جمِّلْ كلامك بالقرآن ( 4 )
أ د/ هدى مصطفى محمد| أستاذ المناهج وطرق التدريس – كلية التربية – جامعة سوهاج
هناك بعض العبارات والأقوال التي نجد أنفسنا نرددها في بعض المواقف، وهذه الأقوال قد تكون أمثالاَ شعبية، أو أقوالاُ مأثورة والأجمل أن تكون آيات قرآنية أو أحاديث نبوية.
وترديدنا لهذه الأقوال يأتي في سياقات لغوية مختلفة ، ويأتي دائماً لتدعيم ما نقول بأدلة واستشهادات. ونأمل دائماً أن نكون موفقين في اختياراتنا لهذه الأدلة، لتكون مناسبة للسياق ، ولعل أول طرق التوفيق هو التعرف إلى المعاني الصحيحة لهذه الأدلة وسياقاتها أو مناسباتها .
ومن هنا جاء هذا الطرح للآيات القرآنية التي يكثر استخدامها في أحاديثنا وكتاباتنا لنتعرف سياقاتها أو مناسبة نزولها وفي هذا إعادة نظر للحكم على صحة استخدامنا إياها، فقد يتحقق تصحيح فهم لدى البعض، وكذلك إدراك لمدى ما نستخدمه من القرآن في أحاديثنا وقد تكون بداية للإكثار من ذلك فنجمل أحاديثنا بالقرآن، كما أن معرفة المعاني ستزيد من إدراكنا لكثير من السور التي نقرأها وبذلك يتحقق عنصر من عناصر التلاوة الشرعية وهو التدبر في معاني ما نقرأ ، ولعل الفهم لبعض الآيات ييسر التلاوة ويحببنا فيها ويعين على الحفظ لمن أراد؛ فالفهم من العوامل المهمة التي تساعد على حفظ القرآن والارتباط به.
ونستكمل ما بدأنا من قبل ومعنا آيات اليوم من سورة المائدة: قال تعالى: “وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبَرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ” المائدة / 2
في الآية أمر بالتعاون في أمرين: الأول فعل، والثاني ترك. أما الفعل ففي الخيرات وهو البر ، والترك للمنكرات وهو التقوى، ونهي عن التناصر على الباطل والتعاون على المآثم والمحارم. فالإثم: ترك ما أمر الله بفعله كترك الصلاة، والعدوان: مجاوزة ما فرضه الله في النفس وفي الغير.
وفي الحديث “انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً قيل يا رسول الله هذا نصرته مظلوماً فكيف أنصره ظالماً؟ قال تحجزه وتمنعه من الظلم فذاك نصره.
واستخدامنا لهذه الآية يأتي على الوجه الصواب. فنذكر بعضنا بعضا ألا نتعاون إلا في مواضع البر وإن اختلف مفهومنا لمدلول البر والأفعال الحسنة فما تراه أنت حسن قد لا يراه غيرك أنه حسن، ولذلك فاختلافنا يكون –غالباً- في تقييم الموقف الذي نتعاون فيه وليس التعاون في حد ذاته.
قال تعالى:” وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ ” المائدة / 5
تشير هذه الآية إلى ما يتم معالجته بطبخ أو ذبح من أهل الكتاب (اليهود والنصارى)، فهو حلال للمسلمين لأنهم يعتقدون تحريم الذبح لغير الله، ولا يذكرون على ذبائحهم إلا اسم الله، وإن اعتقدوا فيه تعالى ما هو منزه عنه. ويحل كذلك أن تطعموهم مما ذبحتم وطبختم وهذا من باب المكافأة والمقابلة والمجازاة.
وجاء التخصيص لأهل الكتاب لأنهم على دين إلهي يحرم الخبائث، ويتقي النجاسة، ولهم في شؤونهم أحكام مضبوطة مستندة للوحي الإلهي. ولم يبح الله ذبائح أهل الشرك لأنهم لم يذكروا اسم الله عليها.
أما ما رواه أبوسعيد الخدري عن النبي – صلى الله عليه وسلم- “لا تصاحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي” فهو محمول على الندب والاستحباب. كما يرى البعض أن القصر هنا لطعام الصحبة، أما طعام الضيافة فلا يشترط فيه التقي فالضيوف لهم حقهم مطلقاً الأخيار منهم والأشرار.
وهذا المعنى للآية الكريمة نستخدمه ونطبقه في حياتنا بمدلوله الصحيح، فنتبادل مع أهل الكتاب الطعام والذبائح بلا حرج ديني. قال تعالى: اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ” المائدة /8
أي لا يحملنكم بغض بعض الناس على ترك العدل فيهم، بل عليكم بالعدل في الصديق والعدو، أي عدلكم أقرب للتقوى من تركه. ومعنى أقرب للتقوى أي للتقوى الكاملة ذلك أن العدل هو كبح النفس عن الشهوة وفي ذلك ملاك للتقوى.
واستخدامنا لهذه الآية يأتي على المعنى الصحيح، الذي فيه ترغيب للعدل مع الجميع لأنه يقربنا من تقوى الله التي نسعى إليها جميعاً. قال تعالى:”لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ ” المائدة / 89
قيل فيه هو القول بغير قصد (لا والله، بالله …) وقيل هو في الهزل وقيل في المعصية أو على غلبة الظن وقيل في الغضب وفي النسيان وفي الحلف على ترك المأكل والمشرب والملبس .
أما بما عقدتم الايمان أي بما كان قصد وعمد أما عن الكفارة “فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ” فهي تأتي على الترتيب وليس الاختيار فهي: إطعام عشرة مساكين على أن يكون هذا الإطعام من أعدل (أفضل وأمثل) ماتطعمون أهليكم ويجوز أن يكون الاطعام لمسكين واحد عشر مرات، فمن لم يجد فيقدم الكسوة لعشرة مساكين والكسوة تعني ما يصح ان يصلى فيه إن كان رجلاً أو امرأة .
وعن مناسبة هذه الآية أنه لما نزل النهي في قوله تعالى” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ” المائدة / 87 قالوا يا رسول الله كيف نصنع بأيماننا التي حلفناها فأنزل الله “لا يؤاخذكم الله …….. وشرع لهم الكفارة، والكفارة ليست على صدور الحلف بل على عدم العمل بالحلف، لأن الكفارة تقتضي حصول إثم والإثم هنا الحنث .
يشيع استخدامنا للآية بالمعنى الصحيح إلا أن المفهوم الخطأ في أن الكفارات مذكورة على التخيير، وهنا ينبغي التنويه أنها على سبيل الترتيب فمن يملك الأولى وهي القدرة على الإطعام لا يصح أن يتجاوز إلى ما يليها ، ولذلك من الخطأ شيوع الكفارة في حنث اليمين بالصيام فهذا هو البديل الأخير . والله أعلم. قال تعالى: “مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ ” المائدة / 99
تعد هذه الآية من الآيات التي تتضمن إعذار الناس لأن الرسول قد بلغ إليهم ما أراد الله منهم فلا عذر في التقصير ، والقصر هنا (ما …..إلا) ليس بحقيقي لأن على الرسول أموراً أخرى غير البلاغ مثل: التعبد لله، الخروج للجهاد ، التكاليف التي كلفه الله بها. فالقصر هنا إضافي لا ينافي أن على الرسول أشياء أخرى كثيرة .
ويشيع استخدام هذه الآية في تبليغ شخص ما رسالة من آخر، وفي ذلك خروج عن المعنى المخصوص في الآية إلى المعنى العام ومساواة بين ما يبلغه البشر بعضهم البعض وبين ما أرسل الله تعالى به رسله، وهذا الأمر لم ينكره أحد، وإن كان الواقع يشير إلى استخدام لفظ “رسول” بالمعنى اللغوي فقط وهو من تراسل القوم أي أرسل بعضهم إلى بعض.
ولا سبيل للمساواة بين رسل البشر بعضهم بعضاً ،ومن أرسله الله تعالى رسولاً هادياً ومبشراً ونذيراً . ولعل هذا الاستشهاد يشبه استشهادنا بقوله صلى الله عليه وسلم ” اللهم بلغت اللهم فاشهد” في بعض المواقف مع الفارق الكبير بين تبليغ البشر وقوله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع.قال تعالى:” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ” المائدة / 101
في هذه الآية تأديب بنهي للمسلمين عن أن يسألوا عن أشياء مما لا فائدة لهم في السؤال والتنقيب عنها؛ لأنها إن ظهرت لهم تلك الأمور ربما ساءتهم وشق عليهم سماعها. وقد يكون في هذا أيضاً إبعاد عن السؤال الذي قد يتسبب في التشديد والتضييق كما كان من بني إسرائيل في شأن البقرة ، قال تعالى ” قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ” المائدة/ 102. فهذا النهي عن مسائل سألها بعض المؤمنين رسول الله صلى الله عليه وسلم في شؤون ذاتية خاصة بهم وليست شؤون دينية ، فنهوا أن يشغلوا الرسول بمثلها بعد أن تقدم في أن مهمة الرسول البلاغ.
وروي عن علي بن أبي طالب أنه لما نزلت “لله على الناس حج البيت.” قال رجل يا رسول الله : أفي كل عام . فأعرض عنه حتى عاد مرتين أو ثلاثاً فقال النبي …ما يؤمنك ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا فيه ما استطعتم وما نهيتكم عن شيء فاجتنبوه فأنزل الله تعالى ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء ”
وقيل أنها نزلت حين سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحام بدليل ذكرها بعد ذلك. وجاء قوله تعالى:”وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ” معناه إذا صبرتم حتى ينزل القرآن بحكم فيها بفرض أو نهي.
ويأتي استشهادنا بهذه الآية في نفس السياق – مع اختلاف منزلة السائل والمسؤول – عندما يلح السائل في معرفة أمر يتعمد البعض عدم إظهاره لشيء مسيء لمن يسأل فيحاول كفه عن كثرة السؤال بالتذكير بهذا الآية . والله أعلم
وللحديث بقية ،،،،،