تجربة الفنان الراحل” رشيد عباس العلي ” تحكي أنهُ كائن حي!

عبد الجبار نوري | كاتب وباحث عراقي مغترب

ثمة خاطرة مرّة تنتابني دوماً أشعربها وتوخز ضميري دوما هي صدور (مرثيات) من مراكز القرار الحكومي لرموزنا الثقافية والعلمية عند رحيل تلك النخبة ونسيانهم وهم أحياء، لقد قررت أن أعيد مقالة ثانية عن الفنان الحاضر الغائب “رشيد عباس العلي” عسى ولعل – وهي لغة المحبطين – أن يصل صوتي إلى الجهات العليا المهتمة بالثقافة وبتقييم هذا الفنان الراحل أمتثالا للحديث القدسي {وأذكروا محاسن موتاكم} .

فنان من العراق مقيم في سويسرا الآن مغترب قسراً أنتماءهُ وهويتهُ العراق الذي يسكن في أعماق ذاته المكتوية لتسري بعشقٍ رومانسيٍ ملتهب دوما تسري عبر خلية وخلية، أبدع هذا الفنان في محطة هجرته في سويسرا بلاد جبال الألب ذات الطبيعة الخلابة التي ألهبت مشاعره لتوقظ موهبته وتحرك ريشته إلى الأبداع في مجال الفن التشكيلي لمستقبل واعد وهو يصارع فايروس الحنين للوطن الأم ومنفاه الجديد الموحش المهاجر إليه قسراً ليعلن للعالم المتمدن ومراكز قرار حقوق الأنسان أنه مواطن ذو آيديولوجية يسارية مكتمل الأهلية  ذات شخصية أيجابية  سوية محب  للسلام والأندماج  ومنتج مبدع في مجال عمله الفني ذات البنية الأنسانية ضد الموت والعتمة والظلامية وضد الفاشية.

رشيد عباس العلي رسام بهوية عراقية وطنية، من هذا الأنتماء يقتبس معانيه من أوجاع أغتراب المنافي التي ترافق لوحاته العزلة وأرهاصات فك هذه العزلة الملوثة بداء الحنين للوطن الغائب ، تتمحور أحاسيسه الفنية المرهفة بلوحات ومشاهد ومعاني مرتبطة مشيميا بعشق الوطن الأم وهوى الشرق المفعم بعطر التأريخ وجغرافيىتها وبأيحاءات شرقية برموز سحرية يوحي للناظر عشق هذا الفنان الأصيل للعراق الذي غادره سنة 1986 إلى  سويسرا بلاد جبال الألب ذات البيئة الخلابة فكانت (محطته) الأخيرة التي أدخلت في لوحاته الأمل والتطلع إلى العولمة والنجومية وعدم تغييب المفاهيم السوسيولوجية للبيئة السويسرية، وتشهد معارضه الشخصية وأبداعاته التشكيلية في مدن سويسرا السياحية كالعاصمة جنيف وزيوريخ فهي شاهد كائن حي .

ومن أسرار تعلق الفنان رشيد بهذا الفن يقول: (ما يدفعني إلى المزيد من العمل والبذل هي القيمة الجمالية فيما أنجزتهُ، ولا يهمني بعد ذلك إن كانت الموضوعة سياسية أو أجتماعية، إنما يفرق بين فنان أصيل مبدع وطفل هاو سعة الثقافة والأطلاع والأحتكاك بالمبدعين الآخرين) .

والآن سوف نقصُ شريط الدخول إلى عالم هذا الفنان الرسام والتشكيلي (المنسي) رشيد عباس العلي ——

هل تعرفون الفنان الرسام الراحل “رشيد عباس العلي” ؟ بالتأكيد أن الدولة تتناساه  والكثير منا يتجاهلهُ، فهو كغيره في خبر كان نسياً منسيا من الدولة النفطية الريعية التي تكون قراراتها أنتقائية تخضع للحكومة المركزية بوزاراتها الراديكالية الحاكمة ، ومراكز القرار مهمتها اليوم أدوار أستعراضية رمضانية بأقامة المهرجانات — وهات يا بذخ وفساد أداري  .

وسؤالي إلى الدولة ومؤسساتها والجمهور هل أحدٍ منكم يعرف هذا الرسام الموهوب الذي فاز بجائزة الدولة العراقية في 1959 في حكومة الشهيد عبدالكريم قاسم لتصميمه الفني للشعار الجمهوري الذي أعتُمد شعاراً للنظام الجمهوري حتى أنقلاب البعث  في 1963 وهو الشعار الوطني المعبر الحقيقي عن الأطياف العراقية وحضارتها؟، وكانت أجابتهم عديدة ومتنوعة بعيدة عن شخصية هذا الرمز العراقي، فمنهم من قال أنه ربما يكون نائب في البرلمان العراقي! وهنا تسكب العبرات حين يكون النائب الذي جاء في زمن الغفلة أشهر من الجواهري وأعظم من علي الوردي وأفهم من المتنبي وأكثر عراقية من نصير شمه .

ربما أعزو سبب هذا النسيان والتجاهل إلى أهمال مراكز القرار الحكومي والهيئات الثقافية والنقابية التي توالت المسؤولية منذ 2003 ولحد الأن والتي غطىت بعباءتها السوداء أفق مستقبل الأجيال القادمة، فأصبحت الدولة العراقية وجمهورها غير معنيين بمعرفة هذا وذاك من أصحاب القلم الشريف والريشة الوطنية، واليد النظيفة وحتى أن تنخر أجسادهم المنافي – هذا هو مظفر النواب شاعر الكلمة الحرّة فاقداً للذاكرة في تونس و لبنان وتوفي في محطته الأخيرة دولة الأمارات العربية، وكان هو الأخرمنسياً في حياته وبعد رحيله أجريت له مراسيم تشييع مهيبة تليق بعظمة أبداعاته الشعرية الوطنية ومحطاته النضالية ، والآخر البروفيسور شاكر خصباك  فقد الذاكرة ومات سريرياً في أمريكا وكذا الجواهري العظيم والعلامة مصطفى جمال الدين والمفكر اليساري هادي العلوي دفنوا في مقبرة (الغرباء) قرب مرقد السيدة زينب  في سوريا مقبرة بعيدة عن الذين لا يريدونهم، سموها” مقبرة الغرباء  حيث دفنوا في الشتات الجغرافي كشاهد تأريخي على زمن الشتات والنفي والأغتراب في مواسم الموت العراقي في غياب الكبار من الشعراء والأدباء والعلماء، أما الشاعر عبدالوهاب البياتي دفن في مقبرة الأمام زين العابدين عند جبل قاسيون سوريا .

وللأسف أشعر بالأحباط وخواطر مرّة حين أسمع بالدولة والجمهور يحتفيان برموزنا وقاماتنا العلمية والأدبية والثقافية (بعد) مماته وغيابه الأبدي ، لماذا بعد غيابه؟ أتستكثرون عليه أن يملأ غرورهُ بالفخر والأحساس بأنهُ قد حصل على أستحقاقه ، فهو تجاهل بعينه ونكران جميل بشحمه ولحمه .

وأخيرا / أرجو أن تمتلك الدولة ومؤسساتها الثقافية أستراتيجية واضحة أزاء المبدعين العراقيين ولتنظر إلى تجربة السويد عند أستبدال عملتها الورقية والمعدنية في 2017 وضعت في كل فئة ورقية أو معدنية صورة أديب أو شاعر أو عالم أو مؤرخ أو كاتب غائباً كان أو حياً  يرزق.

حزيران 2022

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى