من مسقط رأس الهجرات الثقافية نطوف بالنجم البريري.. الشاعر العماني سيف الرحبي
بقلم: الناقدة والشاعرة د . هدلا القصار
نذهب من خارطة طوبوغرافيا الحياة،لنحتفي بالأديب والشاعر العُماني المقيم في استراليا، “سيف الرحبي” أدبياً رؤيوياً وإنسانيا…، من خلال تجربته الإبداعية المغمسة في الكون الملتصق في سيرته وامتزاجه بمن حولـه.
غالبا ما نستطيع التعرف على تجربة الشاعر الحميمة من داخل لحظات الحياة..، لكن الشاعر سيف الرحبي، استطاع أن يرسم لنا جهازه التنفسي لنراقب مركبات إنائه، دون أن يهمل تحليله للصراعات الكامنة وراء كوارث البشرية… ولنستخلص بنبته المتجانسة بالعناصر الجغرافية للإنسان.. ما حقق آفاقاً واسعة لمعرفة الشاعر، وعمق صوره الفنية المزودة بمفاتيح سيكولوجية، أعمال تقوم على منهجه وخصائصه، وتصويره للشخصيات من الخارج والداخل، وكل من مر في حياته الخاصة والعامة، وفي عيشه، وترحاله، وأصدقائه، ووضعه الاجتماعي، وعاداته، والعالم اجمع ، وكل من اقترب منه في الزمان والمكان، الموثق في نشاطه الثقافي الأدبي، وسيرته المتكئة على السياق النفسي، وما يتصل بوراثة وظائف العالم “البيولوجية والفيزيولوجية” التي أظهرت ملامح الأديب والشاعر سيف الرحبي، مع سيرة الغرب الذاتية والاجتماعية، والفنية في مختلف حقوله المعرفية “الشعرية والأدبية والفكرية والسياسية، والاجتماعية…. فضلاً عن سيرته الخالصة، لتظل قصائده تنبض بالدفء والمشاركة الوجدانية الصادقة، من أجل أن يبقى كشجرة الحياة خضراء ندية، تنبض من قلمه الذي جعل من تجربته الأدبية عامة لغة خالدة .
نحاول فتح المجال للقارئ مشاركة فهم نصوص الأديب والشاعر سيف الرحبي … وإعطائه أبعادا أخرى وفق رؤيته وتجربته الواسعة، لربما هذا التصور يسعفنا همم الكشف عن شخصيته في رؤيتنا لتجربته الأدبية الإنسانية في آن . أو ربما نتمكن الوصول إلى شحنات تصوره للنزعة المتحررة من التقاليد التي تعطي للمنطق والعقل دوره في توجيه نظرياته وبراءة الأشياء، وملامسة ما يمنح تشكيلاته الهرمونية المتفوقة، كما في مخيلته النابضة بالقضايا الإنسان البارزة في جميع أعماله، ونبرة صوته الممزوجين بخيوط الصور المحركة هرمون نصوصه، وأدواته الأولى لمؤسسة الأدب والثقافة، تجاه المواقف الأيديولوجية التي برزت في أعماله الإبداعية، ومضمون الواقع الذي حوله عناصره إلى طاقة حيوية، متسمة بصناعة المعرفة في علم الثقافة واكتشاف الأفق الجديد، ومن أجل أن يساعد العالم على فهم المعنى الحضاري للمجتمعات .
يسير الشاعر سيف الرحبي، على وتيرة محمود العقاد، في رسم صور نفسيته نحوى ظروف العصر والبيئة، والسياسة، والثقافة، وكل ما يتصل بعوامل الموروثات الفطرية، بوصفها أدوات معرفية .. أدخلت تجربة الشاعر الرحبي في إطار ما يسمى بالفلسفة الأدبية والفهم ” السيكوبيو غرافي” وبما أن لا يمكن للعمل الأدبي وحده أن يفي بهذه المطالب والمواصفات إلا إذا استعان الشاعر بثقافة بعض الدول أثناء ترحاله ومكوسه واجتهاده الذي اعتمد على تأويل ما يمنحه مثل هذا الإبداع الثقافي الفني “السيموفوني” الذي يعمل على مختلف الحقول المعرفية … فضلاً عن سيرته الذاتية وربطها بمزاج وقلم الشاعر وسلوكه وحياته… هذا ما رايناه في تجربته الادبية الثقافية الإبداعية من تنوع على مدار السنين على خلاف اليوم لدي بعض الشعراء ونحن نتكلم عن تنوع حبر القلم الإبداعي الشعري تحديدا، بما أن الشعر ليس تخصصا ولن يكون طالما تأتي ولاداته من رحم الحياة بكل ما تحمل …
إذا لنستخلص من تجربته وصوره الشعرية “السيسيوثقافية ” هذا المنحنى الذي سبق ومس العديد من الشعراء باختلاف حالاتهم وظواهرهم المصحوبة باضطراب منهجهم البيوغرافي الخاص، على غرار تجربة سيف الرحبي، الذي يشبه (نبتة الكأس القلقة، المتميزة بأوراق منفصلة عن بعضها البعض، لكنها مشتركة في إنائها، لأنها تحمل أزهاراً ذات قاعدة قدحية متمركزة في رحم أغصانها) لهذا فجميع كتابات شاعرنا الرحبي، تحمل دلالة سيكولوجيةً أعمق من الأخرى .
من هنا تحسسنا حواس الشاعر الذي يخاطب الواحد في الجموع ،ما يمنحه خصوصية، وفرادة متماشية مع براهين اكتشاف مخيلته الروحانية، وحساسية ذائقته، ومدى معرفته، وقدرته على التعمق بالذات…، مستذكرين الأديب والشاعر الفرنسي جان دو لا فونتين، الذي اشتهر بتراكيب اللغة، ومعايشته ثورة الثقافة الفكرية والسياسية، المبنية على “القصد الفني” وطريقة تحويل الذات إلى تغيرات نشاهدها داخل الشاعر المهجري، في آليته المغامرة وبوجدانية ثوراته وتأملاته الفكرية المخصبة من ثمار أدب العالمين، برؤى تعيد النظر لمسألة الوجود الذي يوقظ الذات المرتبطة بظاهرة ثقافية مغايرة ، حتى إذ أمعنا في تجليات الشاعر الرحبي، في الأزرق الكوني المنشغل بكينونته، نسمع موسيقى همس المشاعر المرهف اتجاه العالم في الكلم والقلم بالتعبير ليقظة العالم من غفوته ….
( على خلاف بعض شعراء اليوم الذين يتسابقون الكتابة عن المرأة التي وحدت نصوصهم بجسد أوحد )
لربما كان الأديب والشاعر سيف الرحبي، من إحدى تلاميذ الشاعر الايطالي “كاردوتشي” الذي ميزت تجربته بالعواطف الصادقة، والإحساس العميق، مما أضاف لمضمون تجربة سيف الرحبي العماني، العريق ياقوتاً من الحروف الرحبية، الممتدة من محيط عالمه حتى عالم الغرب .
لنواصل البحث عن تفاعل شاعرنا وصرخات كلماته المبحرة بين المهجر والوطن، الجامع العبء الإنساني في أعماله الندرة … لذا استطاع الرحبي، أن يصور بجلاء المجتمعات المليئة بالتناقضات والأسئلة، والأمثلة، في موضوعاته التصويرية الشديدة الإيحاء…. ألا انه يتعامل مع المتلقي ” كطبيب في مشرحة تخترق حدود معالم الإنسان ليتواجد مع مشاعره وخلايا تفكيره، أو للكشف عن وطأ الزمن الذي أثقل معاناته” .
وهنا تكمن بؤرته الإبداعية في مجمل شطحاته الذهنية المرصعة بإعماله النثرية والسردية، ومعالجة المواقف الفردية، والاجتماعية في موضوعات كتاباته المترصدة للظواهر الإنسانية، المزينة بمسحات فلسفية متقاربة من أفكار الشاعر البرتغالي ” فرناندو بيسوا” الذي اخرج ثقافة البرتغال من الظل إلى وهج أوربا، المتمثلة بتجربة الرحبي، المشعة على عتبات الأدب من أعماقه التي تناشده كينونته المفتوحة على العالم اجمع إلى ما لا نهاية … من خلال نصوصه وسردياته العميقة، والمشعة بما تحمل من أفق الحياة .
لتبقى قيمة الرحبي، الأدبية أساس اجتياز انضمامه إلى جوقة أشهر كتاب العالم العربي والعالمي، في أسلوبه الخاص، والمنفرد بإيقاع كلمه الموسيقي المورد للمتلقي، كما صرح في قصيدته الشاملة ” أحلام القدماء ” .
أحلام القدماء
تلك التي تفعمني برائحة
الموتى في السرير
أراهم يختالون في حدئقهم المليئة
بالسناجب
في غسق المقابر
مشيرين إليّ بضراعةٍ وعنف
أن التحق بالقافلة
رغم عواء كلبها الجريح.
وربما غير ذلك
لا أكاد أتبيّن الاشارات
في ظلام المقابر الدامس.
///
عيونهم مَغْمضَة قليلا
يضطجعون على الخاصرة
يفتحون جزءاً منها
كأنما ثقل التراب على الجسد
أحزنهم قليلا
وغياب الأحبة
يتذكرون ميلادهم
في صرخة مباغتة
ولا يفكرون بالقيامة.
///
يتذكرون الدنيا
بأوجه شاحبة
وقلوب مكلومة
كأنما مرّت عليها عربات جلادين.
الطرقات وقد شاخت
تحت أقدامهم
مفعمة بروائح الأجساد التي انهكوها كثيرا
مَسُوقين برغبة الزوال
الزوال الذي لم تساومهم عليه الحياة
التي ساومت في كل شيء
ربما رغبة في التجديد
رغبة في الخلاص
عرين الأسرار الأزليّة
يفقس بيوضه في السلالات
التي تجرجر أثقالها من فيضان
الى آخر.
مسوقين بالرغبة نفسها
التي لا تشيخ مع الأحقاب
الموتى الذين لا يتذكرون موتهم
ويتذكرون الغيمة التي تنزل مع المساء
على الأسطح والجبال
وعلى مراوح النخيل.
///
تلك قصارى أيامهم
ينزل المطر على الصحراء
يصغون لثغاء الماعز
والطيور المهاجرة التي دمّرها التعبُ
فانسكبت في حياض الصحراء
يصغون الى حنينهم
ينفجر مع البرق، صواعقَ
تقصف الطرقات
لبكاء أطفالهم الذين لم يولدوا
للبهجة تعبر رؤوسهم نحو سَمَر بعيد.
للطفولة
يتسلقون ظلالها في الردهة
المظلمة
لعفاريت البيت القديم
ومطاريح المياه.
///
وروت القابلات حكايات عن طفولتهم
ونائحات الخرافة بالأجرة
حكايات بددها النسيان
وبقيت مِزَقاً كالأجنة الميّتة في الأرحام.
حكايات ليست عن قوم عاد وثمود ولا قوم لوط ولا أساطير سدوم وعمورية العامرة بالرذائل والفسوق وبطر الثروة حين تنطلق من عقالها بعد جذب وقحط ورياح سموم هوجاء. ليست حكايات الأقوام الغابرة ولا تلك المقبلة من القرن الأربعين وعالم النجوم.
حكايات الطفولة البسيطة التي ذهبت بددا
وعاث جنباتها التلف والخراب
أرض بوار
وفيافي ينعق فيها الغراب.
روت آخر نائحات القرية هذه الحكاية
المقصوصة الجناحين كطائر يتيم:
بعد انقضاء الصيف عادت الضباع مع طيور الصِبا
حاملة في مناقيرها السهوب
على حافة المقابر والبيوت تتحلّق بعد غيبة طويلة ظن الأهالي أن لا عودة بعدها وأنها ذهبت الى الأبد. لكنها هاهي بجرائها وأفراخها تقفز مع ضياء الفجر الأول من قبر الى بيت وفوق خيام الزطّ
في الوادي السحيق المطوّق بخيال الأبراج
والسّحَرة من كل الجهات، مرحة برحيل
القيظ ترضع مع الصبية والموتى لبن الصباح.
///
في مكان قصي يتبدى مثل كهف مقذوف
في العاصفة، بين الجبل والبحر، عشت
فترة من الطفولة.
هناك تعلمت السباحة في البحر
وفي عيني أسماك القرش
وحدّقت مليا في سجناء ((الجلالي)) الذي كان البرتغاليون يسمونه قلعة ((سانت غوا))- وهم يحملون الأثقال من الأسفل بأصفادهم الى رأس ذلك البناء الجبلي، الذي كان في الماضي دعامة الدفاع عن المدينة.
هناك شاهدت العناق الأول
بين الجبل والبحر
شاهدت ارتطام الصباحات ببعضها
كالنيازك
ورأيت ميلاد الأبديّة.
شاهدت العُزلات تمشي وحيدة
كالوعول قرب هيجان المحيط
والأجساد تطفو فوق الزّبَد والحطام
وكان القادمون من بلدان (المتروبول)
يطلُون من شرفاتهم ذات الطُرز الهندية بينما كنا نقرأ دروس اللغة والفقه، على ضوء السرجان التي تتنفس بصعوبة مثل كائنات تحتضر.
وهناك أيضا تخيلنا البحارة في المناور والمراكب الشراعية غاطسين في أعماق (سلامة وبناتها) وشاهدنا بحر الظلمات. وكان الصيادون الفقراء يأتوننا لقراءة الطالع البحري فنقرأ لهم شعرا للمتنبي وأبي مسلم، على شكل تعاويذ حتى يصطادوا بوفرة فيغمرون التلاميذ بالسمك والح
وجزيرة سرنديب حيث يأكلون الفيلة والبشر ويطيرون بأجنحة من نار.
///
كان ذلك عام 1965، أتذكر كنا ننام على حافة الوادي في (سرور) على جري العادة في الأصياف اللاهبة. كنا نفترش المسيل الذي تلمع أحجاره الصغيرة تحت سطوة الضوء الباذخ لقمر تشرين. وكانت أصوات صناطير ((القيّاظة)) ولهاث نسائهم خلف الستائر الخفيفة البيضاء التي يمتازون
كنا صبية الوادي الأشقياء.
وعصابة الجبال التي تصطاد الفجر والقطا.
بينما الأهل غارقون في نهر نومهم الذي تفيض على جوانبه الأحلام والمشاجرات.
في ذلك اليوم، اليوم نفسه سمعنا النداء الغامض قادما من أسافل القرية يتهادى مثقلا بطحالبه ونعاسه، مبشرا بوصول القادمين من الشرق الافريقي وزنجبار إثر الانقلاب في تلك الأقاصي السوداء، بعد أن حكمها العُمانيون عقودا متتالية، ملتهمين طقسها وعطاءها الوفير كما ظلو
والعابرين نحو البنادر والبحار.
وكنا نحن عصابة الأصغاء، نلملم أطراف المشهد
معيدين بناء المغامرة في مخيلاتنا المرتجفة من فرط الهواجس وأحلام الاقتحام
وفي اليوم نفسه، ربما من عام آخر
وزمن آخر غير موجود في الذاكرة البشرية
وبعد ما مرت سنوات عجاف
هلك فيها الزرع والضرع، سمعنا النداء نفسه من أعالي القرية هذه المرة،
ينبئ بالسيول الكاسرة التي تبدو في اندفاعها
الكاسح ورهافتها وملمسها السماوي الحزين كأنما
قادمة من خلف جبال الكون.