العراق .. ماذا لو لم يسقط النظام الملكي ؟
توفيق شومان | مفكّر وإعلامي لبناني
اللوحة للفنان البريطاني: وليام هولمان هانت
في حوار بين عبد المحسن السعدون وتوفيق السويدي، وكلاهما شغل رئاسة الحكومة العراقية في العهد الملكي ، يحصي الأول مجموعة من التحديات المهولة التي تواجه الدولة العراقية الناشئة في آوائل عشرينيات القرن الماضي، منها: كيفية بناء الشعور الوطني، وسُبل المؤالفة بين التعدديات القومية والدينية والمذهبية، والحؤول دون عودة تركيا إلى العراق، وإطفاء آثار النزاع والجراح بين العائلتين الهاشمية والسعودية، ومواجهة التطلعات الفرنسية نحو بغداد حيث عرش الملك فيصل بن الحسين الذي هزمته فرنسا في دمشق عام 1920.
أكثر من ذلك ، يقول المفكر القومي ساطع الحصري في كتابه “مذكراتي في العراق” إنه عند تتويج الملك فيصل عام 1921، ” ما كانت حدود العراق أخذت شكلا واضحا وثابتا، البصرة كثيرة الإتصال مع الخليج والهند، وكان احد مشاريع السياسة البريطانية، يرمي إلى ربط البصرة بإمبراطورية الهند ، واستطاعت هذه السياسة أن تدفع طائفة من الوجوه والأعيان للتوقيع على عريضة تطلب عدم ربط بلادها ببغداد، وأما ولاية الموصل، فكان البريطانيون شكلوا في القسم الشرقي منها حكمدارية غير مرتبطة بالعراق “.
واقع الأمر، أن العراق كان فوق صفائح ملتهبة في لحظة قيامته الحديثة ، بل كان أكثر شبها بـ “ليلى المريضة في العراق” كما هو عنوان كتاب المفكر المصري زكي مبارك الذي جال في الربوع العراقية ذهابا وإيابا .
إلا أن “مرونة ” فيصل الأول مع البريطانيين، والتي قامت على قاعدة ” خذ وطالب ” كما يقول ساطع الحصري، ويتفق معه في هذا التوصيف عالم الإجتماع العراقي المعروف علي الوردي في كتابه “لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث”، أفضت إلى” النهوض والتقدم بالعراق ، وساعدت على تكوين الدولة العراقية الموحدة ” ، وتلك ” المرونة ” لم تجعل فيصل ” أداة لهم ـ للبريطانيين ـ بصورة تامة ، إنه كان أداة لهم فقط إلى الحد الذي يناسب أهدافه، أو عندما لم يكن يجد أمامه خيارا آخر”، على ما يرى حنا بطاطو في كتابه “العراق/ الطبقات الإجتماعية والحركات الثورية “.
هل اليساري حنا بطاطو يذم فيصلا أم يمدحه؟
الإجابة متروكة لتكرار القراءة، ولكن ماذا يقول سياسيون ومثقفون عراقيون عن عراقهم الغابر ما قبل عام 1958 ؟
يقول السياسي والمفكر العراقي حسن العلوي في كتابه ” العراق دولة المنظمة السرية ” إن ” بغداد التي ترعرعنا في أزقتها وبساتينها ، غناء عباسي وشعر وسياسة ، فهنا مقهى للرصافي وعلى مرمى حجر مقهى للزهاوي، ولطلاب الآداب مقهى، وعشرون صحيفة وعشرة أحزاب ، وعشرات الباصات ذات الطابقين التي لم تعرفها عاصمة عربية “.
ذاك الحنين إلى عراق مضى، ستتردد أصداؤه في كتابات صفاء الحيدري (1921ـ1992) الشاعر وناشر صحيفتي ” كل شي” و ” الأصداء السياسية ” في العهد الملكي ، إذ يسهب كتابة وتفصيلا عن مقهى الرصافي ومنافسه مقهى الشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي ، وهو أمر يستعيده استاذ التاريخ الحديث ، العراقي طارق الحمداني في دراسة حديثة بعنوان ” نصوص بغدادية نادرة ” ، يُظهر فيها كيفية اجتماع حواريي المقاهي وميولهم الفكرية والأدبية والمهنية ، بحيث يبدو كل مقهى مرجعا لفئة عراقية معينة ، يمكن أن تكون تجارية أو حرفية، أو ثقافية أو سياسية .
في ذلك الزمن البغدادي الجميل ، يجول مير بصري (1912ـ 2005) عبر كتابه ” أعلام الأدب في العراق الحديث ” فيُحصي سلسلة طويلة من الأسماء اللامعة التي حفرت عميقا في الثقافتين العراقية والعربية فكرا وأدبا ، شعرا ونثرا ، صحافة وتأريخا ، من مثل رافائيل بطي وانستاس الكرملي ومعروف الرصافي وجواد علي واحمد سوسة وطه باقر وعلي الوردي وكوركيس عواد وعبد الرزاق الحسني ومحمد رضا الشبيبي ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي ومحمد مهدي الجواهري وبدر شاكر السياب وبلند الحيدري ، وغيرهم العشرات ممن أسهموا إسهاما فاعلا في تشكيل الوعي العربي العام في القرن العشرين .
في كتاب “مذكراتي في العراق ” يقول المفكر القومي ساطع الحصري ” المدة التي مضت بين تتويج فيصل ملكا على العراق وبين تاريخ وفاته ، كانت عبارة عن اثنتي عشرة سنة، ولكن خلال هذه المدة قطع العراق أشواطا كبيرة في طريق التقدم والنهوض “، ويرى طارق الحمداني أن ” عند احتلال القوات البريطانية مدينة بغداد ، كانت في حالة يُرثى لها ، غير أن الشيء الجديد في مدة الحكم الوطني في العراق ـ1921ـ 1958، لم يكن يتمثل في جانب اقتصادي واحد ، وإنما كان يتمثل في النهوض بكل مجالات الحياة الإقتصادية التي تشمل الزراعة والري والصناعة والتجارة والعمران في بغداد، وكخلاصة، يمكن القول بأن فترة النصف الأول من القرن العشرين ، مثلت مرحلة تغير جذري في التكوين الحضري لبغداد، بل قد تكون الفترة التي شهدت التغير الأكبر والأسرع في تاريخ المدينة حتى سبعينيات القرن العشرين ” .
وتأتي أقوال رئيس الوزراء العراقي توفيق السويدي ( 1892 ـ 1968 ) في ” مذكراتي ” لتقدم شهادة عملية ناتجة عن تجربته في الحكم والإدارة خلال مرحلة ما قبل إسقاط النظام الملكي عام 1958، وفي شهادته يقول السويدي ” لا يُنكر ما حصل في البلاد من نهضة في المعارف وفي المرافق الإقتصادية والتنظيم الإجتماعي ، وما تسبب من جراء ذلك من ثروات كانت مجهولة لدى الشعب ، فزاد إيراد الفرد وصار أكثر اتصالا بالعالم وزادت مؤسسات التعليم “.
ولا يبتعد اليساري فخري كريم، رئيس تحرير صحيفة “المدى” العراقية والمستشار الرئاسي بعد العملية السياسية عام 2003 ، عن جادة تضيء على انجازات العهد الملكي المنقلب عليه ، وبالرغم من نقده لمرحلة ما قبل الرابع عشر من تموز / يوليو 1958، إلا أنه يُقر في مقدمته لكتاب ” الكتابة والحياة ” للمثقف الموسوعي علي الشوك ” أن تلك السنوات منذ أوائل الأربعينيات في القرن العشرين، شهدت ازدهارا غير مسبوق في كل ميادين الثقافة والمعرفة والتعليم، حيث انبعثت من العراق الحداثة الشعرية وريادة المدارس الفنية في الحركة التشكيلية، وقد كان من أبرز مظاهر التقدم في تلك المرحلة التطور في التعليم الجامعي ” .
لكن تلك القفزة العلمية والمعرفية التي عرفتها المرحلة الملكية ” راحت تتردى ” بعد عام 1958، على ما يقول القيادي البعثي هاني الفكيكي (1936 ـ1997) في مراجعة تراجيدية لتجربته الحزبية في كتابه الشهير ” اوكار الهزيمة “، إذ ” كان ل 14 تموز / يوليو أثار أخرى على التعليم ، وبرغم توسع جامعة بغداد واستحداث كليات وأقسام وفروع جديدة ، تراجع أداؤها في مقابل تعاظم خضوعها للسلطة، فالجو التعليمي بدأ يتردى وراحت إدارات الكليات تفقد هيبتها أمام الإرهاب والتهديد والغوغائية “.
وفي جوانب ترتبط بالمشاريع الحيوية يتحدث المفكر العراقي عبد الحسين شعبان عن حقبة الخمسينيات ودور وزير المالية آنذاك ، عبد الكربم الأزري ، في إطلاق ” مجلس الإعمار” ، فيكتب قائلا ” إن مجلس الإعمار، يُعتبر بحق مشروعا تنمويا حقيقا بسياقات تلك الأيام ، عرفه العراق في الخمسينيات، واستند الى سياسة اقتصادية ناجحة فتحت آفاقا لبناء سدود وخزانات ، لعل أهمها مشروع خزان الثرثار، الذي كان الأبرز في الشرق الأوسط ومشروع سد الرمادي ومشروع سد الحلة وإصلاح بحيرة الحبانية وغيرها، اضافة الي بعض مشاريع الإسكان، وهو الأمر الذي غاب عن الدولة العراقية في سنوات لاحقة “، ذلك انه بعد إنشاء هذا المجلس عام 1950 ” دخلت بغداد مرحلة جديدة من تاريخها ، تضمنت مشاريع ذات مقاييس ضخمة، كالمخططات الأساسية للمدينة، والمشاريع الإسكانية الكبرى والعمرانية المختلفة “، وفقا لطارق الحمداني في ” نصوص بغدادية “.
وبخصوص برامج الرعاية الإجتماعية، وقد تكون الأولى على المستوى العربي، ذكرت شهرية ” لغة العرب ” البغدادية في عددها الصادر في نيسان / إبريل1927 أن ” البحث الصادق اثبت أن نصف أطفال العراق يموتون لعدم العناية بصحتهم، فأنشئت لجنة حماية الأطفال ، وعقدت ثلاث جلسات واتخذت وسائل شتى أهمها: النظر في مناهج دروس الصحة في المدارس الأهلية والرسمية ـ إيداع أمر تدريس حفظ الصحة للأطباء ـ الإسراع في تأسيس مشروع توزيع الحليب المعقم على الأهالي ـ وضع لائحة قانونية تقضي بفحص الرجال قبل زواجهم”.
هل يمكن تخيل العراق لو استمر على نهج أسقطته “ثورة” الرابع عشر من تموز / يوليو 1958؟
هذا سؤال مفتوح على النقاش، ولكن كيف كانت أحوال الحاكمين وقواعد الحكم وطرائقه ؟ من أين لك هذا أولا :
موسى الشابندر (1897 ـ 1967) أمسك بحقيبة الخارجية العراقية مرات عدة ، يرى في “ذكريات بغدادية” أن الملك فيصل الأول كان “رجلا عظيما بخلقه ومزاياه، ومن حسن حظ العراق أن يكون له ملك عاقل ومخلص ومحبوب مثل فيصل بن الحسين ” .
وما هي تلك المزايا ؟
يجيب المرافق الخاص للملك فيصل الأول ، تحسين قدري ، السوري الأصل واللبناني المولد ، على ذاك السؤال فيقول في مذكراته التي حققها المؤرخ العراقي الرصين سيار الجميل إن فيصل حين كان في سوريا شغلته القضايا السياسية ولم يكن يبد اهتماما ” في عيشة الترف ” ، ونظير هذه الصفة ستلازمه ملكا في العراق إستنادا إلى أمين الريحاني في كتابه ” فيصل الأول ” حيث يقول ” قلما كان يخرج في موكب، أو يظهر في حلقة براقة ، ما كان الناس ينتبهون لسيارة الملك أو يعرفونها إذا مرت في شوارع بغداد ـ وعاش ـ بين راتب محدود ومطالب وواجبات غير محدودة “.
راتب محدود ؟ يا للمفارقة !
يروي توفيق السويدي ، أن المعارضة العراقية استهدفته مرة حين كان يشغل رئاسة الوزراء ، انطلاقا من كونه ” لايساعد الملك ببعض المبالغ التي يحتاجها جلالته في سبيل معالجته الطبية ، وقد حصل في الحقيقة ما يساعد المعارضة على قولها ، لأن الملك كان يطلب من الحكومة مبلغا كلما سافر إلى أوروبا بقصد المعالجة، وقد طلب مبلغا في أوائل الصيف ، لكن الحكومة رفضت ذلك ، قائلة إن الملك يتقاضى مخصصات ملكية كافية لجميع أموره الشخصية “، ومثل هذه الواقعة يمكن العثور عليها في العديد من كتب السير الذاتية والمذكرات العراقية، بما فيها كتاب ” فرسان العروبة ” للعقيد الركن صلاح الدين الصباغ، اللبناني الأصل، وهو أحد الضباط الذين صدر بحقهم حكم الإعدام عام 1941 عقب حركة رشيد عالي الكيلاني ، وفي كتابه ينقل عن الرجل القوي ووزير الدفاع طه الهاشمي إن مجلس الوزراء العراقي خصص للوصي على العرش عبد الإله ، ألف دينار عراقي، راتبا شهريا.
وأما رؤساء الحكومات ووزراؤهم في العهد الملكي ، فقد ثبت بعد صدور ” مرسوم جمهوري ” بحجز أموالهم أنهم لم يكونوا أثرياء، بل ثرواتهم عادية وأكثرهم فقراء، مثلما جاء في مذكرات أحد أشهر الإعلاميين العراقيين والعرب ، يونس بحري ، المقرب من الحزب النازي الألماني ومنشىء إذاعة ” حي العرب من برلين ” ، فرصيد رئيس الوزراء ” أحمد مختار بابان كان8000 دينار في بنك الرافدين ، وخليل كنة الذي قالت عنه الإشاعات بأنه حاول تهريب 18 مليون دينار في سيارته ، لم يكن رصيده يتجاوز 4000 دينار” .
وتضم قائمة الوزراء الفقراء ، رستم حيدر المتحدر من مدينة بعلبك اللبنانية ، ووزير المالية والإقتصاد العراقيين لمرات عدة ، فبعد اغتياله عام 1940، تبين أن مجمل ما يملكه 320 دينارا على ما يورد المؤرخ العراقي نجدة فتحي صفوة الذي أشرف على تحقيق مذكراته ، وأما نوري السعيد ، وهو أقوى أركان النظام الملكي وأكثرهم شهرة ، وبحسب رواية حازم جواد (صدام مر من هنا ـ غسان شربل ) القيادي البعثي المعروف والذي قاد حزبه إلى السلطة في الثامن من شباط / فبراير 1963 ” كنا نقول عن نوري السعيد عميل الإستعمار ، ولكن لم يطعن احد في نزاهته أو انه قبض رشوة من هذا او ذاك ، وزوجته كانت في لندن بعد الإنقلاب بفترة قصيرة ، وتملك عقد لؤلؤ أو ماس ، ويبدو كانت في ضائقة مالية ـ باعته ـ ولم يجلب أكثر من 1500، أذكر الرقم ولا أذكر إذا كان جنيها استرلينيا أو دينارا عراقيا “.
هل كانت أقوال الملك وأفعاله آيات أو أسفار منزلات ؟
الواضح ، لم تكن كذلك ، فناجي شوكت (1894 ـ 1974) حين كان رئيسا للحكومة ، عارض ” مشروع نهرالغراف ” للري ، قائلا لمن نسب المشروع إلى الملك ” إن أقوال الملوك لا ترتفع إلى قدسية القرآن أو الأحاديث النبوية واجبة الإتباع ” كما جاء في سيرة رئيس الوزراء صالح جبر لنجدة فتحي صفوة ، وأكثر من ذلك ، فناجي شوكت يروي في مذكراته أنه وافق على إجراء امتحانات رسمية لطلاب المرحلة الثانوية في أحد القصور الملكية في مدينة الموصل ، وأصدر أمرا بإلقاء القبض على توفيق المفتي المشرف على إحدى المزارع العائدة للملك في بغداد، بسبب عدم امتثاله لقرار حكومي قضى بعدم فتح “سدات ” نهر دجلة إثر ارتفاع منسوبه .
وثمة واقعتان لا تقل شأنا ودلالة ، لكونهما تمس الملك مباشرة ، يمكن تلخيصهما كالتالي :
ـ الأولى يوردها اللواء والوزير فؤاد عارف في مذكراته، ومضمونها أن طالبا في الكلية العسكرية ، وكان صديقا للأمير غازي (الملك لاحقا)، توسط لدى العائلة المالكة لإنجاحه ، غير أن إدارة الكلية رفضت ذلك ” وقد جمعنا ضابط الخفر وقدمنا إلى الرائد سعيد سلمان ثم توجه إلى الأمير غازي قائلا : ياغازي قل لصاحب الجلالة إن الكلية العسكرية بأيدي أمينة ، فلا داعي لأن يتدخل في أمورها ، فلدى الملك مهمات أخرى أهم من أمور الكلية “.
ـ الثانية جرت أحداثها مع رستم حيدر حين كان وزيرا للمالية ، حيث أوعز بحجز أموال الملك، كما هو وارد في سيرته ومذكراته ، إذ انه ” أصدر قانونا لتحصيل الديون المتأخرة للحكومة، وبدأ رستم بتطبيق القانون على الخزينة الملكية الخاصة ، فأنذرها بدفع المتخلف عليها، فاعترض ناظر الخزينة ، عندها طلب رستم وضع الحجز على أملاك الملك في الحارثية “.
وعلى ذمة الرواة العراقيين ، ومنهم هاني الفكيكي الذي يقارن قضائيا وحقوقيا بين عهدين ويقول ” في العهد الملكي ، لم تكن للشرطة أو لأجهزة الأمن أية صلاحية في الدخول إلى البيوت إلا بأمر من قاضي التحقيق ، لكن استقلال القضاء وسائر مظاهر القانون بدأت تتبخر بعد 14 تموز ، إذ أصبح الإعتقال الكيفي مألوفا وتفشى التعذيب داخل المعتقلات ، وبعد ان كان العهد الملكي يتردد ألف مرة قبل أن يعتقل فتاة او إمرأة ، عمت بعد الثورة ظاهرة اعتقال الفتيات والسيدات لأضعف الأسباب والذرائع “، ويتحدث كاظم الحيدري مدير إذاعة بغداد حينذاك عن تجربته في السجن بعد “يوم تموز” الشهير قائلا ” لقد سلب الجنود البواسل ساعتي وخاتمي وقلمي ودراهمي ، وقد أخبرني آمر الحرس أنه أنقذني من الجنود الذين جاؤوا بالحبال لسحلي” ، ولقصص السحل بعد الرابع عشر من تموز / يوليو 1958، ما يُقص وُيقال ويُروى :
في الثالث من شباط / فبراير2002، أجرت قناة “الجزيرة” حوارا مع الجنرال عبد الرزاق النايف، قال فيه إن أحد قادة انقلاب 1958، عبد السلام عارف (رئيس الجمهورية بعد عام 1963) كان يحرض العراقيين عبر الإذاعة الرسمية لسحل أفراد العائلة المالكة ، ولم ينج ـ حتى ـ الطباخ التركي من السحل ، ولا نجت الملكة نفيسة من الإعدام ، علما أن عمرها كان تعدى الواحد والسبعين عاما كما تقول ابنتها الأميرة بديعة بنت علي في كتابها ” وريثة العروش ” وأما الوصي عبد الإله فقد بُترت أعضاؤه بما فيها عضوه الذكري على ما يروي الرواة .
ويوجز حنا بطاطو في كتابه ” الشيوعيون والبعثيون والضباط الأحرار” نهاية نوري السعيد بالقول ” جثته سُحلت… مُزقت إربا “، ويكشف محمد حسنين هيكل في كتابه ” عبد الناصر والعالم ” أن وفد عراقيا من قياديي تموز / يوليو 1958 ، جلب معه إلى القاهرة إحدى أصابع نوري السعيد لإهدائها للرئيس جمال عبد الناصر، ولما رأها الرئيس المصري عصف به الإشمئزاز وأعطى أمرا بدفنها على وجه السرعة.
ما كادت ” جمهورية 1958″ تطمئن إلى ثباتها ، حتى صال الشيوعيون في دماء القوميين وجال القوميون في أوردة الشيوعيين ابتداء من ” ثورة ” عبد الوهاب الشواف في عام 1959، ومرورا بإسقاط “الزعيم “عبد الكريم قاسم عام 1963وإعدامه ، وعنى ذلك الإنقلاب دخولا في ” ثورة ” جديدة عبر” التحالف القومي ” وشروع ركنيه البعثي والناصري في صولات قتل وسحل بحق الشيوعيين والمعارضين ، ومن ثم ” التفرغ ” ل” ثورة ” أخرى أثمرت مفاعيلها عام 1968 وأتاحت لحزب ” البعث ” الإنفراد بالسلطة من خلال الثنائي احمد حسن البكر ـ صدام حسين ، وفي تموز / يوليو 1979، كان العراق على موعد مع ” ثورة ” خامسة مهدت الطريق أمام ” تنحي ” احمد حسن البكر وصعود صدام حسين إلى رأس السلطة منفردا وأوحدا .
في مذكرات القياديين والوزراء العراقيين في حقبة الستينيات وما بعدها ، من مثل طالب شبيب (مراجعات في ذاكرة طالب شبيب ) وفخري قدوري(هكذا عرفت البكر وصدام) وصبحي عبد الحميد ( العراق في سنوات الستينيات ) وعدنان البجاجي ( صوت العراق في الأمم المتحدة) وجواد هاشم ( مذكرات وزير عراقي ) وجهاد كرم (بعثيون من العراق كما عرفتهم ) ، وغيرهم ، ما يكمل قائمة الأسئلة الكبرى المطروحة على العراق منذ عام 1958، وحتى الآن .
بعد إسقاط النظام الملكي ، نظمت رائدة القصيدة العربية الحديثة نازك الملائكة قصيدة من وحي المناسبة قالت فيها :
جمهوريتنا دفقة خير مسكوبة
تقطر إيمانا وعروبة
جمهوريتنا ضوءٌ ، عطر وعذوبة
تقطر من أحرفها الطيبة .
من المشكوك به ، إذا كانت نازك الملائكة استمرت على رأيها حتى لحظة رحيلها (2007) فكثيرون ممن أسهموا بإطاحة الملكية أو تحمسوا ل ” الجمهورية ” ، قلبوا ظهر المجن أو أجروا مراجعات تشبه تلاوة أفعال الندامة ، فحازم جواد ، كبير انقلابيي 1963 ، بعدما يشير إلى ان العهد الملكي لم يعرف أكثر من ثلاث عمليات اغتيال ، فإن الإغتيالات تحولت في عهد البكر ـ صدام إلى قاعدة ، ينهي كلامه بحسرة وحرقة قائلا ” ليتنا وفرنا دماء الجميع ، وبينهم نوري السعيد ، والعائلة المالكة وعبد الكريم قاسم والآخرين “.
ليتنا وفرنا دماء الجميع … يا : ليتنا ؟.