سلطة النص ونسبية التلقي.. بحث في المنهج
الدكتور خضر محجز | غزة – فلسطين
مقدمة:
لقد تعرضت سلطة النص الأدبي إلى الكثير من الاهتزاز, بعد طرح مفاهيم تفكيكية من مثل: لانهائية المعنى، واللعب الحر وموت المؤلف. هذه المصطلحات, التي كادت أن تتحول, مع كثرة التداول, إلى قوانين وجهت حركة إبداع النصوص وتفسيرها, طوال العقود الأخيرة من القرن المنصرم؛ الأمر الذي حدا بأحدهم إلى المطالبة بتأسيس شرطة للغة, تلقي القبض على من سرقوا المشار إليه (Referent).
اللغة والعالم:
“النصوص وقائع سلطة, لا وقائع تبادل ديموقراطي”(1). هكذا يحدد نيتشه العلاقة التقليدية للنصوص بالواقع. فالنص إما إخبار أو إنشاء. وهو في كلتا الحلتين تعبير عن سلطة, تملك قوة من نوع ما. ولعل هذا ينطبق على فعل الكلام بإطلاق؛ فحتى اعترافات المتهم, أمام المحقق, هي إخبار عن وقائع, يجب على المحقق أن يتعامل معها. ولا يهم إن كان هذا التعامل تصديقاً أو تكذيباً, لأن نص الاعتراف هو في موقع السلطة. والمحقق في موقع المتلقي, بشكل من الأشكال. فالمحقق هنا عليه أن يتعامل مع الاعتراف/ النص، لأن الحقيقة لا وجود لها خارجه. فالنصوص تمثيل لعالم قائم أو متخيل. والتمثيل إعادة خلق لموضوع سابق الوجود, في عالم الذهن أو في عالم الواقع.
هكذا كان الأمر دائماً, سواء فيما يتعلق بالنصوص الأدبية أم بالنصوص النفعية. فالنص ما هو, في نهاية المطاف, إلا رسالة تخرج من مرسل إلى مستقبل, يتلقاها ويفك شفراتها بخبرته. وقد يكون هذا النص شفافاً لا يحتمل إلا معنى واحداً, كما هو الحال مع النصوص العلمية؛ وقد يكون محتملاً لمعان عدة, كما هو الحال في كثير من النصوص الجمالية.
والآن عندما نعود إلى عبارة نيتشه السابقة, ندرك بعد هذا الزمن الطويل, وبناءً على تفحصنا لمجمل فلسفته, بأنه صاغها على هذا النحو, تعبيراً عن نظرة هجائية, لطبيعة هذه العلاقة, التي تفرضها النصوص على الواقع. فنيتشه لا يسلم بضرورة القبول بهذه العلاقة التقليدية, لأنه لا يقبل بوجود الحقيقة في ذاتها, وإنما هو يقرر بأن الحقيقة تُدرك وفق منظورات الناس المختلفة: لأنها مجرد شيء نسبي(2).
هذا هو المانفيستو الذي ألهم كثيراً من المشتغلين بالأدب. فلئن كانت الكلمات علامات حسية, للأفكار التجريدية التي تدور في أذهان الناس؛ لقد آن لها الآن أن تتوقف عن ذلك؛ فالأفكار لم تعد مرجعا نهائيا للكلمات. أي أن الأفكار لم تعد هي الحقيقة, التي تنوب الكلمات عنها, وتوصلها. لقد كان الأمر على هذه الشاكلة في السابق, عندما كان الاعتقاد متوجها إلى وجود لغة أولى شفافة, في شكلها الأصلي الذي منحه الإله للبشرـ حسب رأي تلميذ نيتشه النجيب ميشيل فوكو ـ ضاربة بجذورها في العلامات, قبل انقسام اللغات واكتسابها معاني جديدة, ووظائف رمزية(3).
لقد ظلت علاقة الفكر باللغة ـ طوال قرون ـ علاقة العلة بالمعلول: حيث الفكرُ علة اللغة, واللغةُ هي الأداة الحسية للفكر. وقد كان تاريخ الفلسفة, قبل نيتشه, قد افترض وجود الحقيقة (الجوهر), معتبراً أن مهمة الفلسفة هي الكشف عنها. حيث أكدت الفلسفة دائماً على فكرة جوهر النفس, أو جوهر العالم, كعلة أولى وراء كل الظواهر المتغيرة. لقد انطلق ديكارت من هذه الفكرة عندما قال: (أنا أفكر. فإذن أنا موجود). لكن عندما جاء الشكاك الأكبر نيتشه, أراد لكل هذه الفرضيات أن تنهار؛ لأنه بدأ ينظر في أساس الاعتقاد بها, مكتشفاً أن الإيمان بمبدأ العلة, هو أمر راجع إلى عادات اكتسبناها, بسبب اللغة. وهذه العادات ـ كمركز إحالة موثوق به ـ هي أقرب إلى مفهوم الميتافيزيقا, منها إلى البحث التجريبي. يقول: “أما الاعتقاد بأنه عندما يفكر في شيء, فلا بد من وجود شيء هو الذي يفكر ـ ذلك الاعتقاد الذي جعل ديكارت يقول: (أنا أفكر) حين شعر بتفكير ـ فإنه ليس إلا الاستعمال النحوي الذي اعتدنا عليه, والذي يضع لكل فعل فاعلاً”(4).
فالفكر ـ حسب نيتشه ـ يشارك في الوجود, ويتكامل مع الواقع. لكنه ليس علة أو مبدأ أو مقياسا لهذا الواقع. والمهمة الحقيقية لنا هي رؤية الأشياء على ما هي عليه, دون الرجوع إلى أي مركز إحالة, يجسد سلطة الميتافيزيقا. والوسيلة لذلك أن نتأملها من خلال مئات العيون؛ لأنه لا توجد هناك معرفة موضوعية ولا مطلقة, لأن المعرفة محددة بالمنظور الشخصي للفرد أو العصر.
هكذا بدأت اللغة تحل مكان الفكر، كمركز إحالة موثوق. ولئن كان نيتشه يقصد هجاء كل متعلقات الفلسفة المثالية, باعتبارها مجرد دوال لغوية لا مدلولات لها؛ إلا أن فلاسفة آخرين سوف يطورون هذه المقولة, ويعممونها على كل الإنتاج اللغوي الجمالي المسمى أدباً.
اللغة والفكر:
لقد شهدت لغة الأدب, بالفعل, خلال مراحل تطورها الطويلة, عملية تباعد تدريجي بين الكلمة كدال والمشار إليه كمدلول. وكلما تقدم الزمن, وتطورت أنساق الحياة والنصوص الأدبية؛ تطور معها هذا التباعد بين الدال في أصله المعجمي, والمدلول في تصوره الذهني، بتطور الحيل الخطابية التي بدأت تميل باطّراد نحو الرمزية, منزاحة عن مركزها المعجمي؛ بخلاف ما حدث للاستخدامات اللغوية النفعية, في الحياة العامة والاستخدامات العلمية.
وإذا كانت النظرية اللسانية الحديثة, منذ فرديناند دي سوسير, قد أوضحت وجود فارق نسبي بين الدال والمرجع, بسبب وجود انزياحات مختلفة لدى متلق عن آخر؛ فإن الأمر ظل في حدود المقبول, وظل المشار إليه شيئاً ذا ماهية, يشير إلى تحقق المدلول, بهذه الصورة أو تلك, في النص الأدبي. ناهيك عن الانسجام الذي ظل قائماً, في العلاقة مع الخطاب المتناول لفروع المعرفة المادية والطبيعية. لكن الخطورة بدأت تلوح في الأفق, من يوم أن وصل هذا التطور، إلى درجة الانفصام التام, بين طرفي العلامة اللغوية: الدال والمدلول, في الاستخدامات الأدبية: إذ بتنا الآن نتكلم عن دال هائم يلعب في الفضاء حراً, ثم لا يشير إلى أي مدلول, في سبيل تحقيق ما سُمي بـ (لانهائية المعنى). وبذا فقد أصبحت النصوص الأدبية لا تتكلم(5).
هكذا بدأت تتغير تدريجياً طبيعة العلاقة بين اللغة والفكر. حيث انزاحت اللغة من معلول إلى إحدى العلل, التي تشارك الفكر في رؤية الواقع وتوصيفه؛ إلى أن جاء فيلسوف التأويلية: مارتن هايدجر, فطور من خطاب نيتشه, حتى وصل بمنطقه إلى حدود ميتافيزيقية أعتى؛ حين اعتبر اللغة قوة عليا تسبق الأشياء في العالم الخارجي؛ بل تسبق الكينونة ذاتها. وإذا كانت اللغة قبل نيتشه تعبر عن الوجود القائم في الواقع؛ لقد غدت عند هايدجر إيجاده من العدم!. يقول: “الشعر هو مصدر وأساس اللغة والفن والتاريخ والكينونة والزمن والحقيقة. إنه التأسيس الأول, والإنشاء الأول, وتحديد المكان الأول, والتسمية الأولى. إنه يخلق الوجود, وينتج التفكير. لا شيء له وجود خارج الشعر. وبمعنى دقيق: لا وجود لـ (خارج الشعر), بل حتى (اللاشيء) نفسه لا وجود له خارج الشعر… إن الوجود نص خالص من البداية إلى النهاية”(6).
فنحن في نظر هايدجر نفكر باللغة؛ لا مجرد نستخدمها للتعبير عن الأفكار, لأن من المعروف, أن وجود الشيء فرع عن إدراكه. ولا معنى لوجودٍ غير مُدرَك البتة!.. وعلى هذا, فقد بدأت اللغة تحل محل الفكر. وهذا موافق لطبيعة أي فلسفة مادية, لا تدرك الماهيات, إلا من خلال تجلياتها الحسية.
تدمير المرجعية:
من هنا كانت انطلاقة الفيلسوف التفكيكي الفرنسي جاك دريدا، حين قرر أن إدراك العقل للمعنى أو للأفكار, بصوته الداخلي ـ كما تجري الأمور في العادة ـ هو مركز إحالة, كان موثوقاً في الماضي, كمعيار سلطة ناتجة عن حضور دائم للحقيقة. لكن الحقيقة الآن مشكوك في وجودها. واللغة لا تتحقق من خلال حضور المعنى في الذهن, لمجرد حضور الدال (الكلمة), بل إن الدال نفسه ليشير إلى غياب المعنى لا حضوره؛ فكلمة أبيض لا تحقق حضور اللون الأبيض, بل تحقق غيابه, لأننا لا نعرف الأبيض إلا باعتباره غير الأسود(7). لهذا فلم يعد للحضور من سلطة الآن.. تلك كانت مجرد سلطة غيبية, نتجت عن مرحلة طويلة من فلسفة مثالية, كان الإله وراءها. لذا فهي مجرد ميتافيزيقا (Logocentrism)(8) يجب رفضها, وتدمير تأثيرها الطاغي على الحياة الفكرية. خصوصاً بعد انهيار آخر السلطات: سلطة العلم, التي لم تستطع تحقيق السعادة والعدالة والأمن.
ولقد يمكن لنا هنا رؤية تأثير نيتشه الواضح, من وراء كل من هايدجر ودريدا, خصوصاً في قول نيتشه: “إن من المهم أن نتخلص من الكل والوحدة وأي قوة معينة, أو أي شيء غير مشروط؛ وإلا فلن نتوقف عن النظر إليه بوصفه محكمة النقض العليا, ولن نتوقف عن تعميده بوصفه هو (الله). يجب أن نهز الكل, وأن نتجاهل احترام الكل”(9).
ومن هنا وجدت مقولة نيتشه ـ حول نسبية الحقيقة ـ تجليها النقدي, الذي سوف يؤسس فيما بعد لمفهوم (اللعب الحر) أو (هيام الدوال), عند كل من جاك دريدا عام1966, ورولان ﭙارت عام1968.
لقد انهارت كل المراكز إذن, ولم يعد هناك من سلطة يُقبل حكمها في المواضيع المختلفة, فلماذا يظل الدال مرتبطاً بالمدلول ويشير إليه, ويدعوه إلى الحضور الذهني؟!. لقد أصبحت المدلولات التقليدية، التي استُخدمت عبر التاريخ، للإشارة إلى ذلك المركز، تقاوم التحديد، وتراوغ التثبيت. وتحولت إلى مجرد ألفاظ هائمة. وبهذا فقد انهارت العلاقة بين الدال والمدلول ـ وفق المفهوم السوسيري ـ فلا الدال يشير إلى مدلول واضح، ولا المدلول يمكن استحضاره ذهنياً من خلال دال محدد. لقد أصبحت الدوال، عند دريدا والتفكيكيين، حرة طليقة، قادرة على الإشارة إلى الشيء ونقيضه في آن. وهذا هو ما يسميه جاك دريدا اللعب الحر (Freeplay). كل هذا في سعي التفكيكية الدائب لرفض مبدأ الغائية, أو العليّة, الذي آمنت به الفلسفة منذ أفلاطون.
ولقد كان يمكن أن يقال بأن الأمر لا يعدو محاولة للثورة، المتحررة من الضوابط، دعت إليها دواعي انهيار سلطة العلم, وفشله في الإيفاء بما وعد به من السعادة, بعد موت الإله على يديه؛ لولا أن الأمر تعدى الفلسفة إلى اللغة, وصار يُنظر إلى إرادة ضرب سلطة اللوغوس, باعتبارها مركزاً بديلاً بدأ يتشكل ويحكم العلاقات النصية, بدلاً من العلاقات المنطقية القديمة. وإذا كانت العلاقة سابقاً, بين الدال والمدلول, هي علاقة ارتباط بين طرفي العلامة اللغوية, يمكن من خلالها حضور المشار إليه, بشكل أو آخر, فقد أصبحت الآن جديرة بأن لا تتحقق بتاتاً.
اللعب الحر:
يرتبط مفهوما (اللعب الحر) و(هيام الدوال) في استراتيجية التفكيك، بانهيار سلطة المركز في الفلسفة الغربية. فإذا كان ارتباط الدال بالمدلول, في السابق, يحقق حضور المشار إليه, ويمكن من تفسير النص, تفسيراً يمكن فهمه ضمن العلاقات المنطقية المعقولة؛ فإن التفكيكية نظرت إلى هذه العلاقة السوسيرية كسلطة غيبية, يجب تحطيمها, وترك الدال يشير إلى مدلول آخر ينشئه المتلقي, بعيداً عن كل إحالات تاريخية. وقد يكون هذا المدلول, المتحقق بفعل القراءة, مختلفاً لدى متلق عن آخر؛ الأمر الذي يحقق مدلولات بعدد القرّاء, بل بعدد مرات القراءة. فإذا كان الدال (شجرة)، على سبيل المثال، يشير إلى صورة محددة يستحضرها الذهن, فيتحقق المدلول بشكل من الأشكال؛ فإن دريدا اعتبر ذلك قهراً كهنوتياً تمارسه سلطة ميتافيزيقية على الدال, فتمنع تحققه؛ وبالتالي تمنع تحقق النص, إذ تفرض عليه معنى شفافاً واحداً, يحد من شعريته. ويشرح ڤنسنت ليتش هذا المفهومقائلاً: “إن كلمة شجرة، ذلك التجمع لأربعة حروف؛ ليست هي ذلك الشيء الخشبي. إن هذه العلامة [شجرة] تدل على غياب الشيء”(10), لا على حضوره.
يقول جاك دريدا, في بحثه التأسيسي الذي ألقاه في جامعة جونز هوبكنز عام1966: “أصبح من الضروري التفكير بأن المركز لا وجود له. وأن المركز ليس له موقع طبيعي. وأنه ليس موقعاً ثابتاً. بل وظيفة: نوع من اللاموقع, الذي يلعب داخله عدد لانهائي من بدائل العلامات. تلك هي اللحظة التي أصبح عندها كل شيء ـ في غيبة الأصل أو المركز ـ خطاباً؛ بشرط أن نتفق حول تلك الكلمة. أي: حينما أصبح كل شيء نسقاً, لم يعد فيه المدلول المركزي ـ المدلول الأصلي المستقل ـ حاضراً خارج نسق الاختلافات. وغياب المدلول المستقل يوسع مجال التدليل, ولعبه المتبادل, إلى ما لانهاية”(11).
لقد يتبين لنا الآن كيف حدث أن انهارت كل السلطات, بانهيار سلطة العلم, ولم يعد شيء بقادر على تحقيق الاستقرار والتماسك, في عصر تخلى عنه الإله (وناقل الكفر ليس بكافر) بل نُفي عنه قسراً, مع بدايات الاكتشافات العلمية. فلماذا تتبقى بقايا هذا العالم المنهار, وتمسك بتلابيب اللغة؟!. لقد أصبحت لغة النص الأدبي حرة, بتحرر مفرداتها من أسر الإحالة إلى مركز خارجي, وعادت إلى أصلها الأول, الذي كانت عليه في “العشية السابقة لأصل اللغات”(12): أي لغة آدم قبل وعيه, وهو منجدل بين الطين والماء, يصرخ أصواتاً لا معنى لها: لأن المعنى سوف يأتيه بعد ذلك, عندما ينفث فيه الله من روحه, ويعلمه الأسماء. وبذا فقد تحول النص الأدبي, إلى: “نص بريء تماماً, لا حدود له: إشارة بلا شيء يشار إليه: دال بلا مدلول: كلمات بلا قصد: جمل بلا وعي… هذا هو لعب الدلالات الحقيقي؛ فهي دلالات تستعصي على كل تفسير, ولذا ستظل بلا معنى, تستفز المفسر وتثير أعصابه”(13).
ولئن كان رولان ﭙارت قد دشن تحوله, في عام1968, من البنيوية إلى التفكيك, بمقالته التي طبق عنوانها الآفاق (موت المؤلف), مؤكداً ضرورة استبعاد أي أثر أو تأثير للمؤلف, عند قراءة النص ـ على اعتبار أن سلطة المؤلف هي إحدى سلطات المركز, التي يجب ضربها ـ لقد جاء الآن دوره ليؤكد أن النص, في مرحلة التفكيك, يكرس “التراجع اللانهائي للمدلول”(14).
كيف حدث هذا؟:
لكن كيف حدث أن أصبحت النصوص لا تتكلم؟. ولماذا لم تكن في السابق هكذا؟. وهل يعني هذا أن كل تاريخ الأدب ـ ومعه تاريخ الفلسفة ـ كان, طوال القرون الماضية, يخوض في ظلماء من الفكر والإبداع؟. وهل كل تلك النصوص, التي نشأت البشرية على تذوقها, والطرب لها, وتمثلها, واحترام قيمها الأخلاقية والفكرية, كانت رديئة شفافة, لا تحقق اللذة المنشودة؟. وهل علينا, منذ الآن, الانصراف إلى إبداع نصوص لا يفهمها إلا النخبة؛ هذا إن فهموها؟. وهل أصبح متذوقو الأدب العاديون من رجال الماضي؟. وإذا كان ذلك كذلك, فهل مات الأدب فعلاً, بموت قرائه ومستهلكيه(15)؟.
وللإجابة عن كل هذه الأسئلة, فنحن ملزمون بالرجوع إلى البدايات, بغية البحث عن أسباب حدوث هذا الانفصال التاريخي, بين النصوص وقرائها.
لقد أدى الانشغال, المبالغ فيه, بوصف آلية إنتاج الدلالة في النص الأدبي, بفعل عدة عوامل تاريخية, إلى إهمال المعنى؛ على اعتبار أن جمالية النص لا يحددها محتواه. وقد نظر الشكلانيون الروس إلى الأدب باعتباره شكلاً: أي أن تقنيات الشكل هي التي تحدد أدبية الأدب. والذي يجعل من كلام ما أدباً, هو مجموعة العوامل الشكلية, التي تعطي النص جمالية من نوع خاص، وترفعه من كونه رسالة لغوية, ذات محتوى نفعي, إلى نص أدبي تشتغل فيه اللغة على ذاتها، كالمرأة التي تتأمل نفسها طويلاً أمام المرآة، فهي تتأمل الشكل الخارجي في المرآة، ولو أرادت محتوى معنوياً لبحثت عن شيء آخر غير المرآة.
وفي الغرب قال مؤسس البنيوية اللغوية, فرديناند دي سوسير: إن محتوى الكلمة لا يحدده ما تحتويه؛ بل ما يوجد خارجها. وما يوجد خارجها ـ عنده ـ هو بقية الوحدات والكلمات, داخل السياق اللغوي نفسه . وقد تبع مؤسسُ البنيوية الأدبية ليـﭭـي شتراوس أستاذَه سوسير, مؤكداً أن اللغة عبارة عن شكل، لا مادة. ومن ثم فإنه عندما طبق تلك المقولة, على الأدب, كان بذلك يقوم بتحديد الخطوات التفصيلية, لتحليل النصوص الأدبية لغوياً, على اعتبار أن النص الأدبي هو نص لغوي, قبل كل شيء(16).
وانطلاقاً من هذا التفكير الشكلاني البحت, كان لا بد للمعنى من التراجع, لتبدأ مرحلة طويلة من الانشغال, لا بتحليل النصوص وفق هذه المعادلة الشكلانية فحسب؛ بل ـ إضافة إلى ذلك ـ إلى انشغال الكتّاب بكتابة نصوص تستجيب لهذه الطرائق في التحليل؛ معتقدين أنهم بهذا يلحقون بقطار الحداثة. وصرنا نطالع قصصاً وروايات وأشعاراً لا نستطيع فك شفراتها, نحن المختصين بدراسة الأدب؛ ناهيك عن القارئ العادي, الذي هجر قراءة ما لا يمكن له أن يفهمه. ومع ذلك فقد زيّنت سيطرة هذا النوع, من المناهج الشكلانية, لفئة من الكتاب, احتقار القارئ, واتهامه بالسطحية وتخلف الذائقة. وصارت تجلده, صباح مساء, بضرورة الارتقاء بذوقه. وكلما حاول المسكين الاستجابة, صعّدوا من نبرة التعالي والغموض, حتى صاروا يؤكدون, جهاراً, بأن النصوص غير ملزمة بتحقيق معنى: وماذا في هذا القول من مستنكر, وقد سمعوا بأن المعنى ـ في النص الحداثي ـ هو آلية إنتاج الدلالة, لا الدلالة ذاتها؛ حتى قالت إحدى كبار البنيويين العرب على أن: “المعني هو الدور. وأن يكون للشيء معنى, هو أن يكون له دور… ومعني الشيء هو وظيفته. والوظيفة تعني دخول العنصر في علاقة مع عنصر آخر, أو مع عناصر أخرى, ضمن البنية الواحدة”(17).
لقد كان كل هذا التطرف رد فعل, مبالغاً فيه, على نظرة الواقعية الاشتراكية, إلى الأدب, باعتباره مجرد محتوى. ورغم أن هذا المحتوى منتوج جمالي, عليه أن يصور صراع الطبقة العاملة, مع مالكي وسائل الإنتاج, وأن يساهم في انتصار القيم الاشتراكية. وكل ما كان محتواه يتناقض مع هذا المعنى, كان يُنظر إليه على أنه أدب هابط ولا يستحق القراءة, حتى ولو امتلك الشكل الجميل. ومن هنا كان من الطبيعي أن تظهر جماعات على الطرف الآخر من الخط, تنصر الشكل, وتُطلق عليها التسمية الهجائية (الشكلانيون). وكان من الطبيعي كذلك ـ في ظل الحرب الباردة ـ أن ينصر الغرب الرأسمالي هذه المدرسة, خصوصاً وقد بدأت تظهر, في أوروبا الغربية، مدارس تقترب من وجهة النظر هذه.
لقد تراجعت الواقعية, في أوروبا الغربية, كمنهج تاريخي, في نفس الوقت الذي قامت فيه أوروبا الشرقية, بإعادة تحويرها, لتصدرها وفق طبعة شيوعية, باسم (الواقعية الاشتراكية). وبذا فقد أصبح لدينا, على جانبي الحدود الفاصلة بين المعسكرين, مدرسة تنتمي إلى منظومة المناهج التاريخية المنفتحة على الخارج: (الواقعية الاشتراكية), وأخرى بدأت تنغلق رويداً رويداً, وتغلق معها النص أمام أي علاقات خارجية: (مدرسة النقد الجديد). ولسوف يستمر هذا الاستقطاب, وإن بأشكال مختلفة, بين كلا النظرتين إلى الأدب, ويحدث تبادل, في المواقع بينهما, طوال المتبقي من القرن العشرين. وقبل أن ننتقل إلى مرحلة الحداثة, ينبغي إلقاء الضوء سريعاً, على كيفية تعامل المدرستين مع النصوص؛ وصولاً إلى الإجابة على السؤال الأساسي في هذا البحث, وهو: هل تحققت سلطة النص, من خلال هذين المنهجين, أو من خلال أحدهما؟.
قلنا إن الواقعية الاشتراكية نصرت المحتوى على الشكل. وقد يُنظر أحياناً إلى المحتوى باعتباره أحد تجليات المعنى. والحق أنه ليس كذلك على وجه الدقة, لأن المحتوى هو عبارة عن التفسير الأيديولوجي للنص, أما المعنى فشكل من أشكال القراءة التفسيرية, التي تضيء النص وتحقق جمالية المحتوى, لا نفعيته فحسب. فالمحتوى عند الواقعية الاشتراكية هو تفسير يلوي عنق النص, ويقوّله ما لم يقل, في أحيان كثيرة, وربما يعتبر ما يقوله جميلاً, لمجرد أنه يخدم الأيديولوجيا.
وفي نفس الوقت, كانت مدرسة النقد الجديد, تبدأ أولى خطواتها في قتل المؤلف. وصحيح أنها لم تطلق تلك الصيحة, بطريقة مسرحية, كما سوف يفعل رولان بارت, بعد عقود؛ ولكنها كانت قد وضعت الأساس, عندما اعتبرت النص وحدة مغلقة. فمن يومها صرنا نسمع عن ضرورة قراءة النص بمعزل عن المؤلف, والتاريخ, ومناسبة النص. فالنص ـ وفق هذه النظرة ـ يحقق أدبيته من ذاته, ولا يمكن تحليله أو قراءته إلا من داخله, فيما يمكن القول عنه, بأنه بداية تحويل عملية القراءة, إلى جملة من الطقوس الغامضة, التي لا يدرك كنهها إلا كاهن يمتلك معجزات التفسير. وفي هذا يرسم لنا روبرت شولز, صورة كاريكاتورية لمنظري النقد الجديد, وهم يقدمون لطلابهم قصائد لتفسيرها, بعد أن يزيحوا عنها العناوين, وأسماء الشعراء, ومناسبة النص.. ثم يقف الواحد منهم ليمنح البركات, وفق ما يعرف من معلومات أخفاها, ولولاها لكان حاله كحال تلاميذه(18).
لقد أمسكت البنيوية بطرف الخيط الذي مده النقد الجديد, ثم ذهبت به إلى أمكنة لم يكن بالإمكان تصورها، حين وصلت إلى تحقير البحث عن المعنى، وأصبح بإمكان كل أحد أن يكتب ما يشاء, دون قبول لحكم أحد, مدركاً أن بإمكانه أن يجادل بأنه يكتب أدباً, لا يتوقع أن يفهمه أحد؛ ثم يجادلك بأنه أديب, بدليل أن بعضاَ من أمثاله, ينشرون له ما لا يمكن أن يُباع أو أن يقرأ.
لا جدال إذن, في أن البنيوية منهج وصفي شكلاني, لا يهتم بالمعنى, بل يحتقره. فكيف يمكن أن تتحقق لنص لا معنى له سلطة؟!. إن سلطة أي نص تنبع من قدرته على الوصول, والتأثير, وإحداث معنى. و”إن أي نص لا يدل على معنى هو كالضوضاء سواء بسواء”, كما يقول أستاذ الأساتذة: عبد القاهر الجرجاني(19)؛ “فإذا رأيت البصير بجواهر الكلام, يستحسن شعراَ, أو يستجيد نثراَ, ثم يجعل الثناء عليه من حيث اللفظ, فيقول: حلوٌ رشيق, وحسنٌ أنيق, وعذبٌ سائغ, وخلوبٌ رائع؛ فاعلم أنه ليس ينبئك عن أحوال ترجع إلى أجراس الحروف, وإلى ظاهر الوضع اللغوي, بل إلى أمر يقع من المرء في فؤاده, وفضل يقتدحه العقل من زناده”(20).
أما مدارس ما بعد الحداثة فقد جاءت كلها لتتحدث عن المعنى(21), ولتتناول النص من حيث المحتوى. ولكنها أمسكت بتلابيب هذا المحتوى, لتفرغه من أية دلالة, يمكن أن يلتقي عليها اثنان. فالتفكيكية ـ كما رأينا ـ هامت بالدال بعيداً عن المدلول, ففككت آلية الدلالة تماماَ. ونظرية التلقي أطلقت للقارئ حرية اختيار المعنى الذي يراه, حتى ولو كانت علاقات اللغة لا تحتمله. أما مدارس النقد الثقافي المتعددة, فقد أخذت تقرأ النص قراءة أيديولوجية: فالنقد النسوي قرأ النص من خلال وجهة نظر الجماعات النسائية(22). والنقد ما بعد الكولونيالي تناول النص من خلال وجهة نظر الجماعات المهاجرة, من بلاد الهامش إلى بلاد المركز(23). والتاريخانية الجديدة اهتمت برصد علاقات النص بسلطة القوة وآليات الهيمنة(24)…
وهكذا بدأت حركة النقد تتوجه, مرة أخرى, صوب نفعية النص, بعد عقود طويلة من هيمنة النزعة الجمالية المتعالية؛ فيما يمكن التعبير عنه بأنه: إكمال لمحيط الدائرة, وعودة إلى نقطة الانطلاق, وإن بأشكال جديدة. ومع كل هذا فقد ظلت سلطة النص ضائعة, وظل بإمكان أيٍّ كان, أن يدعي لأيّ نص, ما يشاء من أيّ تفسير.
فما هو الحل؟:
“إن سلطة النص تكمن في معناه, أو في قدرته على إحداث دلالة”(25). وسوف أقترح, في هذا المبحث, بعضاَ من الشروط, التي من الممكن, إذا التزم بها الناقد كاستراتيجية تفسير, والمبدع كاستراتيجية إنتاج, أن تضبط حركة النص, وتساعد على اقترابه من المتلقي, ومن ثم تحققه في الواقع.
1ـ تاريخانية النص: أي اعتبار النص منتجاَ تاريخياً, أنتجه الواقع الاجتماعي, في زمن معين, وفي ظروف محددة. وهو ما يطلق عليه إدوارد سعيد مصطلح (الدنيوية)(26). فحركة الأدب مع الواقع هي حركة تناص وتفاعل, بحيث لا يكتمل نص أدبي, دون كل ما حوله من وقائع, تعتبر كلها نصية: فالنص تاريخ, والتاريخ نص, وعلامة ألسنية تضيء ما حولها, أو كما يقول بورجيه: “لو أنني أُعطيت أي صفحة كُتبت اليوم… لأقرأها كما ستُقرأ عام2000, لاحتجت عندئذ لمعرفة أدب عام2000″(27).
وبذا تتم قراءة النص الأدبي في ضوء ما كنا نسميه بمناسبة النص. وللتمثيل, يمكن لنا أن نقرأ البيتين التاليين:
فليت الغضا لم يقطع الركبُ عرضَهُ
وليت الغضا ماشى الركاب لياليا
لقد كان في أهل الغضا لو دنا الغضا
مزارٌ, ولكنّ الغضا ليـس دانيا
فكيف يمكن أن تتحقق جمالية تكرار كلمة كـ(الغضا), في بيتي مالك بن الريب, إن لم نعرف مسبقاً, بأن الغضا هو اسم بلدة الشاعر, التي خرج منها غازياً, في العصر الأموي, ولدغته حية في الطريق, فقال قصيدته ينعى نفسه, ويتحسر على فراق موطنه؟!.
وقل مثل ذلك في معلقة عمرو بن كلثوم, التي لن تتحقق جمالياتها, على أكمل وجه, دون أن نعلم قصة أمه ليلى بنت المهلهل, في التاريخ, وفي مناسبة انبثاق لحظتها الأولى, التي كان سببها محاولة ملك الحيرة, عمرو بن هند اللخمي, إلحاق الصغَار بأم الشاعر الملك, ابنة الملك, وأخت الملك, وعمها الملك.
2ـ إعادة الاعتبار إلى المؤلف: ونحن هنا لا نعني القول بمرجعية المؤلف, كمفسر وحيد للنص, ولكننا نعني أن لا يتم تحميل النص ما لا يحتمله من التفسيرات. فإعادة الاعتبار إلى المؤلف, تعني وجود رسالة ذات محتوى نفعي؛ حتى وهي تتخذ الشكل الجميل. مما يعني ضرورة تفسير النص, بطريقة لا تتعارض مع قواعد اللغة. وبذا تتعدد القصديات المحتملة للنص الجمالي, بقدر غناه الدلالي؛ لكن ليس إلى ما لا نهاية. لأن اللغة “لها طبيعة قصدية. ومن ثم فإن محاولات تفسير نص لغوي في عزلة عن المؤلف, أو القصدية, محاولات عبثية عديمة الجدوى”(28). ولنضرب مثالاً على ذلك ببيت دريد بن الصمة: وما أنا إلا من غُزيّةَ, إن غوتْ/ غويتُ, وإن ترشدْ غُزيّةُ أرشدِ. فلو نظرنا إلى هذا البيت, دون معرفة قائله, فلسوف نراه مجرد إمعة, يقود ولا يقاد, وضعيف لا سطوة لديه, وخامل الذكر لا رأي له. أما إذا أدركنا بأن القائل هو سيد قومه وفارسهم, فسوف تختلف نظرتنا إلى النص, ونراه قيمة عظمى في احترام رأي الأغلبية, والنزول عليه.
ومثال آخر من حياة المتنبي, الذي نراه يمدح سيف الدولة مديحاً مدوياً, يخلد على الدهر, رغم أنه لم يقلده الولاية التي طلب. وعندما يرحل إلى مصر, ويكرمه حاكمها كافور الإخشيدي أضعاف ما أكرمه سيف الدولة, نراه يتركه ويرحل رغبة عنه, ثم يهجوه بقصائد لا يدانيها روعة إلا مدائحه السابقة في سيف الدولة. فكيف لنا أن نفسر هذا, دون أن نعلم بأن المتنبي كان ذا نزعة عروبية, ترى في وصول الأجناس غير العربية إلى السلطة, في بلاد العرب, أمراً مثيراً للحنق؟. وبدون ما سبق, فمن منا كان سوف يعرف سر تلبية المتنبي, السريعة, لدعوة سيف الدولة له بالعودة إلى حلب, قائلاً: أتاني كتابك خير الكتبْ/ فسمعاً لأمر أمير العربْ.
3ـ الاهتمام بمراعاة القيود الجمالية, في إنتاج النص وتفسيره. والمقصود هنا عدم تقديم المضمون على الشكل, لأن ذلك يقتضي أن كل من كتب نصاً ذا محتوىُ نبيل, يمكن اعتباره أديباً، ويمكن له بالتالي أن ينساق وراء هذا الاعتقاد، متصوراً أن ليس بالإمكان أبدع مما كان, فيواصل إنتاج أدبه (النبيل مضموناً والقبيح شكلاً) دون أن يسعى إلى تطوير أدواته. فلقد رأينا عديداً من الناس يكتبون قصائد صارخة, في تمجيد النضال الفلسطيني, لكن لأن قصائدهم ظلت دون المستوى الجمالي المطلوب, لم تحقق التأثير المرجو منها. وقد تنبه شاعرنا محمود درويش, إلى (المحاباة الضارة) التي يتعامل بها النقد العربي, مع القصيدة الفلسطينية, لاعتبارات سياسية وأخلاقية, وأطلق صرخته المشهورة: ارحمونا من هذا الحب القاسي. وإنه لحب قاسٍ فعلاً هذا الذي يدفع إلى تشجيع نشر القصائد, ذات المستوى الجمالي المتواضع, ثم تقريظها حباً في فلسطين.
4ـ مراعاة المحتوى الثقافي للنص, إلى جانب الشكل الجمالي. فلا يمكن القبول بالحكم على نص بالجودة, والترويج له تفسيرياً, وهو ملغوم بمتفجرات ثقافية, تنقض كل ما تعارفنا عليه من قيم, أو كل ما ندعو إليه من مساواة، أو يطعن في الثوابت الوطنية والأخلاقية، بحجة الجمالية. ولا أعرف كيف أمكن لنا أن ننتشي لرواية تبرر العمالة للعدو, ثم نمنحها الجوائز, ونعتبرها قيمة جمالية عظمى, لا نجرؤ على نقد محتواها القبيح, مع أن تاريخ الأدب في الغرب ـ الذي أنتج لنا هذه النظريات الجمالية ـ مليء بالشواهد, على وقوف المثقفين ضد مثل هذا النوع من الأدب. وعلى سبيل المثال, هل كان يمكن للكفاح الفرنسي, في الحرب العالمية الثانية, أن يتسامح مع أدب يمجد العمالة للمحتل النازي ويبرره؟. لقد رأينا كيف اعترض عدد من جماعة مثقفي نيويورك, عام1949, على منح جائزة بولنجتون للشاعر عزرا ﭙاوند, على ديوانه (أغاني بيزا). “ومما له مغزى, أنهم لم يناقشوا المزايا الجميلة الكبيرة لشعر ﭙاوند؛ وهم يقرّون بها. وإنما رفضوا منح الجائزة لفاشي معاد للسامية, ساند جانب موسوليني وهتلر في الحرب… فقد فرضت قضية ﭙاوند على المثقفين أن يقرروا, حول وزن كل من الجماليات والسياسة في النقد”(29).
وإذا كان الجمالي يتوسل بالنشوة, للوصول والتأثير, فيجب وضع فعل النشوة هذا نفسه موضع التساؤل والفحص, باعتباره فعلاً تم تدريبنا عليه مبكراً, في فترات سابقة, وفي سياق اجتماعي خاص, ليست السلطة السياسية مبرأة من فرضه وتسويقه(30). كما أن النشوة ذاتها ليست مبرأة دائماً من العيوب.
5ـ احترام المتلقي, والحرص على ضمان التواصل معه: فالأديب يكتب النص ليقرأه المتلقي. بل إن النص لا يحقق سلطته ومعناه دون وجود متلق يحققه في الواقع. يقول موريس بيكام: “يقال إن للعلامات شيئاً يسمونه الدلالة, أو المعنى. والعلامة ـ كما يقول الفرنسيون ـ تريد أن تقول شيئاً. ورغم ذلك, فليس باستطاعتها أن تقول شيئاً, إلا في وجود شخص يستقبلها”(31). وصحيح أن بعض النصوص محتاج, من المتلقي, إلى الاستعانة بخبرات قرائية, لكن ذلك لا يعني أن يفشل المتلقون المثقفون في تفكيك شفرات النص, ثم يعتقد الكاتب بأن هذا دليل غنى. فالإبهام يشير, أول ما يشير, إلى مشكلة لدى المبدع, قبل أن يدل على وجود تخلف لدى المتلقي, خصوصاً إذا كان من القراء المدربين. ومع ذلك, فلا يمكن إطلاق حرية التلقي, في نفس الوقت الذي نطلق فيه رصاصة الموت على المؤلف؛ لأننا بهذا ننسب النص إلى غير كاتبه, ونفسره وفق علاقات تمنع تحققه.
6ـ التحرر من سطوة الأيديولوجيا: فعندما تسيطر الأيديولوجيا على التوجهات العامة للنص, فإنها تكون حتماً على حساب الشروط الجمالية. وقد رأينا أن أغلب الأدب الموجه أيديولوجياً قد سقط. وقل مثل ذلك في عملية نقد النصوص؛ بل إن النقد الأيديولوجي كثيراً ما أساء تفسير النصوص, وقيّمها تقييماً لا يتطابق مع مستواها الجمالي. صحيح أن أياً من النقد أو الإبداع, لا يمكن له أن يبرأ من الأيديولوجيا, لكننا نتوخى أن يتم التعامل بموضوعية, قدر الإمكان, فيما يخص علاقة الأيديولوجيا بالنصوص الأدبية.
وأخيراً:
إننا لمدركون أن ميزان الأدب هو غير ميزان العلوم التجريبية المادية, لأن التعامل مع الأدب يعني التعامل مع ما هو سر, والموهبة الطبيعية. لكن كل ذلك يمكن اعتباره الشرط الأولي لابتداء الكتابة الأدبية. “إنني أرغب في نوع من النقد, يتخذ من الصراع حول القيمة الفنية, أو ما اعتدنا على تسميته بالذوق الفني, منطلقه الأساسي, ثم يشرع في دراسة العوامل التي تتدخل في تكوين ما نسميه بالقيمة الجمالية, وبحثها. وأعتقد أن حل مشكلة الحكم الجمالي يكمن في منطقة ما, تلتقي فيها علوم اللغويات والتحليل النفسي ودراسة الأيديولوجيا. فلننطلق في بحثنا من هذه النقطة”(32).
إن معاني النص الواحد لا يمكن لها أن تكون لانهائية أبداً؛ لأن المتلقي سوف يبقى محكوماً بما يقوله النص ـ سواء كان ذلك بصورة مباشرة أو غير مباشرة ـ وهذا هو ما نطلق عليه تعبير: (نسبية التلقي). فما يحكم الدلالة الواحدة, أو تعددها, هو قدرة النص على تحمل هذه الدلالة, من عدمها, لا حرية المتلقي اللانهائية. وإن من مهمات الدرس النقدي الملحة, تقرير ما إن كانت دلالة ما تتخذ النص مرجعاً لها, أو غير ذلك. لأن ليّ أعناق النصوص, وتقويلها ما لم تقله, هو قتل للنص, أو استيلاء عليه بصورة غير أخلاقية.
ــــــــــــــــــ
الإحالات:
1ـ انظر: إدوارد سعيد. العالم والنص والناقد. ترجمة عبد الكريم محفوض. دمشق. اتحاد الكتاب العرب. 2000. ص45
2ـ انظر: عطيات أبو السعود. نيتشه وما بعد الحداثة. فصول (القاهرة). ع63. 2004. ص53 ــ 55
3ـ انظر: جابر عصفور (مترجم). إديث كريزويل. عصرالبنيوية. ط1. الكويت. دار سعاد الصباح. 1993. ص309
4ـ نقلته عنه: عطيات أبو السعود. المصدر السابق. ص52 ــ 53
5ـ انظر: إديث كريزويل. المصدر السابق. ص310
6ـ انظر: عبد العزيز حمودة. المرايا المحدبة. الكويت. عالم المعرفة. 2003. ص303
7ـ هذا الكلام مجرد سفسطة كلامية. فعندما نقول إن (أبيض) هي دالة غياب (الأسود): باعتبار الأبيض ما هو غير أسود؛ فإن ذلك لا يعني تحقق غياب (الأبيض) بقدر ما يعني تحقق حضور (الأسود). فقد عدنا إذن إلى تحقق الحضور مرة أخرى.
8ـ الاعتقاد بوجود مركز خارج اللغة, يكفل ويثبت صحة المعنى, دون أن يكون هو قابلاً للطعن فيه. انظر محمد عناني. المصطلحات الأدبية الحديثة. القاهرة. الشركة المصرية العالمية للنشر ـ لونجمان. 1996. ص51
9ـ نقلته عنه عطيات أبو السعود. المصدر السابق. ص54
10ـ انظر: عبد العزيز حمودة. المرايا المحدبة. المصدر السابق. ص339
11ـ انظر: د. عبد العزيز حمودة. الخروج من التيه. الكويت. عالم المعرفة. 2000. ص198
12ـ جاك دريدا. انظر: عبد الوهاب المسيري. موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية. ط1. م5. القاهرة. دار الشروق. 1999. ص473
13ـ جاك دريدا. انظر: عبد الوهاب المسيري. نفس المصدر. ص433
14ـ رولان ﭙارت. درس السيميولوجيا. ترجمة عبد السلام بنعبد العالي. ط2. الدار البيضاء. دار توبقال للنشر. 1986. ص62
15ـ الإشارة إلى اسم كتاب: ألـﭭين كرنان: موت الأدب. ترجمة بدر الدين حب الله الديب. القاهرة. المجلس الأعلى للثقافة. المشروع القومي للترجمة. 2000
16ـ انظر. عبد العزيز حمودة. المرايا المحدبة. المصدر السابق. ص201
17ـ يمنى العيد. تقنيات السرد الروائي في ضوء المنهج البنيوي. ط2. بيروت. دار الفارابي. 1999. ص25
18ـ انظر: عبد الله الغذامي. الخطيئة والتكفير. ط4. القاهرة. الهيئة المصرية العامة للكتاب. 1998. ص62 ــ 63
19ـ انظر: عبد العزيز حمودة. الخروج من التيه. المصدر السابق. ص72
20ـ عبد القاهر الجرجاني. أسرار البلاغة. تحقيق محمد الفاضلي. ط1. بيروت. المكتبة العصرية. 1998. ص19
21ـ انظر: د. نبيلة إبراهيم. النقد الثقافي في إطار النقد النسوي. كتاب لعدة مؤلفين بعنوان: النقد الثقافي والنقد النسوي. ط1، دار غريب للطباعة والنشر. القاهرة. 2003. ص261
22ـ انظر: محمد طرشونة. الإسقاط في النقد النسوي. من كتاب: النقد الثقافي والنقد النسوي. المصدر السابق. ص299 ــ 300
23ـ انظر: ثائر ديب (مترجم). هومي. ك. بابا. موقع الثقافة. ط1. القاهرة. المجلس الأعلى للثقافة. المشروع القومي للترجمة. 2004. ص16
24ـ انظر: صبحي حديدي في استعراضه لكتاب جون براينغان. التاريخانية الجديدة والمادية الثقافية. الكرمل (رام الله). عدد59. سنة1999. ص258
25ـ عبد العزيز حمودة. الخروج من التيه. المصدر السابق. ص305
26ـ انظر: إدوارد سعيد. العالم والنص والناقد. المصدر السابق. ص5
27ـ انظر: عبد الله الغذامي. الخطيئة والتكفير. المصدر السابق. ص63
28ـ عبد العزيز حمودة. الخروج من التيه. المصدر السابق. ص318
29ـ ڤنسنت. ب. ليتش. النقد الأدبي الأمريكي من الثلاثينيات إلى الثمانينيات. ترجمة محمد يحيى. القاهرة. المجلس الأعلى للثقافة. المشروع القومي للترجمة. 2000. ص107
30ـ انظر: عبد الله الغذّامي. النقد الثقافي. ط1. بيروت والدار البيضاء. المركز الثقافي العربي. 2000. ص24