشأنه تفسيراتهم .
التفسير الصحيح بكل سهولة أن سلوك الفدائي في تضحيته بحياته فكره التي استطاع أن يشكلها الحسن الصباح تشكيلاً يجعل الفدائي ينفذ أوامره غير واعى بما يترتب على ذلك من عالج الموقف الذي ينطلق منه الفدائي بصفة خاصة وعضو حركة الحشاشين بصفة عامة هو القلق والشعور بالحبيبة إزاء الواقع الذي يجد نفسه ملقى فيه الواقع الذي يعيش فيه كنفيس مقيدة في بدن وكفردية مؤثرة في مجتمع حيث لا يلقى إلا ما ينقص ويكثر إلا ما يجعله يشعر بأنه محاصر ومستعيد فيصور العالم له شراً كله وتصبح مشكلته الأساسية هي مشكلة الشر في العالم لماذا كان العالم يحتوى على الشر ولماذا يطغى فيه الشر وما مصدره من الوعى بهدة الوضعية يبدأ موقفت عضو الحركة ومن إعلان رفض هذه الوضعية ينطلق أولاً بإبداء التضايق والشكوى منها ثم بإعلان الكراهية والعداء لها انتهاء بالتشهير بها والتمرد عليها والفدائي إذ يرفض هذه الوضعية بوصفها واقعاً خارجياً يرفضها أيضاً كشعور داخلي برفضها كشروط حياة ويرفض نفسه كوجود خاضع المله الشروط ومن هنا إحساسه بالغربة بصورة مضاعفة يشعر بنفسه غريباً في عالم براه غريباً عنه تماماً فيتجه إلى تميزه عن هذا العالم إلى الانفصال عنه والقطيعة عنه ومن هنا ذلك الميل الجامع الذي يستولى على العارف ويذكى شوقه إلى الرحيل عن هذا العالم إلى التحرر من قبضته ونهوده والرحيل البعيداً عنه إلى حيث يسترجع كامل حريته كامل امتلاكه لنفسه هكذا تقترن لدى الفدائي رغبة جامحة في أن يكون نفسه في أن يستعيد الانتماء إلى نفسه في أن يلتحق بـ عالم آخر عالم متعالي عن المكان والزمان عالم و الحياة الحقيقية عالم الطمأنينة والكمال والسعادة العالم الذي كان فيه وأخرج منه والذي سيعود إليه وهو يستقى معرفته بذلك العالم الآخر لا من خلال تأمل العالم الدنيوى إذن فلا يبقى إلا أن يطمع في أن يتلقى المعرفة التي يبغيها من القوى العليا التي هو مشدود إليها ويسعى للالتحاق بها ولكن هذه القوى العليا لا تعطى علمها الغيبي إلا الإمام الزمان ومن هنا فإن الفدائي يسلم و نفسه تماماً إلى هذا الإمام أو من ينوب عنه فيقوم الإمام أو نائيه باستغلال هذا الموقف فيدفع بالفدائي ورغبته في الخلود والرجوع إلى موطنه الأصلى إلى أقصى مدى إن الإمام يقدم له تاريخ ما قبل تاريخه وما بعده فيعرف منه أنه كلان موجوداً قبل وجوده الراهن في العالم وأنه جاء إلى هذا العالم من عالم آخر يقع خارج هذا العالم ويسمو على تحديداته الزمانية والمكانية هكذا المفتاح بسهولة يقنع نفسه باستمرار أنه ينتمى بطبيعته إلى عالم آخر عالم الخلود وبهذا التصور يقتنع الفدائي بأن وجوده الراهن في هذا العالم شيء غير طبيعي وبالتالي فلابد أن يكون هذا السقوط الذي أصابه والذي يتمثل في مغادرته عالم الخلود والارتماء في هذا العالم المملوء شراً لابد أن يكون نتيجة لقبه بالفدائى هى نتيجة الخطيئة وإذن فلابد من تدارك الموقف لابد من العمل من أجل الخلاص وهكذا يزداد شوقاً وحنيناً إلى العودة إلى حاله الأصلية إنه يتصور البعث والنشور على أنه رجوع إلى حال سابقة سامية حال من الحرية الفكرية حال ينزع فيها عنه جسده ليعود إلى الحال التي كان عليها قبل ميلاده إنها النشأة الأخرى أو الميلاد الجديد وبعد أن عرف الفدائي من أين أتى وعرف أن مصيره الحقيقي الذي سيتحرر فيه من سجن هذا العالم بعد أن عرف إلى أين لا يبقى إذن إلا أن يمتلك الطريق وسلوك هذا الطريق لا يكون إلا تحت رعاية الإمام وتوجيهه والخضوع له خضوعاً مطلقاً وفقاً لمبدأ التعليم الذي يقوم بدوره ما يصدر عن الإمام أو المعلم الصادق من أوامر أراد له الحياة على التسليم التام لكل شيء كما يقول العالم نصير الدين الطوسي ووصفه للفدائيين لما أحب الموت ولو أراد له الموت لما أحب الحياة ولو قال له أن النهار المشرق ليل بهم أو أن الليل البهيم نهار مشرق لما هجس في قلبه أي اعتراض على هذا القول ولما حام حول كيف يكون الأمر كذلك ولماذا فينعدم اختيار الإنسان الناقص الجاهل وإرادته باختيار الإنسان الكامل العاقل وإرادته ومن هنا فإن الإمام أو المعلم الصادق عندما يأمر الفدائي بأن يختال إحدى الشخصيات المناوئة للدعوة والتي تمثل من وجهة نظره أحد رموز الشر و مصادره في هذا العالم فإن الفدائي يسارع بتنفيذ الأوامر الصادرة إليه رغم أنه يعلم أن تلك العملية سنودى بحياته الدنيوية وهو يفعل ذلك انطلاقا من رغبته الجامعة في المساهمة في القضاء على الشر المسيطر على هذه الحياة الدنيا وشوقاً في الصعود إلى عالم الفردوس والخلود الذي آمن من قبل أنه لن يمكنه بلوغه إلا بأن يخلع عنه قميص جلده فيتحرر من بدنه ومن كل ما يشده إلى هذا العالم .
هذا هو التقديم المنطقى الذى يكشف النقاب عن الأسباب الحقيقية التى تجعل الفدائيين يقدمون على التضحية بحياتهم ولاشك أن سذاجة وسطحية التفسيرات الأخرى مثل التفسير الخرافي الذي قدمه ماركو بولو إذ يشير فيه إلى أن الإمام بمارس سيطرته وتأثيره على الفدائيين عن طريق الحشيش وإذاقتهم ألوان الشهوات من النساء والولدان وأطايب الطعام والشراب ثم إغرائهم بالمزيد منها عند القيام بالمهام المنوطة بهم والأسباب التي ترفض هذا التفسير أن الطبيعة الطبوغرافية القلعة الموت والتي تدل بوضوح على استحالة وجود أنهار العسل والخمر واللبن والحدائق المثله في مثل تلك الظروف الجغرافية والمناعية بالغة القسوة وتزيد عنا أن التجربة الإنسانية فضلاً عن التحليل النفسي الحديث يؤكدان أن النفوس المترفة التي درجت على تعاطى المخدرات إن هي إلا نفوس ضعيفة مستكينة بحسب أن يقوم أصحابها بأعمال التجارية تتطلب إقداماً وتضحية مثل تلك الأعمال التي يقوم بها فدائيو الحركة .
سيظل الإرهاب جريمه سواء كان الإرهاب كما تمارسه الدولة العباسية والسلجوقية في مواجهة الحشاشين أو كما يمارسه الحشاشون في مواجهة العباسيين والسلجوقيين عملاً لا أخلاقياً وتفكيراً لا منطقياً رغم أنها لا تذكر الموائل الموضوعية التي تقف وراء هذه الظاهرة حيث لا يشك أحد فى أن العنف يولد العنف وأن الإرهابي إذ بلجاً إلى العنف فإنه لا يخلقه ولا يبتدعه وإنما يجد بذوره في العالم المحيط به فالظروف التاريخية والإجتماعية والإقتصادية والسياسية التي كانت سائدة آنذاك في الدولة الإسلامية كان لها دور كبير في نشوء هذه الظاهرة والمجتمع الإسلامي في ذلك الوقت بما يحوى من تناقضات وصراعات كان ينجب حفارة تديره ومن هنا فإن أية رؤية تحليلية تنظر إلى الإرهاب العقائدي على أنه عنصر غريب عن المنتظم الحضارى الذى كان سائداً حينئذ إنما هي رؤية مبشورة لأنها تجرد هذه الظاهرة من إطارها الاجتماعي والسياسي والاقتصادي وإذا كان الإطار التاريخي يعطى للإرهاب عنصراً عقلانياً فإن هذا يعنى أن الإرهاب ينطوى على تناقضات باطنية تحركه في جوانيته ولكن حتى هذا العنصر العقلاني يظل عاجراً وقاصراً ومنهاراً لأنه يدفع إلى فعل كل شيء ولا يتوالى عن أي شيء مهما كان لا أخلاقياً من أجل انتصار قضيته يظل هذا العنصر قاصراً لأنه ينطلق من موقف شديد التشنج والخطورة من شأنه أن يؤدى إلى أعمال شرسة وقطيعة ضد الآخرين وإلى أعمال انتحارية بروح ضحيتها عادة الإرهابيون أنفسهم وليس بوسع أحد أن يفرض على الإرهاني الذي ينطلق من موقف أيديولجي قواعد وقوانين من خارج مفاهيمه وحقائقه هو لأنه هو الذي يحددها ويختارها ويلتزم بها بمقدار ما تخدم قضيته وبما ما تتناسب مع الظروف التي يكافح فيها فهو لا يراعى أي عرف وأية الحرمة اجتماعية أو سياسية كما أنه لا يراعى أية قاعدة أخلاقية تشكل عائقاً في سبيله إذ أنه يضع بتصرفه جميع الطرق والأساليب والوسائل
وفي الواقع إن محاولة التبرير الأخلاقى والعقلاني للإرهاب بالإستنادات يعنى جعل الأخلاق مجرد مجاملة للمدرعات والأهواء التي تسيطر على مجموعة بشرية أو طبقة أو حزب أو دولة ممايفقد الأخلاق مضمونها وتتصدع قوانينها فيدين إذن صحوبة بل استحالة فهم ظاهرة العنف والإرهاب بالنسبة الأخلاق المجردة والمبنية على المبدأين الرئيسيين الخير والشر إذ ليس بإمكان هذه الأخلاق أن تبرر العنف والإرهاب كوسيلة للحوار بين الخصوم وإلا وقعت في التناقض والانتفاء والعينية فعلى مستوى الأخلاق المجردة تظل المناقضة بين العنف والأخلاق لا يمكن المجاوزها كما لا يمكن تجاوز المناقضة بين الإرهاب والفضيلة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى