جمِّلْ كلامك بالقرآن ( 2 )

أ. د/ هدى مصطفى محمد | أستاذ المناهج وطرق التدريس- كلية التربية – جامعة سوهاج

هناك بعض العبارات والأقوال التي نجد أنفسنا نرددها في بعض المواقف، وهذه الأقوال قد تكون أمثالاَ شعبية، أو أقوالاُ مأثورة والأجمل أن تكون آيات قرآنية أو أحاديث نبوية.

وترديدنا لهذه الأقوال يأتي في سياقات لغوية مختلفة، ويأتي دائماً لتدعيم ما نقول بأدلة واستشهادات. ونأمل دائماً أن نكون موفقين في اختياراتنا لهذه الأدلة، لتكون مناسبة للسياق، ولعل أول طرق التوفيق هو التعرف إلى المعاني الصحيحة لهذه الأدلة وسياقاتها أو مناسباتها.
ومن هنا جاء هذا الطرح للآيات القرآنية التي يكثر استخدامها في أحاديثنا وكتاباتنا لنتعرف سياقاتها أو مناسبة نزولها وفي هذا إعادة نظر للحكم على صحة استخدامنا إياها، فقد يتحقق تصحيح فهم لدى البعض، وكذلك إدراك لمدى ما نستخدمه من القرآن في أحاديثنا وقد تكون بداية للإكثار من ذلك فنجمل أحاديثنا بالقرآن، كما أن معرفة المعاني ستزيد من إدراكنا لكثير من السور التي نقرأها وبذلك يتحقق عنصر من عناصر التلاوة الشرعية وهو التدبر في معاني ما نقرأ، ولعل الفهم لبعض الآيات ييسر التلاوة ويحببنا فيها ويعين على الحفظ لمن أراد؛ فالفهم من العوامل المهمة التي تساعد على حفظ القرآن والارتباط به.
ونستكمل ما بدأنا من قبل ومعنا آيات اليوم من سورة آل عمران: قال تعالى: “لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ” آل عمران / 92
المقصود في هذه الآية أمران: الأول الحض على الإنفاق، والتنويه أنه من البر. والآخر: التنويه بالبر والإنفاق خصلة من خصاله .
والبر كمال الخير وشموله وروى النواس بن سمعان عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «البر حسن الخلق والإثم ماحاك في النفس وكرهت أن يطلع عليه الناس» واستخدام “حتى” في الآية يعني أن قبل الإنفاق وسائل أخرى موصلة إلى البر، وأن البر لا يحصل إلا بنهايتها وهو الإنفاق المحبوب، فلو قيل (إلا تنفقوا) لتوهم السامع أن الإنفاق من المحب وحده يوجب نوال البر. وفاتت الدلالة على الوسائل والدرجات التي أشعرت بها “حتى” الغائية.
والمال المحبوب يختلف باختلاف أحوال المتصدقين ورغباتهم وسعة ثرواتهم وفي التصدق تزكية للنفس من بقية ما فيها من الشح. روى مالك في الموطأ عن أنس بن مالك. كان أبو طلحة أكثر أنصاري المدينة مالاً. وكان أحب أمواله بئر حاء وكانت مستقبلة المسجد وكان رسولنا الكريم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب فلما نزلت” لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ ” جاء أبو طلحة فقال يا رسول الله إن الله قال “لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ” وإن أحب أموالي بئر حاء. وإنها صدقة لله أرجو برها وزخرها عند الله فضعها يا رسول الله حيث أراك الله. فقال الرسول الكريم بخ بخ ذلك مال رابح وقد سمعت ما قلت وإني أرى أن تجعلها في الأقربين فقال أفعل يا رسول الله فجعلها لحسان بن ثابت وأبي بن كعب. وقد بين الله خصال البر في قوله تعالى: «وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ» البقرة / 177
فالبر هو الوفاء بما جاء به الإسلام، وجمع الله بينه وبين التقوى فقال تعالى:«وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبَرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ» المائدة / 2 ” فقابل بين البر والإثم .
وجاء في الأثر أن عبد الله بن عمر كان يكثر التصدق بالسكر لأنه يحبه ويردد قوله تعالى: «لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ»، والآية شائعة بهذا الفهم لكن الكثيرين لا يحرصون على تطبيقها، فلينظر كل منا ما يحب وينفق ويعطي منه الفقراء.
قال تعالى: «وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّه غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ» آل عمران/ 97
عند الجمهور أن هذه أول آية في وجوب الحج، أما الاستطاعة فتارة تتعلق بالشخص نفسه وتارة بغيره. عن أنس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سئل عن قول من استطاع إليه سبيلا. فقيل: ما السبيل؟ قال الزاد والراحلة. وعنه أنه قال: تعجلوا إلى الحج فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له. وقوله تعالى «وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّه غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ». قال ابن عباس ومن جحد فريضة الحج فقد كفر والله غني عنه. وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «من ملك زاداً وراحلة ولم يحج بيت الله فلا يضره مات يهودياً أو نصرانياً». وروى الحسن البصري قال: «قال عمر بن الخطاب لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار فينظروا إلى كل من كان عنده جدة (سعة) فلم يحج، فيضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين».
وهذا يؤكد وجوب وحتمية الحج لكل مستطيع، والاستطاعة المشار إليها في أقواله – صلى الله عليه وسلم – أقل الاستطاعة.
قال تعالى:«وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» آل عمران / 103
قيل حبل الله هو عهد الله، وقيل هو القرآن كما في الحديث عن عبدا لله بن مسعود – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم- قال:«إن هذا القرآن مأدبة الله، فتعلموا من مأدبته ما استطعتم، إن هذا القرآن حبل الله، وهو النور المبين، الشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن اتبعه»، وقوله تعالى «ولا تفرقوا» أمر بالجماعة ونهي عن التفرقة قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله يرضى لكم ثلاثاً ويسخط لكم ثلاثاً: يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم، ويسخط لكم ثلاثاً: قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال».
وقوله «وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ» فقد ذكر محمد بن اسحاق أن هذه الآية نزلت في شأن الأوس والخزرج ذلك أن رجلاً من اليهود مر بملأ من الأوس والخزرج فساءه ما هم عليه من الاتفاق والألفة، فبعث رجلاً معه وأمره أن يجلس بينهم ويذكرهم ما كان من حروبهم يوم (بعاث) وتلك الحروب ففعل. فلم يزل ذلك دأبه حتى حميت نفوس القوم وغضب بعضهم على بعض وتشاوروا ونادوا بشعارهم، وطلبوا أسلحتهم.. فبلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فأتاهم فجعل يسكتهم ويقول: «بدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم» وتلا عليهم الآية فندموا على ما كان منهم واصطلحوا وتعانقوا وألقوا السلاح -رضي الله عنهم-.
وسياق استخدامنا لهذه الآية في معناها الصحيح. قال تعالى:«كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ» آل عمران/ 110
جاء في كتب التفسير أن الخطاب هنا لأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد قال عمر: هذه لأولنا ولا تكون لآخرنا، وجاء في ابن كثير أن المقصود أنهم خير الأمم وأنفع الناس للناس، ولهذا جاء تفصيل بعدها «تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ»
قال ابن عباس: هم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة مع رسولنا الكريم. والصحيح أنها عامة في جميع الأمة. ولذلك فالمديح في هذه الآية لمن اتصف من هذه الأمة بهذه الصفات. ومن لم يتصف فهو أشبه بأهل الكتاب الذين ذمهم الله تعالى في قوله: «كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه»
واستخدامنا لهذه الآية أيضاً يأتي بمدلولها الصحيح، ونستشهد بها وكلنا امتنان لله سبحانه وتعالى أنه -عز وجل- فضلنا على كثير من الأمم، ولكن هذه الأفضلية يجب أن يعلم الجميع أنها بشروط آداء حقها والتي وردت في الآية الكريمة. قال تعالى: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ» آل عمران / 159
وفي هذه الآية يخاطب الله -عز وجل- رسوله ممتناً عليه وعلى المؤمنين فيما ألان به قلبه على أمته المتبعين لأمره التاركين لزجره، ويعني بأي شيء جعلك الله لهم ليناً لولا رحمة الله بك وبهم، ثم قال «وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ» الفظ تعني الغليظ والمراد غليظ الكلام أي لوكنت سيء الكلام قاسي القلب عليهم لانفضوا عنك وتركوك ولكن الله جمعهم عليك وألان جانبك لهم تأليفاً لقلوبهم. ولهذا قال تعالى:«فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ» فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يشاور أصحابه في الأمر تطييباً لقلوبهم ليكون أنشط لهم فيما يفعلونه كما شاورهم في بدر وأحد والخندق ويوم الحديبية .
وقيل «وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ» نزلت في أبي بكر وعمر، وكانا حواري رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ووزيريه، وأبوي المسلمين. وقال فيهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما.
«فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ» أما إذا شاورتهم في الأمر، وعزمت عليه، فتوكل على الله فيه.
وتستخدم هذه الآية بأجزائها المختلفة في مواضع مختلفة فقوله تعالى: «وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ» تستخدم في الدعوة إلى اللين في التعامل مع الناس. فاللين في القول تلين معه العقول وتستكين القلوب لمن يدعوها. والعكس مع من يتعامل معهم بفظاظة وغلظة فلا يكون إلا الصد والعنف رداً. وقولهم:«وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ» دعوة للمشورة وعدم الانفراد بالرأي، وقوله تعالى: «فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ» دعوة للعمل بنشاط بعد الاجتهاد في استحضار الهمة. وجميع الاستخدامات السابقة تتواءم والمعنى القرآني. قال تعالى: «إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» آل عمران/ 160
الإخبار هنا للمؤمنين، ولا يجهل مؤمن أن الله إذا قدر نصر أحد فلا راد لنصره، وإن قدر خذله فلا ملجأ من الهزيمة. وبهذا المعنى يتحقق في جانب الله مالا يجهله معترف بإلهيته، مؤمن بوحدانيته. وفي ذلك تقرير لتسلية المؤمنين على ما أصابهم من الهزيمة حتى لا يحزنوا على ما فات لأن رد الأمور إلى الله تعالى عند العجز عن تداركها مسلاة للنفس وعزاء عند المصيبة ، وفي ضمن ذلك تنبيه إلى أن نصر الله قوماً في بعض الأيام، وخذله إياهم في بعضها لا يكون إلا لحكم وأسباب، فعليهم السعي في أسباب الرضا الموجب للنصر، وتجنب أسباب السخط الموجب للخذل.
واستخدام هذه الآية يشيع في المواساة والتسلية للنفس بأن كل الأمور مردها إلى الله خيرها وشرها وما علينا إلا التسليم بذلك. قال تعالى:«وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ»آل عمران /169. الخبر هنا عن الشهداء بأنهم إن قتلوا في هذه الدار فإن أرواحهم حية مرزوقة في دار القرار .
وفي الحديث عن طلحة بن خراش الأنصاري قال سمعت جابر بن عبد الله قال: «نظر إليّ رسول الله ذات يوم فقال: يا جابر مالي أراك مهتماً؟ قلت: يا رسول الله استشهد أبي وترك ديناً عليه. قال فقال: ألا أخبرك ما كلم الله أحداً قط إلا من وراء حجاب، وإنه كلم أباك كفاحاً (مواجهة). قال: سلني أعطك. قال: أسألك لأن أرد إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية فقال الرب -عز وجل- إنه قد سبق مني القول إنهم إليها لا يرجعون. فقال أي رب فأبلغ من ورائي فأنزل الله «وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ».
أما عن الأرواح فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «إن روح المؤمن تكون على شكل طائر في الجنة» أما عن أرواح الشهداء فقال -صلى الله عليه وسلم- أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل فاطلع عليهم ربهم اطلاعة فقال: هل تشتهون شيئاُ؟ فقالوا: أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا.
والحسبان هو الظن، والنهي هنا عن أن يظن أنهم أموات، أو بالأحرى النهي عن الجزم بأنهم أموات. فقد أثبت القرآن للمجاهدين موتاً ظاهراً. بقوله «قتلوا»ونفى عنهم الموت الحقيقي بقوله «بل أحياء» فهم إن كانوا أموات الأجسام فهم أحياء الأرواح .وهي حياة بمعنى تحقق آثار الحياة لأرواحهم من حصول اللذات والمدركات السارة لأنفسهم وعند ربهم تعني حياة خاصة بهم ليست هي الحياة المتعارفة في هذا العالم والرزق يلائم حياة الأرواح، وهو رزق النعيم في الجنة.
ومن الشائع القول بأن أرواح الشهداء في جوف طير خضر تسرح في الجنة، ويتوافق هذا مع حديثه صلى الله عليه وسلم في وصفه لأرواح الشهداء. قال تعالى: «الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ« آل عمران / 173
قال ابن عباس عن «حسبنا الله ونعم الوكيل» قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار ، وعن أبي رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم وجه علياً في نفر معه في طلب أبي سفيان فلقيهم أعرابي من خزاعة فقال : إن القوم قد جمعوا لكم. فقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل. فنزلت فيهم الآية. وفي الحديث : إذا وقعتم في الأمر العظيم فقولوا حسبنا الله ونعم الوكيل.
وحسب أي كافٍ، والمعنى أنهم اكتفوا بالله ناصراً وإن كانوا في قلة وضعف ، والوكيل هو الناصر والمدافع .
واستخدامنا “حسبنا الله ونعم الوكيل” صحيح، فنرددها في مواقف ضعفنا وقلة حيلتنا، وعدم القدرة على الانتصار لأنفسنا أو إثبات حقنا، وتخلي الناس عنا في مواقف نظن أنهم ناصرونا، ففي هذه المواقف علينا ألا نحزن وأن نلجأ إلى الله وحده فلا ملجأ ولا ناصر ولا مدافع عنا إلا هو ، وكفى به ناصراً ووكيلا. قال تعالى: “كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ ” آل عمران / 185
الله وحده هو الحي الذي لا يموت، والجن والأنس يموتون وكذلك الملائكة وحملة العرش وينفرد الواحد الأحد القهار بالديمومة والبقاء، فيكون آخراً كما كان أولاً. وفي هذه الآية تعزية لجميع الناس فأنه لا يبقى أحد على وجه الأرض حتى يموت. فإذا انقضت المدة وفرغت النطفة التي قدر الله وجودها من صلب آدم وانتهت البرية أقام الله تعالي القيامة وجازى الخلائق بأعمالها جليلها و حقيرها، كبيرها وصغيرها فلا يظلم أحداً مثقال ذرة.
وروى ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم وجاءت التعزية، جاءهم آت يسمعون حسه ولا يرون شخصه فقال السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته” كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ” إن في الله عزاء من كل مصيبة وخلفاً من كل هالك ودركاً من كل فائت، فبالله ثقوا وإياه فأرجوا ، فإن المصاب من حرم الثواب والسلام عليكم. قال جعفر بن محمد فأخبرني أبي أن علي بن أبي طالب قال: أتدرون من هذا ؟ هذا الخضر عليه السلام.
والحقيقة أن ترديدنا لهذه الآية يكون عند موت الأعزاء والأحباب لنعزي أنفسنا بأن الجميع إلى هذا المصير المحتوم وهذا هو السياق الصحيح .
وللحديث بقية ،،،

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى