وراء الإعلان عن محاربة الجريمة تقف النوايا لارتكاب جريمة
أمير مخول | فلسطين
“وحدة المستعربين التي يريدون إلهاءنا بها، لن تكون سوى وحدة قمع لجماهير شعبنا ولن تنال من الجريمة. لن يدخلوا بلداتنا وتجمعاتنا كي يطفئوا نار الجريمة بل سعيا منهم لإطفاء جذوة الشعب”
اعلان الشرطة الاسرائيلية والجهات الحاكمة عن تشكيل قوة مستعربين تعمل في البلدات والتجمعات العربية لمحاربة الجريمة ، هو أمر لافت لا في مضمونه وإنما بمجرد الاعلان عنه. الوحدات الخاصة في اسرائيل هي وحدات سرية لا يتم الاعلان عنها، وهناك وحدات خاصة عسكرية لا يُعرف عنها شيء ولا ماهيّة دورها والمهام المنوطة بها، وتمنع الرقابة أيّ نشرٍ عنها.
ثم أن الاعلان عن إستحداث وحدة “سيناء” بالتعاون ما بين الشرطة والشاباك وقوات حرس الحدود، فيه مؤشرات الى انه جاء من أجل الاستهلاك وبيع الوهم للمجتمع الفلسطيني في الداخل، وامتصاص الاحتقان والغضب، والدفع نحو تعاون الناس مع الجهاز الامني الاسرائيلي وتطبيع حضوره العلني في قرانا ومدننا. وهي للمدى الطويل مسألة تطويع هوية جماهير شعبنا بما يتناسب مع مهام الأمن القومي الاسرائيلي، وفي المقابل وعلى الارض تؤكد أهدافها أنها جزء من بنية متكاملة لقمع جماهير شعبنا وحركتها الشعبية واحتجاجاتها. بل هي جزء من منظومة عدوانية مستحدثة لمحاربة الشعب الفلسطيني بالتزامن وفي اكثر من جبهة، وباتت العقيدة العسكرية تجاهر بأن الجماهير العربية الفلسطينية في الداخل هم جبهة عند العدوان على جماهير شعبنا في الضفة والقطاع والقدس.
ثم انه لا حاجة الى دهاء خاص لمعرفة أن عصابات الجريمة المنظمة قادرة على التعرف الى المستعربين من سلوكهم وهي العصابات التي تشكك في كل شيء وفي كلّ أحد، كما أن الناس عموما وخاصة في القرى العربية وبالذات الصغيرة عدديا، قادرة على الالتفات الى هؤلاء المستعربين بناء على سلوكهم. فللشعب “مجساته” بناء على الحدس وحكمة أصحاب المكان.
لو أرادوا فعلا محاربة الجريمة من خلال هذه الوحدة، لما أعلنوا عنها، فالاعلان عنها يفقدها جزءا من القدرة العملياتية في هكذا سياق. ولو أرادوا فعلا الحد من الجريمة لقاموا بحملة لالقاء القبض على السلاح الذي بات مكشوفا من شدة التغاضي عنه إذا ما كان مصوّبًا نحو العرب، ويكتشفونه على الفور في حال كان موجهاً للمجتمع الاسرائيلي وللمرافق الاسرائيلية.
ما دفع لأقامة هذه الوحدة الخاصة هو مخطط دولة جرى الاعلان عنه، وهو نتاج ما أطلقوا عليه أخفاق الشرطة أمام هبة الكرامة وعدم توقعها لسعة المواجهات في ايار الاخير. وهو نتاج قناعة بأن الشرطة وحدها غير مؤهلة للسيطرة (للقمع) على “أعمال الشغب” اي المظاهرات العربية. وهو مسعى لتشتيت بنية الشعب الفلسطيني وقوته بعد ان توحد وتكامل دوره في هبة الكرامة في أيّار الاخير.
أشار بيان الشرطة في هذا الصدد وكذلك تصريحات قائدها العام بأن الهدف من وراء هذه الوحدة، والتي أثبتت مثيلاتها “قدرات عالية في محاربة الارهاب” في الضفة الغربية والقدس، هو القيام بأنشطة سرية “ضد العصابات الإجرامية في جميع أنحاء البلاد، والتعامل مع أعمال الشغب بقدرات متقدمة ومكافحة الإرهاب”، كما وأن الغاية الرئيسية من وراء دور هذه الوحدة هو “مكافحة الجرائم الخطيرة وأعمال الشغب التي تندلع على خلفية قومية والإرهاب”.
هناك فجوة جوهرية بين نظرتنا كجماهير شعب الى الأمور، وبين نظرة الدولة. وقد تجلى عمق هذه الفجوة في العامين الاخيرين وحدهما في ثلاث مسائل جدية، وهي طواريء الكورونا وانفلات الجريمة المنظمة وسلاحها، والثالثة هي هبّة الكرامة. فخلال الكورونا تسللت العسكرية الاسرائيلية الى ساحاتنا وأحيائنا، من خلال قوات الجبهة الداخلية وذلك تحت مسمّى الحد من الجائحة وضبط حركة الناس. وزاد تدخل الشرطة وجهاز الامن العام الشاباك، واستخدام منظومات المراقبة والتعقب، ةعمليا السيطرة على حركة الناس. فحين تقوم هذا المنظومة بدورها في المجتمع اليهودي يكون ذلك من منطلق تسخير الجيش في القضايا المدنية والمساعدات الطبية والانسانية، بينما بين الجماهير العربية الفلسطينية فإن المنطلق يكون عدائيا والمنظار أمنيّا تجاه هذه الجماهير، في حين أهدافه السياسية تكون شرعنة العلاقة مع هذه المنظومة التي تسعى الى ضبط سلوكنا والهيمنة علينا خارج حدود مكافحة الكورونا. على سبيل المثال تشجيع الشبيبة العربية للتطوع في هذه القوات، كمقدمة للتجند.
في قضية الجريمة سعت الدولة بكل مؤسساتها ومنظوماتها الحاكمة والسياسية والاعلامية الى بثّ الخطاب وكأن الجريمة هي نتاج عضوي لمجتمعنا وثقافتنا وحضارتنا (وزير الامن الداخلي الاسبق أردان والعديد من السياسيين ووسائل الاعلام الاسرائيلية)، كما كشفت قيادة الشرطة بأن الشاباك عمليا يمنح الحصانة لرؤساء عالم الاجرام المتعاونين معه ويحول دون تعاطي الشرطة معهم. وتدرك الدولة ان الجريمة المسلحة والمنظمة التي دفعوها بسياسات الحكومة من البلدات اليهودية نحو تجمعاتنا وبلداتنا العربية، لا بد أن تعود لتضرب بالمجتمع اليهودي، وهذا خط أخمر بالنسبة للدولة وليس مجرد الجريمة المنظمة. فإن كانت منظومة الجريمة ملتزمة بعدم الاقتراب من المجتمع اليهودي والمرافق العامة الاسرائيلية، فإن هذا الالتزام الذي يحظى برضى المؤسسة الحاكمة هو حالة من الصعب ضبطها للمدى الطويل، ولذلك بدأنا نسمع أصوات في الشرطة والشاباك التي لا تحذر من استمرار واتساع نطاق الجريمة بين العرب بحدّ ذاته، بل باحتمالية ارتدادها الى الشارع اليهودي الاسرائيلي. كل هذا مقابل تعامل جماهير شعبنا مع الجريمة كمسألة مدنيّة حياتية مصيرية تهدد مجمل بنية المجتمع وحياته ومقوماته.
في مسألة المظاهرات الاحتجاجية والتي هي في جوهرها سياسية شعبية، وحق أساسي في التعبير عن الرأي والموقف من العدوان الاسرائيلي على شعبنا، فقد تعاملت معها الدولة كمسألة أمن قومي حيوية، وبدلا من الانشغال بعد خُفوت الهبّة في اطلاق سراح معتقلي الهبّة، فقد وضعت الدولة الخطة المستقبلية في تشديد القمع وإحباط رد الفعل الشعبي من مظاهرات واحتجاجات على العدوان الذي لم يتوقف يوما منذ العام 1948، وقد يتغيّر منسوبه لكن ليس جوهره. كما أن أقامة ما يطلقون عليه وحدة النخبة المستعربين بينما، هي في الواقع كتيبة قمع عسكرية شرطوية شاباكية، لن يكون من المستبعد أن ترتكب جرائم دموية ضد حركة جماهير شعبنا ونضالاتها الشعبية.
رغم كل ما ذُكر آنفاً، فإن المعركة ليست محسومة بعد لصالح مخططات السلطة، بل هناك مؤشر اخر وهو ان الشرطة والاجهزة الحاكمة باتت محرجة أمام التمادي الفاضح لمنظومة الجريمة، وأمام الضغط السياسي والشعبي حتى ولو لم يكن بالمستوى المتوخّى، وهي تفتش عن مخارج لها وليس لمجتمعنا العربي الفلسطيني. بينما يؤكد هذا، انّ الضغط الشعبي سيكون له مردود أذا تواصل وتعزز، وذلك ليس اعتمادا على نوايا الشرطة او الدولة وإنما لفرض واقع لا تستطيع التهرب من الانصياع لارادة الجمهور الضحية، ولا من حالة الغليان القائمة والمهددة بالانفجار.
ليست جماهير شعبنا بحاجة الى إشراكها في “تخبطات” الشرطة، ولا في طبيعة الوحدات الخاصة ونوعيتها، وليست مطالبة بأن تكون شريكة للشرطة واجهزة الامن في كيفية مكافحة الجريمة. فالدولة تعرف المطلوب منها وكيفية القيام به، إن أرادت. وكي تريد ذلك فالطريق الوحيد هو تصعيد الضغط الشعبي الجماهيري السياسي المنظم لإلزامها بالقيام بدورها.
أما وحدة المستعربين التي يريدون إلهاءنا بها، لن تكون سوى وحدة قمع لجماهير شعبنا ولن تنال من الجريمة. لن يدخلوا بلداتنا وتجمعاتنا كي يطفئوا نار الجريمة بل سعيا منهم لإطفاء جذوة الشعب. لكن القرار بيد هذا الجمهور الذي لن يتيح لهم ذلك.