حكايا شهر يار.. لو كنت طبيبي (2)

شرين خليل | مصر

اللوحه الفنية للرسام ريتشارد بيرغ

دخلت وهي تحمل ابتسامة ساحرة أخذتني إلي عالم آخر .عالم من الخيال،كأني في بستان ملئ بالأزهار يفوح منه العبير وتتمازج فيه ألوان الفراشات .بعيدا عن رائحة الأدوية التي أجدها حولي في كل مكان .فأنا منذ بدء النهار أجد نفسي في عالم ملئ بالآلام والأوجاع .فكل من يأتي يحمل معه شكوي وألم وانا الذي أعالج وأداوي.
أعيش في دائرة مغلقة.
لفت نظري أنها تحمل بعض الكتب .سألتها ،كالعادة ،وأنا أخفي لهفتي
إيه الأخبار وليه جاية متأخرة..
الحمد لله بدأت أشعر بتحسن .أما التأخير فأنا جيت مرة قبل كده لقيت زحمة السكرتارية قالولي خليكي علي تواصل معانا فنزلت أشتريت الكتب وجيت .
كنت أسمعها وأنا أطيل النظر لها بشكل ملحوظ وبداخلي رغبة في سؤالها عن عدم إتصالها خلال الأيام الماضية ولكن منعني الخجل وايضا الحذر حتي لا تشعر تجاهي بقلق .
سألتها عن الكتب :
إيه الكتب دي ؟إنتي لسه بتدرسي!!
نظرت لي بدهشة ووضعت الكتب أمامي علي المكتب وردت بكل ثقة
وكأنها تلقي محاضرة:
أولا العلم مش بيقف عند سن معين أو عند مرحلة معينة.
ثانيا ودا الأهم لازم الإنسان يقرأ ويثقف نفسه بإستمرار .أنا عن نفسي بحب أقرأ علي الأقل كتابين في الإسبوع وفي كل المجالات مش شرط مجال معين .
ثالثا أنا من وجهة نظري إن القراءة دي زي الميه والهوا ومش بس كده أنا بشوف إننا لازم نقرأ ونسمع موسيقي ونلعب رياضة يعني الإنسان ينطلق ويخرج برا الحواجز والحياة الروتينية اللي بيحبس نفسه فيها مفيش جديد أو إضافة في حياته دا اكيد مش عايش صح ولا أنا غلطانة
شعرت لوهلة بإن كلامها إسقاط علي حياتي فهي من وجهة نظرها حياة مملة ،روتينية..
رديت محاولا إظهار نفسي بشكل أفضل كما تحب ..صح كلامك أنا لما بيكون عندي وقت بتفرج علي فيلم او مسلسل ..
ضحكت ضحكة فيها شئ من السخرية ثم قالت :
الأفلام والمسلسلات عمرها مابتكون زي القصة أو الرواية الأصلية طبعا؛ يعني لو قرأت قصة وشفتها فيلم الفيلم مش هايعجبك حتي في القصص والدراما الأجنبية وجرب وهاتصدقني..
وكفاية كلام عن الكتب لإن دا موضوع يطول شرحه ؛إكتبلي الدواء الجديد عشان بجد أنا أرتاحت وفعلا لهم حق الناس تشكر فيك .
كتبت لها بعض الأدوية ووصيتها بالإلتزام وحددت لها موعد أخر .
-أشوفك بعد أسبوعين لأني مسافر مؤتمر وياريت تطمنيني عليكي ولو برسالة.
-إن شاء الله تكون سفرية مثمرة تسافر وترجع بالسلامة.
مدت يدها لتأخذ الكتب من علي المكتب،مددت يدي لكي أصافحها قبل أن تذهب .
وضعت الكتب مرة أخري .ونظرت لي بإبتسامة ومدت يدها لتصافحني ولم اشعر بنفسي إلا وأنا أقبل يدها .
إتسعت عيناها من المفاجأة وشدت يدها بعنف وخرجت مسرعة دون أن تنطق بكلمة..
وقفت مكاني متجمدا….
لقد تجاوزت حدودي معها ،أنا لم اقصد ، حاولت الجلوس وبداخلي لوم وعتاب ،كيف لي أن اتغيب عن الواقع وأفعل شئ خارج عن السيطرة على الرغم من حذري الشديد في التعامل معها .أدركت وقتها أنني أحبها وفهمت معني جملة هل- رأي الحب سكاري- التي تشدو بها أم كلثوم .
تساءلت هل ستفهم هذا الفعل بشكل خاطئ ؟ بالطبع نعم ..
يالغبائي… لقد فقدتها .فهي لم تنتظر حتي أوضح لها سبب فعلتي ولكن لاح بصيص أمل ستجعلها تأتي أو علي الأقل تراسلني؛إنها الكتب … نعم الكتب لقد تركتها سهوا بسبب هروبها مني فهي لم تنظر خلفها ولم تبالي .
أخذت الكتب وقرأت العنوان أول كتاب الأحلام والأخر السراب.
تبسمت حزنا …
وكأنها رسالة بأن ما أتمناه أحلام وسراب .لابد أن أبتعد ولا انساق وراء مشاعر لا أدري ما نهايتها أو ربما أدري ولكن أتجاهل وأتناسي.
لملمت أشيائي وأنهيت عملي وذهبت إلي المقهي الذي أعتاد الجلوس فيه كل ليلة لكي أصفي ذهني من عناء عملي فأنا أشعر بالحرية في هذا المكان فهو خارج الأسوار أشعر فيه بالدف حتي في الليالي الممطرة.
أحضرت حقيبتي وأخرجت منها الكتب وأخذت كتاب الأحلام وبدأت أتصفح صفحاته وإذ بعيني تقع علي بعض السطور في الصفحات الأخيرة وكأنها تصف حالتي :
“الإنسان بدون حب ..إنسان ضائع متشرد بدون أهل بدون سكن بدون وطن بدون شئ يمت إليه بالقرابة بدون شئ يمسك عليه وجوده ويلضم لحظاته بعضها في بعض .إنه يتبعثر في ألف رغبة كل رغبة تنتهي إلي ملل .. وكل ملل ينتهي إلي يأس ..إنه حقا مجرد شهوات حلقها جاف تزداد عطشا كلما إرتوت ..لا شئ يملأ ذراعي ه ولا شئ يملأ قلبه ولا شئ يملأ عينيه ..زائغ ..زائغ ..علي الدوام”
أغلقت الكتاب ووضعته في الحقيبة وخرجت من عالم الأحلام إلي الواقع .فأنا سأذهب في الصباح لإجراء عملية جراحية في إحدي المحافظات القريبة وأحتاج لقسط من الراحة لكي أتقن عملي فهو مسؤلية تقع علي عاتقي ولابد أن أراعي الدقة والإلتزام .
بعد الإنتهاء من العملية وجدت منها رسالة تسألني عن الكتب لأن بها أوراق مهمة .إتصلت بها وأخبرتها أن الكتب معي وأنا في طريقي للعودة وطلبت منها أن أقابلها لكي تأخذ الكتب .
في البداية ترددت ولكنها وافقت ..
كدت أطير فرحا ووصلت إلي المكان المحدد لإجدها في إنتظاري.
– أنا أسف مرتين مرة عشان ضايقتك في العيادة والمرة التانية عشان إنتظرتيني كتير .
– مفيش داعي للأسف .أنا نسيت اللي حصل .وشكرا إنك إحتفظت بالكتب .
-يعني مش زعلانه مني ؟
– لا أبدا ..
-طيب ممكن أوصلك ؟
-شكرا جدا مش عاوزه أتعبك ..
– شكلك لسه زعلانه ؟ لو فعلا مش زعلانه والموقف دا إتنسي تسمحيلي أوصلك .. وأوعدك أنه مش هايتكرر تاني ..إتفقنا ؟
-إتفقنا ..
لم أصدق نفسي أنها تجلس بجانبي في سيارتي بعد أن كان الأمل مفقود في أن أراها مرة أخري .كنت أشعر أنها تسمع دقات قلبي من شدة الفرح .في ليلة واحدة أعرف مكانها ورقم هاتفها وأتحدث معها وتكون معي ..كانت لحظات صامتة ولكنها من أجمل لحظات حياتي ..
وصلت إلي منزلها وودعتني ..
وفي اليوم التالي وبعد إنتهائي من عملي في الليل ذهبت إلي الشارع التي تسكن فيه وعندما وصلت عند منزلها ،إتصلت عليها والغريب أنها تحدثت معي بشكل طبيعي جدا وبدأت أحكي لها قصة حياتي منذ طفولتي حتي دخولي الجامعة ..
ومر الوقت ولم نشعر به وبدأت الشمس في الإشراق وكانت المفاجأة أنها تعشق منظر الشروق .خرجت إلي الشرفة لتجدني أمامها في الشارع ..لن أنسي وقتها الفرحة التي رأيتها في عينيها والبريق الذي أسرني وجذبني وإحمرار وجنتيها ..قلت لها ممازحا :
أوعي أخوكي يشوفني وينزل يضربني .ردت علي ونبرات صوتها ترتعش فرحا :
-متخافش أخويا مش هنا شكله واقف هو كمان تحت بلكونة..ويلا بقي روح قبل ماحد يشوفك من الجيران ،إنت ناسي إنك مشهور ..
لوحت لها مبتعدا ..وأنطلقت وأنا أشعر بسعادة عارمة : أري الشمس وكأنها حياة جديدة ، أري الطيور في السماء تغني لي .
فجأة أشتاق للورد وأريد أن أذهب لحديقة مليئة بالورود .ومن هنا جاءت لي فكرة زراعة الأشجار فأنا لدي قطعة أرض صغيرة أمام المنزل الذي تركه لي والدي في بلدتنا الريفية .قررت أن أزرعها حتي أجد نفسي فيها بعيدا عن الناس .أنا وأحلامي فقط .فأنا أشعر بقلبي وكأنه قلب فتي لم يتجاوز العشرين
ولكن يأتي الواقع ليدق الأبواب ونستيقظ من الأحلام وندخل في دوامة العمل والحياة.
تمنيت أن ينتهي النهار ويأتي الليل لكي أتحدث معها فأخيرا وجدت من تسمعني ويرتاح لها قلبي ولكن ماذا لو عرفت الجانب الآخر من حياتي ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى