لم ينتصر الصياد على التنين
عيسى قراقع | فلسطين
الفنان التركي المبدع Musa Celik
لا يقلل اعتقال عدد من الأسرى الذين هربوا من سجن جلبوع الإسرائيلي يوم 6-9-2021 من اسطورتهم وشموخهم والتي هزت الكيان الإسرائيلي وهيبته وعنجهيته، وحتى لو إعتقلوهم جميعهم فالمعركة ليست معركة ستة أسرى وانما هي معركة مستمرة لشعب عظيم يكافح من أجل حريته ومصمم أن يحطم منظومة الإحتلال وترسانته العسكرية، ويضحي بكل ما يملك في سبيل كرامته وحقوقه العادلة.
نفتخر ونعتز بالأسرى الذين إنتزعوا حريتهم، لقد جسدوا حكاية كل مناضل حر وشريف، الإرادة التي تحفر الصخر والحديد، التضحية التي تترك كل المعاني السامية في مسيرة الشعب الفلسطيني، الإرادة هي التي تكتب التاريخ، الإرادة هي التي تصون الهوية والرواية والثقافة والذاكرة والعدالة، وتنقل معاول المقاومة من كتف الى كتف ومن جيل الى جيل.
راينا الاسرى خلال إعتقالهم مبتسمين رائعين مشرقين مرفوعي الرؤوس، وفي ذات الوقت راينا جنود الإحتلال ووحداته الخاصة عابسين مذهولين، أشباح وجوههم ممرغة في الذل والعار والخوف والخيبة، راينا جنود الإحتلال متوترين كالمجانين، جنود آليين، إبتسامة الأسرى الواسعة هي لوحة الحياة القادمة للشعب الفلسطيني، هي المبدأ والمنهج والرسالة، هي الكتاب والمدرسة، هي المستقبل والأغنية، هي الحب والإيمان وفرح الحلم الجميل.
ستة أسرى إستطاعوا أن يعتقلوا دولة إسرائيل، دولة هشة ومرتجفة، دولة تختبى وراء الجدران والمتاريس والعتمة، ستة أسرى جعلوا نهار فلسطين هو الأطول في التاريخ الإنساني، كل العالم ظل مشغولاً، قضية الأسرى أيقظت كل النائميين، هي جنين، زهرة عباد الشمس، الجبل والسهل والمرج، المدينة والمخيم، الأسير والشهيد، أبو جندل، زكريا الزبيدي، ولم ينتصر الصياد على التنين.
قامت قيامة إسرائيل بعد نجاح ستة من الأسرى الفلسطينيين من انتزاع حريتهم وهروبهم من سجن جلبوع، الأجواء في دولة الكيان الإسرائيلي هي أجواء هزيمة ونكسة وصدمة، استنفار عسكري وأمني برا وجوا وبحرا، انها حرب أعلنت خلالها حالة الطوارئ وجندت الوحدات العسكرية بكل تشكيلاتها في محاولة لإلقاء القبض على الاسرى الذين حلقوا في فضاء الحرية بطريقة اسطورية وخارقة، وبكل شجاعة وتحدي وبطولة.
الفشل الإسرائيلي وسقوط منظومة القمع الأمنية وانهيار مفهوم السجن كمكان للقمع والعزل والتدمير الإنساني، دفع سلطات الاحتلال الى الانتقام الجماعي وبصورة وحشية غير مسبوقة من مجموع الأسرى القابعين في السجون، وتشديد الإجراءات والعقوبات التعسفية بحقهم من عزل وتنقلات وتفتيشات ومداهمات واغلاقات، وزج وحدات القمع المدججة بكل أنواع الأسلحة في ساحات السجون.
الإرهاب الإسرائيلي يتجلى بأعلى اشكاله وادواته الآن في سجون الاحتلال، تهديدات وقمع ومضايقات وحرمان من ابسط الحقوق الإنسانية للمعتقلين، كل ذلك جاء بطريقة ثأرية ردا على الهزيمة التي منيت بها دولة الاحتلال والتي كانت دائما تعتبر نفسها الدولة الأقوى في منطقة الشرق الأوسط.
تحرير الأسرى لأنفسهم في سجن جلبوع ليس حدثا عاديا، انه حدث تاريخي مفصلي في حياة الشعب الفلسطيني وحياة الحركة الاسيرة، انه انتصار آخر للأسرى ينطوي على ابعاد سياسية وقانونية وإنسانية ونضالية على المدى الاستراتيجي، وابرزها:
أولا: تحولت السجون الإسرائيلية وزج الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني في داخلها الى حاضنة ودفيئة للتمرد والثورة والعصيان، وإن كل الخبرات الأمنية الإسرائيلية لم تحقق أهدافها في تطويع الاسرى وتدجينهم وتيئيسهم، بل زادتهم قوة واصرارا على انتزاع حريتهم بكل الطرق والوسائل.
ثانيا: سقوط المفهوم الإسرائيلي للسجن كمكان لهدم البشر واعدام الروح والعقل والنفس والمشاعر وتفسيخ الجسد والاحلام والإرادة، فلم ينجح السجن في تحويل زمن الأسير الى زمن ثقيل ومتنائي وبديلا لحبل المشنقة.
ثالثا: فشل مؤسسة السجن الإسرائيلية هو فشل مجتمع الاحتلال بكل مؤسساته الأمنية والعسكرية والقضائية والتشريعية في القضاء على تطلعات الشعب الفلسطيني العادلة وسعيه للحرية والاستقلال وحق تقرير المصير.
رابعا: فشل مؤسسة السجن الإسرائيلية هو فشل لكل المخططات والبرامج التي عملت منذ قرون على صنع ما يسمى الجسد الانضباطي للأسير، الخانع والمستسلم، المكتفي بالرفاهية الشكلية، بالطعام والشراب والكنتين وتحويل وقته الى وقت استهلاكي على حساب كرامته الإنسانية وحريته.
خامسا: فشل مؤسسة السجن الإسرائيلية هو فشل لسياسة هندسة واقع الشعب الفلسطيني ثقافيا ونفسيا وسياسيا، فالسجن ببنائه وتركيبته هو صورة مصغرة عما يطبق على الشعب الفلسطيني في خارج السجن من فردنة ومعازل ومراقبة وفصل واقفال وتقطيع الفضاء والوقت، فالسجن نظام بصري مرئي قبل ان يكون صورة حجرية، ترك نسخته على الواقع الفلسطيني الذي يتعرض لاختبارات إسرائيلية وامريكية من اجل تأهيله وتنميطه لقبول الأمر الواقع أو ما يسمى الطواعية الآلية.
سادسا: فشل مؤسسة السجن الإسرائيلية هو فشل لنظام العقوبات الإسرائيلي وقوانينه الحربية والعنصرية التي تطبق على الاسرى من اعتقالات إدارية وتعذيب نفسي وجسدي وتنكيل واهمال طبي ومحاكمات غير عادلة، وغيرها من الجرائم الممنهجة المخالفة للقوانين الدولية والكفيلة ان تحول من في السجون الى قنابل بشرية.
سابعا: فشل مؤسسة السجون الإسرائيلية هو فشل لسلطة الأيديولوجيا الصهيونية الاستعمارية القائمة على التطرف والعنصرية والكراهية، والتي تنظر الى الاسرى كأرهابيين وصراصير يجب قتلهم وخنقهم بالغاز السام ونزع مشروعية نضالهم الوطني والإنساني، فأسلاك الأيديولوجية الصهيونية اشد قوة من اسلاك السجن.
ثامنا: فشل مؤسسة السجن الإسرائيلية هو فشل سلسلة القيود التي حاول المحتلون خلالها تقييد أفكار الشعب الفلسطيني وإعادة بناء جسمه الاجتماعي ليقودوه كالعبيد، فلم تستطع تقنيات المحتلين المتطورة ولا مكونات السجن البنائية والوظيفية والمعمارية من السيطرة على الاسرى وترويضهم ومواجهة ابداعاتهم الثورية في المواجهة والمقاومة.
كل اسير فلسطيني يفكر بالحرية والخروج من السجن، من لا يفكر بذلك يكون عبارة عن جثة بلا روح، وفي عقل كل اسير مفتاح لكل نافذة وباب وجدار، نظراته دائما تبحث عن شقوق تطل على السماء والفضاء، يتطلع صوب الباب، وكما قال الشاعر احمد شوقي: وللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يدق، والاسير الذي لا يستطيع الهروب من السجن فإنه يهرب نطفة او كتاب او شهادة جامعية او قصيدة او رسالة او خاطرة مشتعلة.
الحرية هي كل ما يفكر به شعب يخضع للاضطهاد والاستعمار، وانه لا يوجد أثمن وأغلى من الحرية، هذه الحرية التي لا تمنح ولا تعطى وانما تنتزع انتزاعا، ولا يمكن لأي محتل مهما بلغ جبروته وطغيانه وتفنن في بناء السجون والثكنات ان ينتصر على شعب قرر الخلاص من قيود الاحتلال.
إن عجزت الايادي السياسية وايادي المجتمع الدولي على انقاذ الاسرى وتوفير الحماية لهم ورفع المعاناة عنهم، فأيدي الاسرى ليست عاجزة، فقد دقت على الاسمنت والحيطان، حفرت ورسمت خارطة أخرى للطريق والعبور، الاسرى يعرفون المسافات والاتجاهات والاعماق، نقطة الضوء تشع في عيونهم الحبيسة، حقول واشجار مدينة بيسان المحتلة وهواء البحر تغمر صدورهم لتندفع انفاسهم الطليقة.
هروب ستة اسرى وانتزاعهم الحرية يعني ان السجن لا يحمي السجان، ونظام الاحتلال لا يحمي المحتل ويوفر الشرعية له، فالسجن هو مجتمع الجلادين الإسرائيليين بشمولية، مجتمع المخابرات والبوليس والسجانين المذعورين، مجتمع لا يستطيع التصدي لأسير اعزل استطاع ان يفرض حالة الطوارئ والحصار على تل ابيب.
فشل السجن الإسرائيلي هو فشل هذه القلاع والحصون والمعسكرات في تغيير تطلعات الاسرى والتأثير عليهم والسيطرة على سلوكهم، سقطت فعالية اثر السجن على الاسرى، فالإحساس بالظلم وبانغلاق المكان والزمان، بانغلاق الأفق السياسي يؤدي الى الانفجار، الاسرى كسروا المغلق وفتحوا في هيكل السجن نفقا اطل على الحياة.