عاشق رام الله و راوي حكايتها (1)
بقلم وعدسة: زياد جيوسي
“رام الله.. أيا مدينة تركت.. في داخلي جنوناً.. ونجوماً وقمراً.. حروف قصيدة وشعر.. حزن فرح وقدر..”، هذا بعض من بوح روح المناضلة دارين طاطور ابنة الرينة، بعد أن زارت رام الله قادمة من العمق الفلسطيني المغتصب عام 1948م قبل سنوات طويلة؛ وتجولت برفقتي كل دروب رام الله والجمال، أنقل اليها ما تهمسه لروحي كل ابنية رام الله التراثية وذاكرة الأجداد والتاريخ، فحجارة رام الله ودروبها وأزقتها وشوارعها وأبنيتها التراثية وأرواح الأجداد، لا تبخل بالبوح بأسرارها لعاشق رام الله وراوي حكايتها.
رام الله مدينتي التي رعت طفولتي هي كانت ولم تزل مدينة العشق والجمال، فرام الله أشبه بحورية جميلة تسدل شعرها الأسود على رأسي كل مساء فأتأمل وجهها القمري، وأضم خاصرتها وأراقصها تحت ضوء القمر، رام الله عبر الزمن رئة أحملها في صدري، أحملها معي في حقائب سفر القلب وفي حلي وترحالي، فأتاحت لي اكتشاف منابع الجمال في الروح والمكان، فمنها ولها كنت أهتف: “آه يا رام الله.. إني أراك في خيالي وأحلامي الحبلى بك.. التقيك كموال شجي، وشجن دمعة تمازجت بفرح الرؤى. ورغم هذا افتقدك إلى حد الجنون، فاكتبي إليَّ بلغتي لنتمازج بحروف اللغة كقطرتي ندى، على ورقة ورد جوري في صباح ندي مبكر، دعينا نلتقي بأشواق مطلقة تنزعنا ولو للحظات، من عالم الوحدة الموحش البارد الذي يلف كلينا”، فلربما تنفست من خلالهما أكثر من غيري فكتبت عشرات النصوص التي تروي بعض من الذاكرة وحكاية العشق، موثقا اياها بآلاف الصور بعدسات مختلفة رافقتني التجوال، فتعالوا لنجول رام الله معا، أحدثكم عنها تاريخاً وحاضراً.. لنبدأ الحكاية..
أقف أمام خربة غملا “خربة رام الله” المسيجة بالشبك المعدني لمنع الدخول والعبث فيها، ألتقط الصور من زوايا مختلفة واتساءل: لما يحاول البعض أن يربطوا تاريخ رام الله بالقرن 15 م وكأنه لا تاريخ لها من قبل؟، فرام الله فعليا تعود في بدايات ولادتها حين خرجت من رحم الوطن وصرخت صرختها الاولى بفترة الأجداد الكنعانيين، فالمنطقة بأكملها كانت قرى وممالك كنعانية مثل بيت ايل وبيت أونيا وكَفر عانا من أراضي سلواد وغيرها، فكل القرى والخرائب التي تبدأ بكلمة “كَفر” وتعني بالكنعانية والآرمية القرية الصغيرة تعود للكنعانيين، وكل التي تبدأ بكلمة “بيت” تعني مكان العبادة، والتي تبدأ بكلمة “دير” تعني مكان السكن، هي بلدات ذات جذور كنعانية، ورام الله بالكنعانية والآرامية كان اسمها “رام” وتعني المكان المرتفع، واسم الجلالة الله أضيف لها بعد الفتح الاسلامي ومرحلة جديدة لتاريخ المنطقة، كون من اسموها ذلك عادوا بكلمة “رام” الى الجذر العربي أي “قصد أو أراد” فأصبحت ارادة الله أو قصد الله، وقد أعطي هذا الاسم لها متأخرا، وكأن من أسموها كانوا يمتلكون الاستشراف للمستقبل، ويرون فيها تحقق إرادة الله بأن يجعل من الوردة البرية اليانعة سنديانة شامخة، فرام الله كانت خربة صغيرة ضمن أراضي قرية البيرة، لكن حجارتها كانت تهمس للريح الغربية: هيا تعالي وأزيلي الغبار عن جسدي، فأنا الآن استعد لأن أكون حورية المستقبل.
خربة “غملا” أو خربة رام الله كما اعتاد الناس تسميتها في منطقة الطيرة التي نشأت وتطورت وأصبحت من أجمل أحياء رام الله الجديدة نشأت وكبرت في عهد السلطة الفلسطينية، أما الخربة فكانت حدود المدينة حيث معهد المعلمين الذي يقع بجوارها وكان أبعد مدى في طفولتي في رام الله، والتي جرى التنقيب فيها بعد طول انتظار وبشكل متقطع منذ عام 2013م، كانت تخفي أسرار رام الله تحت تراكم أتربة العصور والأعوام، فوجد فيها آثار لكنيستين وآبار ماء وبيوت ومعصرة زيت، وبنت الكنيسة الغربية فيها القديسة ديانا، وقد عثر في الخربة على رفات لثلاثة قديسين، تم تسليم الرفات إلى كنيسة الروم الارثوذكس في رام الله “دير التجلي” التي قامت بعمل قداس ديني ورسمي لهم، وتم وضع هذا الرفات في تابوت داخل الكنيسة، ووجد حجر في الكنيسة عليه نقش يشير أن سيدنا المسيح مر من الخربة، وتقديرا لمرور المسيح عليه السلام في المنطقة بنت القديسة ديانا الكنيسة، وهذا يدعم اقوال المؤرخين أن المسيح قد ضل طريقه لمدة يومين او ثلاثة ووصل الى مدينة البيرة ومن ثم الى رام الله، فقام اهالي الخربة باعادته الى امه مريم عليها السلام وكان عمره 13 عاماً، وهذا يؤكد أن الخربة كانت مسكونة منذ قبل الميلاد في فترة الممالك الكنعانية، وإضافة لرفات القديسين الثلاثة تم إكتشاف قبر أول شهيد مسيحي في فلسطين، وهو القديس ستيفاينوس الذي قتله اليهود في مدينة القدس رميا بالحجارة في الفترة البيزنطية.
من الخربة أتجه الى موقع في الطيرة كان فيه برج يعود لفترة الاحتلال الصليبي ولكنه قد زال بسبب الاهمال وعدم الترميم، ففقدت رام الله بعض من ذاكرتها كما عشرات المباني التي تروي الحكاية والتي هدمت بسبب أطماع البشر، ففي فترة الاحتلال الصليبي لم تنج رام الله كما كل الوطن من الاحتلال الصليبي الذي حولها إلى مستعمرة زراعية صغيرة، وقد دعاها الصليبيون Ramalie ، لكنها كما باقي الوطن كانت تحلم بالحرية، وتستمع لهمسات عاشقها آتية من مستقبل وقعت فيه تحت احتلال آخر أبشع وأقسى، احتلال صهيوني دمر فيها الجمال وحاول شطب الذاكرة، فاستمعت لهمسات العاشق: “رام الله يا مدينتي الأجمل.. دعينا نقاوم النار المشتعلة التي تأكل كل شيء، ونتحدى يدي بيدكِ كل ما يواجهنا، لننتزع الحياة من فم الوحدة المفزعة والغربة المتعبة.. دعينا نقرع سويا خزان الذاكرة وصوت الريح لنخض الواقع، لنزرع بزبدته ياسمينة أمل المستقبل، هاتي يدكِ بيدي لنركض تحت رذاذ المطر، في هذا الليل لنمارس دفء الحياة وألق الفرح.. حقيقة مطلقة..”.
يبدو أن رام الله خلال فترة الفتح العربي الإسلامي لم تكن أكثر من خربة صغيرة، إلا أنها بروحها الوثابة وياسميناتها وزيتونها أخذت تنمو شيئاً فشيئاً بعد ذلك كما تنمو الزنابق، فرام الله الحديثة تأسست على يد مهاجر قدم من شرق الأردن في القرن 16من مدينة الكرك ويقال من مدينة الشوبك ويدعى راشد الحدادين، قرر الرحيل عن موطنه بسبب تعقيدات عادات العشائر هناك. وتروي الحكاية قصة نشوء رام الله إنه كان بين عشائر الكرك قبيلة عربية مسيحية تدعي الحدادين، وأن عميدها راشد الحدادين وقع بينه وبين شيخ قبيلة بني عمر المسيطرة على بلاد الكرك خلاف بسبب رفضه تزويج ابنته لإبن شيخ القبيلة المسلم، فاضطر الحدادين للرحيل متخفياً تحت جنح الظلام، ونزل ومن معه في ضواحي البيرة، وقد راقت لهم خربة رام الله لما فيها من أحراش وحطب ضروري لمهنة الحدادة التي كانوا يمارسونها، ولطبيعة الجو المنعش فيها وجمالها وغزارة عيون الماء فيها، فابتاعوها من أصحابها الغزاونة أهل البيرة الأصليين، وهكذا قدر لعشيرة الحدادين أن تعمر هذه الخربة التي ينتسب إليها معظم سكان رام الله الحاليين.
ويحكى أن راشد الحدادين حين اشترى خربة رام الله كان يحلم بالاستقرار والراحة والأمان، ومن المؤكد أنه كان يرقب الغروب وتداعبه النسمات الغربية الآتية من بحر يافا ويهمس بما همسته روحي بعد أربعة قرون: “رام الله يا من أعدتِ لشريان حياتي معنى التوهج والفرح، يا من أشعرتني أني مطوق بكِ، أنتِ عندي عصية على النسيان. تتملكين كياني وأنفاسي وتحتسين معي قهوة الصباح، أضع رأسي المثقل بهموم الوحدة والوطن على كتفكِ كل مساء، أتنشق من رائحتكِ العطرة وطن فارقته إلى وطن أعيش فيه، أعشقكَ يا وطن تجسد كأجمل إمرأة، أعشقك كما لم أعرف العشق من قبل، أنا البحار الذي ما زال يبحث عن مرفأ”..
أنتِ يا قطرات الندى والمطر التي تغسلني كل يوم من غبار سفري الدائم، وتُخضِر صحراء حياتي، فيضي عليَّ من حب قلبكِ ونسيم أنفاسك، لأنقش من شفق المغيب حناء لقدميك الرائعين، دعيني أتوسد أفق عينيكِ التي غزتني قبل أن أولد، وأصعد بها لألملم نثرات الغيوم في سحابة واحدة تحت نجوم ليلة ربيعية، لأنثرها أمطارا تروي ليل العطاشى والظمأى”.
لكنه بالتأكيد لم يكن يعلم انه كان يؤسس لمدينة ستكون من أشهر وأهم المدن، بدءا من جمالها وتحولها لمصيف فلسطين، وليكون بها أجمل مهرجان تأسس حسب ما أذكر في اوائل ستينات القرن الماضي وكان يتم في متنزه بلدية رام الله، ولتصبح رام الله العاصمة الإدارية للسلطة الفلسطينية في ظل الاحتلال، وستكون رام الله التي انشأها مركزاً للثقافة وتأسست بها مراكز الثقافة والمسارح والسينما ومعارض الفنون، وأن اسمه سيكون مرتبطاً بالمدينة الحلم، فأقف بجوار البلدية في ميدان راشد الحدادين فقد أسمت البلدية مشكورة ميدان مهم بجوار البلدية بإسمه مع نصب منحوت يضم راشد الحدادين وزوجته وابناءه، وفيه كل عام اضافة لميدان ياسر عرفات “المغتربين سابقا” تضاء أشجار عيد الميلاد، وفيه يتم احياء مهرجان رام الله ومن هناك أتجه لدوار المنارة بحلته الجديدة بعد اعادة بناءه في عهد السلطة الفلسطينية، فحين تم انشاء دوار المنارة القديم وهو الحد الفاصل بين مدينتي رام الله وتوأمها السيامي مدينة البيرة، بني على شكل دوار ونحتت الأسود عليه وجسدت تماثيل الأسود الخمسة الواقعة وسط مدينة رام الله تاريخ المدينة، حيث رمزت لأبناء راشد الحدادين الذين شكلوا عائلات رام الله، وبنيت على شكل عمود منحوت في الوسط تحيطه خمسة أسود كانت تخرج المياه من أفواهها على شكل نوافير، محاطة بالزهور المزروعة وكانت البديل الذي اقترح عام 1951م في ظل الحكم الأردني للعامود الذي كان يحمل لوحة الكهرباء التي تتحكم بإنارة المدينة والذي كان يحمل اسم المنارة، هذا الاسم الذي بقي لهذا النصب رغم اطلاق لقب دوار الأسود عليه من البعض، وكم كانت متعتنا بالطفولة حين نجلس على حواف المنارة مستمتعين برذاذ الماء، وما زلت أذكر حين سقطت المدينة بيد الاحتلال عام 1967م وكنت أرى الجنود يلتقطون الصور التذكارية عند المنارة، كنت اخرج رغم حظر التجوال حيث كان الجنود يكتفون بطردي بالصوت كوني كنت طفلا فلم أعتقل كما غيري بتهمة حظر التجوال، حقد الاحتلال على رام الله تجلى بهدم دوار المنارة عام 1982م بقرار من القائد الإسرائيلي موشيه بيتون، وتمت سرقة التماثيل وحسب حدود معلوماتي لم يتبقَّ منها إلا واحد في مخازن البلدية، وفي الحلقة القادمة سيكون الحديث عن الدوار الجديد وأكمل جولتي في رام الله وبعض من أجمل ما ترويه ذاكرة التراث فيها.