وقت لي.. الشعراء والمرأة

السمّاح عبد الله | شاعر وناقد مصري

     الشاعر “نصار عبد الله” أكبر من الشاعر “محمد سليمان” بعام واحد، لكن “محمد سليمان” في أمور النساء أكبر منه بعشرات الأعوام، فـ “نصار عبد الله” بحكم دراسته للفلسفة، وانشغاله بتطبيق المنطق العقلاني على من يصادفه من النسوة، وضعه، طوال الوقت، على مسافة ليست قليلة منهن، بينما “محمد سليمان” لم يدرس الفلسفة، وإنما درس الصيدلة، التي جعلته يؤمن إيمانا حقيقيا بأن النسوة كلهن، في نهاية الأمر، جُمّاع تراكيب كيميائية تنتج لون العيون وصفاء البشرة وامتشاق القدود، الأمر الذي وضعه، طوال الوقت، في مسافة شديدة القرب منهن، وفي الوقت الذي كان فيه “محمد سليمان” يتزوج هذه ويطلقها، ويقترب من تلك ويبتعد عنها، ويخطب ويفشكل، كان “نصار عبد الله” مازال في مرحلة البحث عن زوجة ملائمة، تتفق مع معطيات المنطق العقلاني، وكان يستعرض صورة المرأة من خلال الأبعاد الفلسفية المتعددة، فسقراط يعتقد أن النساء مصدر كل شر، وشوبنهاور يراهن طفلات طوال الوقت حتى لو جاوزن التسعين، وأفلاطون يقر بأنهن مثل إناث كلاب الحراسة، وكان يزداد بعدا عن النساء.

     كان “محمد سليمان” في فترات راحته من هذه المرأة أو تلك، يفكر في أمر صديقه، وكان يعرض عليه واحدة أو أكثر ليتزوجها، لكن “نصار عبد الله” كان يقول له إن هذه أنفها طويل، مما يعكس ميولا استشمامية قد تحيل حياته إلى جحيم، أما تلك، فعيونها واسعة مما ينبيء بقدرتها الكبيرة على شوفان ما لا ينبغي أن تشوفه، مما يعرض حياته كلها للدمار الشامل، وهكذا نفض “سليمان” أمر صاحبه نهائيا.

     في إحدى راحاته من ثلاث نسوة مجتمعات، ميّل عليه “نصار عبد الله” وقال له:

     أخيرا وجدت ضالتي، فتاة صحفية في مجلة أكتوبر، اذهب إليها، واخطبها لي.

     فرح “محمد سليمان” لهذا الخبر، وقرر أن يساعد صديقه.

     ذهب إلى مقر المجلة بحجة إبداء تعليق على ما كتبته الصحفية الشابة، سأل عنها، وجلس إليها، وشرب معها الشاي، ولما رآها مناسبة تماما، طلب منها تحديد موعد مع والدها لأمر هام، ولا بد أنها أدركت الأمر، ولا بد أنها كانت موافقة عليه، فحددت معه الموعد، وأعطته العنوان.

     اتصل بصاحبه ليطمئنه، وصاحبه اطمأن.

     في الموعد المحدد، اشترى بوكيه ورد، وعلبة جاتوه، واتجه إلى العنوان في الموعد المضروب، وفي خطواته إلى العنوان، أعاد في دماغه التفكير في القضية بأكثر من طريق، وأكثر من أسلوب، واهتدى إلى حل وحيد، ومخرج مناسب.

     في المساء، اتصل به “نصار عبد الله” ليعرف نتيجة الزيارة، فحكى له “محمد سليمان” تفاصيل اللقاء بدقة متناهية، منذ شرائه للورد والجاتوه، وحتى سماع الزغرودة التي رنت في أرجاء الدار، وأخبره أن كل شيء تم كما اتفقا عليه تماما، باستثناء شيء واحد فقط، وهو أنه خطبها لنفسه.

     أنتم لا تعرفون الشاعر “نصار عبد الله” كما أعرفه، وبالتالي، فأنتم لا تتوقعون ما فعله إزاء هذا السطو المسلح الذي قام به صديقه، لقد فرح جدا بهذا الخبر، ربما أكثر مما لو تم على الوجه الذي أراده، ليس هذا فحسب، بل أصر على أن يحضر الفرح، وقام بتصويره بكاميرته الشخصية، واصطحبهما في نهاية الحفل إلى بيتهما بسيارته الخاصة، وعاد سعيدا إلى بيته.

     أكثر الناس تفاؤلا، لم يكن يصدق أن الشاعر “محمد سليمان” سيستمر في زواجه أكثر من سنة أو سنتين على الأكثر، وسيعود لسيرته الأولى، متنقلا بين هذه وتلك، لكن المعجزة قد حدثت، ومنذ أن قام “نصار عبد الله” بتوصيله هو وعروسه إلى بيتهما، وأغلق عليهما الباب، لم يفتحه “محمد سليمان” إلا ليعود إليه، واستمر زواجه سنة بعد سنة، وعقدا بعد عقد، ومازال مستمرا، وأكبر الظن أنه سيستمر إلى النهاية.

     مرة، أتت إلى بيت الشعر إحدى نسائه اللواتي تزوجهن في الأزمنة القديمة، وبعد الندوة الشعرية وقفنا لالتقاط الصور التذكارية، ووقفت هي بجواره، لكنه زجرها بحدة، فأتت لتقف بجواري، وأنا بحكم عملي كمدير لبيت الشعر، يحق للنسوة الجميلات أن يتصورن معي بأمان تام، إلى هذه الدرجة بلغ التزام “محمد سليمان” بعد زواجه.

     أما “نصار عبد الله”، فقد وفق هو الآخر إلى زوجة، وتزوجها بالفعل، ومازال على زيجته، رافلا في الفرح والسعادة، كصديقه تماما.

     قال لي “فاروق شوشة” إن أكثر اثنين التزاما في جيل السبعينيات الشعري، هما “محمد سليمان” و “أحمد طه”، وأنا بطبيعة الحال، لا يمكنني أن أترك “فاروق شوشة” على عماه في نظرته المفرطة في المثالية عن شاعرين مفرطين في عدم الالتزام، وأوضحت له الحقيقة كلها، اندهش جدا من كلامي الذي بدا له كما لو كان غير معقول، فسأل “محمد سليمان” عن عدد النسوة اللواتي عرفهن، فعددهن له، وأنا كنت أساعده في تذكر من كن يسقطن من ذاكرته، أما عن “أحمد طه”، فقد أكد له “محمد سليمان” صحة كلامي.

     “فاروق شوشة” و “محمد حماسة عبد اللطيف”، أكثر اثنين في جيل الستينيات التزاما، فهما أخلاقيان إلى أبعد مدى، مرة زارتنا إحدى المبدعات العربيات، في الحقيقة هي نصفها مصري ونصفها عربي، وكانت في جلستها مظهرة لأجزاء ليست قليلة من جسمها، فوقا وتحتا، وطوال الجلسة ظل “فاروق شوشة” ناظرا في الأرض، بينما “محمد حماسة عبد اللطيف” لم يحتمل، فترك المكان كله، متعللا بانشغاله بإتمام بحث لغوي، وعندما سألتني نصف المصرية ونصف العربية، لماذا ينظر “فاروق شوشة” في الأرض طوال الوقت هكذا، أجبتها، بأن عينيه توجعانه.

     رحم الله صديقيّ الكبيرين “فاروق شوشة” و “محمد حماسة عبد اللطيف”، فقد عرفت الآن لماذا أحبهما جدا، ذلك لأنني في الأمور النسائية، مثلهما تماما.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى