إنهاء الاحتلال أم تحسين شروطه؟
نهاد أبو غوش| فلسطين
ظاهريا، تبدو السياسة الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين متناقضة: فمن جهة هناك توجّه لاحتجاز 600 مليون شيكل من أموالنا بذريعة استمرار السلطة في دفع رواتب الشهداء والأسرى، ومن جهة معاكسة هناك حديث إسرائيلي وأميركي عن ضرورة دعم السلطة ماليا واقتصاديا والتخفيف من ضائقتها حتى لا تشتعل “غابة الحطب الجاف” كما أسماها المبعوث الأميركي هادي عمرو. وهذا المنحى الثاني عززه الحديث المتبادل عن البدء بإجراءات بناء الثقة كمقدمة لا بد منها لاستئناف المفاوضات من جهة، وكأقصى ما يمكن لإدارة الرئيس الأميركي جو بايدن أن تقدمه في هذه المرحلة من جهة أخرى.
وللمساهمة في فهم هذا التناقض، ما علينا سوى مراجعة مسار السياسة الإسرائيلية تجاهنا خلال الثلاثين عاما الماضية، لنكتشف أن إسرائيل لا تتعامل مع الفلسطينيين كشعب، لأن لكل شعب حقوق وطنية وسياسية، بل هي تتعامل معنا كتجمعات سكانية، أي أعداد من البشر لها حقوق محدودة ومقيّدة في السكن والعمل والتجارة والتعليم والتنقل، ولكن ليس لها حقوق السيادة على الأرض والموارد والحدود والأجواء. وهكذا تعمد إسرائيل في كل مرحلة لمشاغلتنا بقضايا فرعية وثانوية تمس صميم حياتنا اليومية، أو أنها ناشئة حتما عن استمرار الاحتلال وما يستدرجه من ردود أفعال طبيعية مثل قضية الأسرى، بعيدا عن الاهتمام بقضايا القدس والاستيطان واللاجئين والحدود والمياه والمصير النهائي للأراضي الفلسسطينية المحتلة.
مع مرور الوقت تحولت كل القضايا الفرعية والثانوية إلى أدوات ابتزاز بيد إسرائيل، فموضوع رواتب الأسرى لم يكن مطروحا خلال العشرين عاما الأولى من عمر اتفاق أوسلو، لكنه تحول في السنوات الأخيرة إلى قضية القضايا، وأداة ابتزاز رئيسية لانتزاع تنازلات سياسية من القيادة الفلسطينية، ومحاولة تجريم النضال الوطني ضد الاحتلال وفك ارتباط السلطة بهذا النضال، ثم الضغط على السلطة وتجريدها من كل عناصر القوة والسيادة، والإيحاء بأن بقاء السلطة منوط برضا إسرائيل عنها، ودفعها بالتالي إلى دور مرفوض وطنيا، هو دور الوكيل الأمني لسلطة الاحتلال مع الوظائف الموكولة لذلك كتصريف الشؤون الحياتية للشعب الخاضع للاحتلال، وإراحة دولة الاحتلال من هذا العبء الجسيم، وتشكيل جسم حاجز بينها وبين الشعب المحتل.
منذ ثلاثين عاما، مرت على شعبنا عشرات التفاهمات والاتفاقيات الرئيسية والفرعية، من اتفاقيات أوسلو وواشنطن إلى القاهرة وبروتوكول باريس واتفاق الخليل إلى مبادرات تينيت وميتشيل وخارطة الطريق ومبادرة كيري وغيرها الكثير. الطامة الكبرى أن جميع هذه الاتفاقيات والمبادرات لم تتحدث عن “إنهاء الاحتلال”، وتفنن الإسرائيليون في مشاغلتنا بالتفاصيل. وفي كل مرحلة كانوا يعيدوننا إلى نقطة الصفر، وإلى التفاوض عما تفاوضنا واتفقنا عليه سابقا، أو اصطناع مشكلات وقضايا جديدة لتبدو كأنها أم القضايا والعقبة الكاداء أمام الوصول لاتفاق سياسي، تماما كما يفعلون الآن في الحديث عن رواتب الأسرى، وكما فعلوا سابقا في قضايا التحريض، أو مطالبتنا بالاعتراف بيهودية دولة إسرائيل، ثم يضعون لنا لائحة طويلة من الشروط التعجيزية التي علينا الوفاء بها قبل أن ننتقل لنيل الحد الأدنى من حقوقنا “الإنسانية” وليس الوطنية والسياسية.
سبق لبنيامين نتنياهو أن أعلنها بوضوح وصراحة “من المستحيل إنجاز سلام مع الجيل الحالي من الفلسطينيين، وأقصى ما يمكن فعله هو السلام الاقتصادي”، هذه الرؤية مهدت لصفقة القرن التي تبنت مبدأ السلام والتطبيع الإقليمي على حساب حل القضية الفلسطينية. وحكومة إسرائيل الحالية ليست بعيدة إطلاقا عن هذه الرؤية التي تكاد تكون محل إجماع صهيوني، ولشديد الأسف أنها مقبولة من قوى دولية فاعلة ومؤثرة أبرزها الإدارة الأميركية وجزء كبير من دول الاتحاد الأوروبي، بل حتى من قبل اطراف عربية متعددة.
خلال المواجهات الشاملة التي وقعت في شهري نيسان وأيار بما في ذلك مواجهات القدس والشيخ جراح والحرب على غزة، ارتبكت إسرائيل قليلا بفعل تاثير المقاومة والصمود الفلسطيني والوحدة الوطنية الفلسطينية لتجمعات شعبنا في كل اماكن تواجده، خلال ذلك ارتفعت آمال كثير من الفلسطينيين، وعلت سقوف توقعاتهم نحو آفاق جديدة، لكن انقسامنا وسوء إدارتنا للمعركة ونتائجها مكّنا إسرائيل من إعادة التقاط أنفاسها وترتيب خياراتها، بينما غرقنا نحن في أزمات داخلية ساهمت في تبديد نتائج المعركة. وها هي المحلصة ماثلة أمامنا: إسرائيل تواصل التعامل معنا كتجمعات سكانية، وبالتالي تفرض معادلة التعامل معنا من مدخل القضايا الإنسانية والاقتصادية. ففي قطاع غزة ليس مطروحا إنهاء الحصار، ولا إقامة الميناء والمطار، وإنما كيفية إدخال أموال المنحة القطرية ومواد إعادة الإعمار، وتوسيع مساحة الصيد البحري التي تقوم إسرائيل كل مرة بتقليصها لكي نبدأ من جديدة دوامة الوساطات الدولية لتوسيعها. وفي الضفة تجري عملية مماثلة وتطرح مطالب حياتية مشابهة تحت عنوان “الشروط الفلسطينية لإجراءات بناء الثقة” من قبيل تخفيف الحواجز، وزيادة تصاريح العمل، وتطوير شبكات الهواتف الخلوية إلى الجيل الرابع، وإعادة الشرطة الفلسطينية إلى معبر الكرامة.
ربما يحتاج تحقيق هذه المطالب او بعضها إلى شهور أو سنوات من المفاوضات المكوكية والتدخلات الدولية، لكنها كلها لا تخاطب الهدف الرئيس للشعب الفلسطيني وهو إنهاء الاحتلال، بل إنها قد تبتعد عنه وتساهم في تكريس الاحتلال وتأبيده وفي أحسن الأحوال تحسين شروطه، وفي سياق ذلك يتحول منسق أعمال جيش الاحتلال في الأراضي المحتلة إلى مرجعية للشعب الفلسطيني.