قراءة نقدية في رواية “صهيل مدينة ”
بقلم: زياد جيوسي
هل يمكن للخيول أن تتمرد وتصهل من جديد بعد التطبيع؟ هذا السؤال الذي دار في مخيلتي وأنا اقرأ في رواية “صهيل مدينة” للكاتب والمخرج مصطفى النبيه، فالرواية التي صدرت عن دار خطى للنشر في غزة عام 2018 تتحدث عن غزة وتروي بأسلوب وجداني حكاية مدينة مرت بمراحل مختلفة في حياتها، ومن لوحة الغلاف التي صورت اطلالة على المدينة من خلف نافذة خشبية مهترئة عليها قضيبين معدنيين مهترئين متصالبين، ظهرت المدينة المدمرة بفعل القصف من قوات الاحتلال، وأناس يمرون من بين الركام في الشارع، في مشهد كئيب لما آلت اليه المدينة، فظهرت وكأنها مدينة أشباح، وكان الاهداء بجزء منه يظهر ما هدفت اليه الرواية التي أخذت جانب توثيقي/ روائي، حين قال في الاهداء: “إلى الذين رفضوا أن تستباح أوطانهم وتتحول شقة مفروشة، إلى الذين سموا فوق الأنا وتمردوا على الفئوية والحزبية، وصنعوا من المرئي والمسموع والمقروء ثورة تنتصر للإنسان”.
منذ الصفحة الأولى كان السؤال عندي هو: ما الذي هدف إليه الكاتب من هذه الرواية؟ حيث ومن البدايات حتى النهاية يبرز الراوي يتحدث بقوة عن رفضه العبودية ويصمم أن يعيش الفرح رغم الجوع المتجذر، ويرفض بيوت العنكبوت التي تعشش في العقول الفارغة التي تفضل الصمت، فمن يعشق الحياة لا يخاف من الموت، ويتخذ الراوي من أسرته أنموذجا للحديث، ومن سوزان مسيحية الديانة حكاية الحب، فيبدأ بوصف المدينة بل قطاع غزة بأكمله بأنه يجر إلى خزعبلات ويصف المدينة أنها تنام تحت الرايات البيضاء رمز الاستسلام، منتفخة الرأس ثرثارة من أقصى اليمين حتى أقصى اليسار في إشارة واضحة نحو القوى السياسية، فيلجأ الى صديقه العجوز الكفيف يوسف الذي اقتلع وهُجر من يافا إلى غزة بالنكبة، فبقي ناطورا يحرس الماضي، وبرز في بعض فصول الرواية كشخصية ثانوية ولكنها مهمة للحدث، فتحدث عن نكبة 1948 وعن المجازر التي ارتكبتها عصابات الصهاينة في يافا واللد، وحين يموت بإشارة واضحة لحراس الحلم بالتحرر الذي بدأوا يرحلون أمام مرحلة جديدة، يلجأ لخيال الكاتب فيلف نفسه بالكفن معه، ويسمع المحيطين يقررون أن يرموا الجثة التي انتفخت فجأة بالبحر ليذيبها الملح، فالحلم أصبح بنظرهم نبتة شيطانية عليهم ان يتخلصوا منها، في إشارة رمزية للواقع الحالي ومن قرروا أن ينهوا الحلم ويدفنوه بالبحر بورقة وقرار.
بوضوح الرواية تتحدث منذ البداية والفصل الأول عن مرحلة ما قبل الانتفاضة ومرحلة الانتفاضة وما بعد الانتفاضة حيث اتفاق اوسلو وعودة القائد ياسر عرفات لقطاع غزة، حيث يسبق ذلك مشاهد حقيقية يوثقها الكاتب مثل رفع أغصان الزيتون ومصافحة جنود الاحتلال، فهي مرحلة جديدة يرى الكاتب انها مرحلة كشفت الوجوه وظهر فيها المتسلقون الذي يعملون على دفن الحلم بعد خروج الناس من معاناة سنوات الإنتفاضة، فيصورون لهم أن دفن الحلم وتسليم مفاتيحه والتخلي عن إرث الماضي هو الطريق الوحيد: “حينها تطلق غزة جناحيها وتحلق وتصبح سنغافورة” وقال برمزية واضحة لمرحلة بدأ الدولار الأمريكي يسيطر فيها: “بريق الورق الأخضر خطف أبصارنا”، وتبدأ المصلحة بالطغيان مثل الذي يريد استغلال سلطات اخيه العقيد العائد من تونس، ومن هو ضد الاتفاقية لأن أخيه العائد سيقاسمه الإرث، والإنتهازي الذي يبحث عمن يوظف أبنائه، وفي المقابل يرى راوي النص أن الأرباب سوف يبقون متنعمين بالأعلى ومن بالأسفل سيموتون بالكهوف، بينما راوي النص ما زال متعلقا بالحلم وبيافا وعكا وكل “المدن الأسيرة من صفد وبيسان شمالا حتى رفح جنوبا”.
مرحلة ما قبل الانتفاضة صور الكاتب والراوي غزة بشكل كئيب كمدينة مستسلمة فقال: “غزة الحاضرة المنسية، كانت في عهد الإحتلال شقة مفروشة، أنثى سريرها عفن، رائحتها قذرة، ملامحها كئيبة.. تعوم المدينة بالوحل شتاء، وتغرق صيفا بالخمور والمخدرات، تنتشر الراقصات والمغنيات العاريات في الأفراح”، يتناثر في طرقاتها الحشاشون ويصعد المشايخ لمقاومة ذلك، العمال الذين يعملون في أراضي العمق الفلسطيني المحتل عام 1948 أصبحوا مطَبعين، ودور السينما تعرض مشاهد جنسية مثيرة بين الأفلام التي تعرضها، وعاهرات اسرائيليات يعملن في منتزه غزة، فلا مقاومة للاحتلال الا نادرا حتى خرج المناضل خالد الجعيدي متمردا على الواقع وقتل عدة اسرائيليين، ويتساءل الراوي كيف تمردت غزة على هذا الواقع الذي تعيشه وتوجت التمرد بالانتفاضة في نهاية 1987؟
وللعلم أشير أن الأسير خالد من حركة الجهاد الإسلامي ونفذ عمليته في نهاية 1986 وأطلق عليه لقب مفجر ثورة السكاكين، وأفرج عنه عام 2010 بعملية التبادل التي اسميت صفقة وفاء الأحرار وهذا لم يرد بالرواية، وأستغرب هذا الوصف المغرق بالسلبية لغزة فقد كان الكفاح المسلح في غزة قويا وإن بدأ يفقد زخمه تحت القمع الاسرائيلي بعد عام 1973ولكنه لم يتوقف، ومن يمكنه أن ينسى جيفارا غزة الشهيد محمد الأسود كأنموذج نضالي متميز بتلك الفترة؟، ولولا أن الروح النضالية لم تستسلم أبدا ولم ترفع الرايات البيضاء لما تفجرت الانتفاضة الفلسطينية وعمت كل الأراضي المحتلة.
المرحلة الثالثة وفيها يعرف الروي على اسمه بأنه شكري خالد، ويتحدث عن أسرته وعن نفسه وعن معاناته وأحلامه، ويتحدث عن مرحلة نضالية ويتحدث عن المخيم الذي يقول انه: “ليلا يحميه الفدائيون” ونهارا يكون أسير جنود الإحتلال”، وفي ص 24 يتكلم عن اعدام عميل كان يتربص به كذئب ولكن تمت تصفيته قبل أن يفتك به بالعصى، ولكن في ص 25 يبدي انزعاجه التشهير بالعميل حرصا على أسرته ويقول بالحرف: “من زرع الحقد فينا؟”، وبتقديري أن التشهير بالعميل لا يعني التشهير بعائلته بل بشخصه، واعدامه والتشهير به كشخص وليس كعائلة درس لكل من يفكر بخيانة وطنه، والانتفاضة الأولى شهدت مواقف مشرفة لعائلات تجاه افراد منها خانوا الوطن وهذا لم يسيء للعائلة والمناضلين فيها واحيانا يكون المناضلون اخوة او ابناء لعميل تمت تصفيته، وفي نفس الصفحة يقول: “يعذبون أنفسهم ومن حولهم، يستخدمون كل وسائل القمع من نظرات وهمسات صفراء ليجلدوا الذين ينتمون لنفس الشجرة، أبرياء يصلبون أبرياء، ولأنني ذقت من نفس كأس العلقم، أصابتني غصة وجفاف في الحلق”، رغم انه حتى لو كان اخوه عدنان اعدم بنفس التهمة فهذا لم يؤثر على موقع الراوي كمناضل في الانتفاضة، ومع اقراري أن بعض من قتلوا ذهبوا بتصفيات لا علاقة لها بالعمل الوطني تحت بند العمالة، وهؤلاء من اعتبرهم ضحايا مظلومة وقد جرت تبرئة العديد منهم رسميا واعتبروا شهداء.
ومن الملاحظ أن الرواي يخلق شرخا واضحا في حديثه، فهو يمجد المخيم ويمنحه أجمل الصفات ويمزق المدينة ويصفها ومن فيها بأقبح الصفات، وقد استخدم انشاء الهلال الأحمر الفلسطيني على يد المرحوم المناضل د.حيدر عبد الشافي على أطراف المخيم للمس بالمدينة وتمجيد المخيم، وهذا لم يكن يوما من صفات الوطن المحتل، فالمخيم والمدينة يدا بيد في مواجه المحتل، والانتفاضات المتتالية لم تميز بين مخيم وقرية ومدينة، ففي ص 30 قال: “ويأتي الفدائيون ليلا ليعدموا الواشين”، وهؤلاء الخونة هم من أبناء المخيم ولم يتحدث عنهم كما تحدث عن العميل الذي جرى اعدامه في شارع الوحدة.
الرواي تحدث عن الوهم الكبير بالمفاوضات في واشنطن بينما فعليا كانت اللعبة تجري بصمت في اوسلو، وأعلن موقفه بوضوح ضد هذه الاتفاقية الهزيلة وهذا ما جعل البعض يستذكرون خيانة أخيه ويحاولون لجمه عن الحديث وإبداء الرأي وكذلك موقف د.حيدر عبد الشافي الذي تعرض للخديعة حين كان يفاوض في واشنطن ليكتشف أن اللعبة جرت في أوسلو بشكل سري، ولم يعرف بهذه الخديعة الا حين الإعلان عن الاتفاقية.
في صفحة 30 تبرز فايزة كشخصية ثانوية لتشارك في رواية الحكاية، ولكن الملاحظ في النسخة التي وصلتني الكترونيا أنه لا فواصل بين فصول الرواية، فهي متداخلة وكأنها فصل واحد فإن كان هذا بالنسخة الورقية فهذا خلل كبير في تنسيق الرواية من ناحية فنية، وفايزة ابنة المخيم تكمل ما بدأه شكري بالحديث عن المخيم والفقر والنضال ودورها فيه، وتجربتها في الأسر بعد استشهاد شقيقها عبد الله، والأهم كيف ينظر المجتمع من حولها لأسيرة محررة!! وحقيقة هذا ما استغربته في الرواية وأنا ابن فلسطين وأقطنها ولم ألمس ابدا مواقف كالتي روتها فايزة تجاه أسيرة محررة، وشخصية الرواية الرئيسة يلجأ للحديث في تداخل غريب ما بين اعتقاله من السلطة بعد دخولها القطاع وما بين اعتقاله من الاحتلال وما بين اعتقاله من المستعربين، وفي نفس الوقت يتحدث عن سجن النقب الصحراوي والبطولة في مواجهة السجان، فتختلط المسائل مشوشة أفكار القارئ الذي يضطر للعودة بالصفحات خلال القراءة.
الرواية تعتبر توثيقية في بعض جوانبها واتجهت لنقد العديد من الممارسات والقرارات في فترة الانتفاضة، ناقدة لكل مرحلة ما بعد اوسلو وإنشاء السلطة الفلسطينية، لكنها حفلت بالتشاؤم وتم استخدام اسلوب استعادة الذاكرة في الحديث، وهذا مع عدم وجود فواصل بين الفصول يؤدي لتشويش ذهن القارئ، وواضح أن الكاتب ركز في روايته على شخصيات المخيم واللاجئة إلى قطاع غزة بعد نكبة 1948، وعن معاناة اللاجئين الى قطاع غزة حيث قصفت الطائرات الاسرائيلية مراكز توزيع المؤن على اللاجئين، كما استعادت ذاكرة يافا من خلال ما رواه الكفيف يوسف الذي لم ير يافا بالعين بل بالقلب، واختيار هذه الشخصية وهو لم يرى ما يرويه، هو رمزية واضحة تشير إلى حراس الذاكرة اينما وجدوا حتى خارج الوطن في الشتات، والصغار الذي يكبرون ولا يعرفون أكثر من محيطهم الضيق ومع هذا يقدمون أرواحهم فداء للوطن، وهو يستذكر كيف كانت يافا تعيش بسلام فيورد اسماء جيرانه ام شمعون اليهودية وأم طوني المسيحية، وجنسيات العمال العرب الذين كانوا يعملون فيها وينعمون بالعمل والأمن والأمان، وفي نفس الوقت ينتقد الواقع الذي أصبحت عليه غزة بعد الانتخابات والانقسام فهو يقول على لسان يوسف: “لن تنتهي الحرب، أدعياء الدين من يتحصنون بالكتب السماوية سيبيعون الله على الطرقات حتى يصلوا لمأربهم”، والرواية نجحت بجدارة بوصف حالة اللاجئين ومعاناتهم بعد التهجير سواء في الطريق للمنفى أو في المخيمات، وتحت الإدارة المصرية ايضا.
خيال الكاتب لعب دورا كبيرا في الرواية التي أخذت طابع البوح الوجداني أكثر من الرواية، وخلطت الواقع بالخيال كما تعري الراوي بين الجماهير التي استقبلت العائدين للوطن من المنافي، وأيضا اللقاء مع ابو عمار الذي اشار له الراوي بالبداية وفي النهاية تقريبا، ورفض الرواي كل شيء من خلال رسائل ابيه في الشتات لأمه فاطمة، حتى انشاء م.ت.ف واعتبره قفصا، وكذلك قصف العراق لاسرائيل، وكل ما مر في مسيرة الثورة الفلسطينية من البداية حتى العودة للوطن حتى الواقع الحالي، فمازج الخيال بالرفض الذي يصل إلى مرحلة العدمية، والوقوف بوجه المشايخ ورجال الدين المتحجرين والتعصب الديني عند الطرفين، وهذا نلمسه بنهاية الكتاب وأترك المجال للقارئ للوصول اليه.
وفي النهاية بعد ان قرأت هذه الرواية والتي صيغت بلغة قوية، وبعد كل الملاحظات التي اوردتها بما كتبت اعلاه، أعود للسؤال: ماذا اراد الكاتب من خلال هذه الرواية التي لم تنته؟ أم كما قال الكاتب في آخر عبارة: (تستمر الرواية مع “الباحثين عن حياة”..).