في نقد مبدأ العلة: السبب فعل الله ولا تتخلف نتيجته عنه أبد الآبدين
د. خضر محجز | فلسطين
إضاءة:
نشر هذه المادة هنا يحيرني، لأنني لا أعلم إن كان الأجدر أن أسبقه بجملة: “ليس للجميع” فيغضب العظماء ويقولون: “وما تظننا؟ لا نفقه ما يقال ونحن شعب الجبارين؟”
أم أنشره دون تحذير، فيقول لي الأعظم منهم: “يا أخي، أنت تكتب ما لا يفقهه الناس. اكتب ما يفهمه الجبارون” أم تريد أن تتفلسف سيادتك؟.
ولذا فإنني أقترح أن تختاروا العنوان بأنفسكم، مع علمي أنكم ستكونون الأقل.
عرض المقول:
يقول مبدأ العلة: «كل موجود له علة ما» فالنور في الكون علته الشمس.
والحقيقة أنه كلما تعمق الناس في فحص أصل فكرتهم عن ظاهرة ما، أصيبوا بالإحباط، لأنهم اكتشفوا أنهم لم يبنوا فكرتهم عن الظاهرة على مبدأ راسخ فلسفياً.
والمبدأ الذي يربط بين الظاهرة المفحوصة، وما سبقها مما أخذت حكمه، هو ما ظنوه “اتحاد العلة”. وقصدوا منه أن الأول تسبب بالأخير.
لقد قيل لنا ـ على سبيل المثال ـ إن الشمس تأتي بالنور. فصدقنا ذلك بحكم العادة، دون نعرض القول على جهاز فحص الكذب.
يسأل جهاز فحص الكذب:
ـ كيف علمتَ أن الشمس تأتي بالنور؟
فيجيب مبدأ العلة:
ـ لأن البشر رأوها على مدار التاريخ تطلع، ورأوا النور يأتي في أعقابها.
ـ فهل رأى البشر هذه الحالة منذ بدء العالم؟
ـ بل ربما منذ بدأت تصلنا أخبارهم.
ـ فإذن هناك زمن لم يصلنا خبره، وأنت تثبت ـ دون دليل ـ أن الشمس أشرقت فيه يومياً، وتبعها النور.
ـ ولكنك لا تستطيع أن تنفي أنها كانت تشرق وتأتي بالنور.
ـ وهل عدم القدرة على نفي شيء ما يعني ثبوته؟
ـ إنه يعني أن لا أحد يستطيع نفيه؟
ـ ولا يستطيع أحد إثباته دون تجربة.
ـ أعطني مثالاً.
ـ لو أني قلت لك: “إن هناك عوالم خارج الفضاء المكتشف، فيها أناسٌ مثلنا يزرعون ويحصدون ويتزوجون وينجبون، مع أنه لا يوجد هناك هواء” هل يمكنك نفي قولي هذا بأدلة علمية حتمية؟
ـ نعم، فالعلم في الأرض قال إن ذلك مستحيل.
ـ لكني كلمتك عن كون خارج قوانين الأرض.
ـ فإذن فلن أستطيع نفي حقيقة ما تقول، ولن تستطيع أنت إثباته.
ـ فهل سيكون علمياً أن تقول: “مستحيل”، أو أقول: “حتماً” في خبر لم يتم نفيه ولا إثباته؟
ـ كلا، لأن الأمر خارج نطاق الملاحظة الحتمية.
ـ إذن فلا بد لكل قول بالحتم من دليل حتمي، حصلنا عليه بالمعاينة التي لا تحتمل التخلف.
ـ نعم.
ـ فهل حصلنا من المعاينة الحتمية التي لا تحتمل التخلف ـ ماضياً وحاضراً ومستقبلاً ـ على أن الشمس تأتي بالنور؟ لقد رأينا النور يأتي مرافقاً له. فهل مجرد المرافقة يعني التسبب أو الخلق؟ أرأيتك لو كنت على مدى عمرك ترى توأمين مع بعضهما، أكنت مستنتجاً من ذلك أن أسرعهما في الوصول إليك هو الذي تسبب في وجود الذي يليه؟
ـ لا طبعاً.
ـ وهكذا هي كل معرفتنا عما نسميه “مبدأ العلة”: مجرد ملاحظة غير مكتملة الأركان.
ـ هل معنى ذلك أن ننفي العلم التجريبي؟
ـ لا، بل نثبته بنسبة ملاحظتنا. وبما أن ملاحظتنا قاصرة، فلنقل: “إن هذا يتسبب بهذا غالباً وليس حتماً”. ألم تر مصدوعاً لا ينفعه الأسبرين؟ ولكن سيظل الطبيب يصرف الأسبرين لكل الناس علاجاً للصداع، مع علمه أن هناك من لا ينفعهم.
بل إن الفيلسوف كانت أثبت ـ بقوة العبقرية ـ أن مثل هذا قد يحدث في الرياضيات، التي يغرم الناس بالقول إن علاقاتها حتمية. وإنه لقانون صحيح ـ إلى حد ما ـ أن نقول بأن هذا تسبب في ذاك “غالباً”. لأننا سنلاحظ أن ثمة نتائج تقول باستثناءات.
ـ إلام تريد الوصول يا جهاز فحص الكذب؟
ـ أريد أن أقول بأن ستبقى أشياءُ، من حولنا، لا نعلمها حق العلم. أريد أن يتواضع العالم حين يقرر أنه يستطيع كل شيء. أريد أن أقول بأن هناك سبب الأسباب، وعلة العلل، الذي لا يمكن معرفته بالعلم، لسبب بسيط يقول “إن العقل قاصر، والعلم حصيلة ملاحظات القاصرين”.
وفي النهاية أريد القول: بأن الفضل في تعليمي هذا الحِجاج، كان حجة الإسلام أبا حامد الغزالي ـ قدس الله روحه ونوّر ضريحه ـ من حيث أبى (المنقذ من الضلال) أن يجعل العلة سبباً مع، أنه أثبتها. فالسبب لا تتخلف نتيجته عنه أبد الآبدين. وهو فعل الله.
لقد قال الغزالي كلاماً طويلاً وصعباً، محصلته أن السبب فاعل حتمي، أما العلة ففاعل ظني يمكن رصده والقياس بموجبه، مع العلم أنه قد يكون بنسبة ضئيلة خارج التغطية.
أو ما يمكنني صياغته في الجملة الآتية: “العلة سبب غالباً، ولا تفعل بنفسها”
لقد كان هذا أحد أهم ردود الغزالي على الفلاسفة والمعتزلة.
الفاتحة لروح حجة الإسلام.