رواية ” عين الحريم ” (1)
أحمد الملغوث | صحفي وفنان تشكيلي سعودي
توطئة :
الحديث عن النفس .. امر صعب .. صعب جدا .. لاسباب عديدة .. من اهمها أن الكثير منا قد لايصدق .. مايقوله هذا اوذاك عن نفسه .. فلو كتب بشفافية عن حالة سيئة قد تعرض لها.. او موقف صعب واجهه في حياته ربما رحنا نصدقه بقوة بل اننا قد نشير اليه باعجاب وتقدير كبيرين .. ولو كتب عن عمل فيه خير قام به ربما لانسلم به او حتى نصدقه الا اذا كان موثقا او أكد ه بدليل .. فكيف يتاح لمن عاش تجربة ما .. أن يوثقها ولم يشهد عليه فيها الا الله .. في وقت ربما لم تتاح له تصويرها او تسجيلها لظروف قاهرة .. ومع هذا نجد صعوبة كتابة الذكريات او حتى الحكايات الشخصية التي تكون سلسلة من الاحداث التي عاشها فتى هذه الرواية .. لكنه كان محظوظا , كونه سجل الكثير من ذكرياته وتجاربه ومن خلال هواياته المختلفة العديد من هذه الاحداث بعضها بالصوره وبعضها بالرسم والكثير منها بالكتابه فكانت مادة هذه الرواية (عين الحريم) وفيها لن يتحدث الفتى عن نفسه لا بخير ولا بشر وانما هي احداث ومشاهدات سجلها قلمه ورسمتها ريشته بل وحتى التقطتها كاميرته .. ولكن في الرواية لايمكن نشر الصور او حتى الرسوم .. ومع هذا سوف يتجاوز هذه الاشكالية وبحكم ماتتيحه له هذه التقنية الحديثة ومن خلال ” المواطن اليوم) سوف ينشر الكثير من الصور والرسوم ذات العلاقه في تجربة هذا الفتى الذي عاشها فتى وشابا ومازال يعيشها بفضل الله وهو قد تجاوز عقده السادس بسنوات بل انه يكاد يحتفل بغقده السابع ومن هنا فهو يعد شاهدا على العصر كما يقال .. ؟!
الختان ( الطهارة)
الأيام تمضي بنا سريعة الخطى ..تتلاحق فيها الأحداث والقصص والحكايات.. بعضها ينطبع في الذاكرة لصلتها بحادثة ما .. مهمة أو عزيزة .. فيجدها تنهض أمامه فجأة بتفاصيلها المختلفة كافة.. والكثير منها يتلاشى مع الأيام هكذا يجد نفسه مسترخيا ًفي هدوء، في أعمق أعماق الذاكرة.. منتظرا مناسبة ما أو حادثة ليقفز أمامنا يذكرنا بما مضى وانقضي من أحداث أو قصص أو حكايات.. وكثيرا ما تلعب المصادفة وحدها في تحريك ما في أعماق الذاكرة من حكايات أو مشاهد.. فنحن لاننسى بعض أحداث الطفولة المحببة وحتى الحميمة مع أقراننا الأطفال .. بنين وبنات.. لا ننسى ألعابنا الأولى معهم .. نذكر حتى طريقة مشيهم وأحاديثهم ولثغتهم. والاهم إننا نذكر وجوههم الطفولية البريئة الجميلة وابتساماتهم البسيطة التي تسافر داخل الأعماق .. ومع هذا هناك من يسكن منهم أعماق ذاكرتنا.. بل ويحتل مساحة طيبة فيها .. ومواقف عديدة في حياتنا لا تنسى أبدا .. مثلا مشاهد الختان التي كانت تجرى على يد الحلاق أو ( المحسن ) في مد ينتنا الصغيرة في ذلك الوقت ومازال صاحبنا يذكر هذا المحسن وكيف قام بمهارة وخفة بختانه على صدى صراخه وصياحه وحتى شتمه لكل من حوله من رجال خاله الأشداء الذين امسكوه من قدميه ووسطه بصورة لم تدع له فرصة الحركة أو الإفلات حتى من قبضة أياديهم الخشنة من فرط العمل .. بل أن أظافر احدهم الطويلة تركت أثارا مؤلمة في ظهره.. ومع هذا انتهت المهمة بسلام وسط التبريكات والأدعية ودموع لم تتوقف إلا بعد ساعات .. لكن سيل اللعنات التي أطلقها على ( المحسن ) طوال ذلك اليوم ضج بها بيت خاله.. نعم انه يذكر جيدا كل تلك التفاصيل عن يوم ( الختان ) وكيف حرصت والدته رحمها الله على استحمامه في ضحى ذلك اليوم قبل العملية ببضع ساعات.. ومع انه كان صغيرا في ذلك الوقت فهو لم يتجاوز السابعة من عمره فقد شعر أنه دخل مرحلة جديدة من حياته.. هكذا كان يسمع من احد أبناء عمومته بأنه سيصبح بعد ( الختان ) رجلا وسوف يلج عالم الرجال من بابه الواسع..!! كانت معلوماته الطفولية الساذجة عن عالم الرجال لا تتعدى ما يسمعه في مجلس خاله من أحاديث مختلفة .. بعضها لا يفهمه وعقله الصغير لا يستوعب معانيها وكلماتها غير المفهومة لديه.. لكنه يذكر جيدا حديث الشيخ عبد الرحمن أبي إبراهيم (رحمه الله ) في مسجد طاهر بجوار منزلهم بالسياسب وخلال أحاديث رمضان والتي كانت تستقطب نسبة كبيرة الرجال ومن سيدات الحي الشهير لما يمتاز به فضيلته من حسن الإلقاء وعمق الأداء وسعة ثقافته الدينية التي تجسدت من خلال الحضور الكبير لهذه الأحاديث التي كانت تقام في المسجد بعد عصر كل يوم من رمضان .. انه يذكر جيدا عندما سأل احدهم الشيخ الجليل عن الختان وأهميته وراح فضيلته يشير ببساطة إلى أهميته للإنسان المسلم إضافة إلى أن السنة النبوية رسختها كشرط وجوب لاكتمال العقيدة بالنسبة للذكور.. !! وفي المساء سأل والده عن ( الختان ) فيجيب باسما .. لا تستعجل .. الم تسمع فضيلة الشيخ عصر اليوم .. نعم سمعته لكن هناك أشياء لم افهمها وأريد معرفتها منك .. وبعد تردد راح والده يشرح له انها عملية بسيطة ومطلوبة وشخصية الإنسان المسلم لا تكتمل إلا بها .. إضافة إلى التزامه بكل ما له علاقة بالإسلام .. وهي تجربة لابد للطفل أو للفتى أن يمر بها ولابد له منها حتى لو تأخر في أجرائها لأسباب ما ..
وهكذا، وبعد أيام، من عملية ( الختان ) صار وهو الطفل الصغير، يشعر أنه دخل عالم الفتيان .. لا بل عالم الرجال .. فهل هذا يعني أن هذه العملية التي جعلته يتمدد على ظهره أكثر من يوم وهو متباعد الساقين وكيف كان يتألم ويتوجع عندما يريد أن يبول..؟!! أترى ( الختان) أو الطهارة هي المدخل الرئيسي لعالم الرجال بهذه الطريقة ..؟ تساءل كثيرا لكن لم يجد جوابا على تساؤلاته إلا بعد سنوات عندما بدأ يقرأ مجلة سندباد وطبيبك وعرف أهميتها الصحية.. و مضت الأيام والسنوات وهاهو اليوم يذكر مشهد (الختان) الذي لم ينسه حتى تفاصيل واحداث ذلك اليوم يكاد يراها بدقة .. بل انه لم يتردد أن يقوم برسم أكثر من لوحة تشكيلية عن عملية (الختان) توثيقا واهتماما بكل ماله علاقة بالتراث والبيئة في مدينته الإحساء (بيته الكبير) الذي أحب ..!! كم هي رائعة حياتنا وذكرياتنا بكل ما فيها من موحيات وتاريخ وأعمال وأحداث لا تنسى أبدا .. ذكره بالختان اليوم مشهد طفله الصغير وهو يتأوه رافعا ثوبه بعيدا عن طهارته.. وهو يسير متباعد الساقين .. كما كان يفعل هو وقتها ..!!
السيارة الوردية
كانت سيارة الميركوري الوردية تسير ببطء في الطريق الترابي باتجاه مزرعة خاله ” البستان ” والتي كانت تقع على بعد اثني عشر كيلا من مدينته ..وفجأة خرج مجموعة من أبناء ألحجي ناصر وراحوا يجرون خلف السيارة محاولين الإمساك ( بصدامها ) الخلفي في محاولة يائسة للصعود عليه .. أحس السائق بهم فزاد من سرعته وإذا بالغبار والتراب يغطيان وجوههم السمراء التي تحولت إلى لون ترابي مغبر.. تراجع الأطفال وهم على ما يبدو يشتمون السائق من أعماقهم.. بدا ذلك واضحا من خلال حركة يدوية قام بها أحد الصبية الغاضبين .. محاولة الأطفال البائسة اليائسة للتعلق بالسيارات التي كانت قليلة الانتشارفي مدينته .. فمشاهدة السيارة في ذلك الوقت يعتبر شيئا مبهجا ومثيرا .. خاصة للأطفال المحرومين من ركوبها .. كانت سيارة خاله الميركوري الوردية تعتبر من السيارات القليلة في المدينة وحتى ان شراء السيارة قبل ستة عقود وأكثر كان يعتبر امرأ مكلفا ..يحتاج الى أن تتوفر لدي من يرغب في اقتناء السيارة إمكانية مالية كبيره لذلك حتى أن اعداد السيارات في مدينته ولفترة زمنية طويلة تكاد تعد على أصابع اليد الواحدة .. وكان العديد من أطفال المدينة يتمنون، بل ويحلمون مجرد حلم الصعود إلى داخلها ومشاهدة محتوياتها من مقاعد جلدية وراديو وتجهيزات أخري تبهر الناظر إليها .. فكيف لو أتيحت لهم الفرصة لركوبها والتنقل بها هنا وهناك .. كان من أسعد لحظات حياته في ذلك الوقت ـ وكان عمره لا يتجاوز التاسعة ـ أن يذهب مع ابن خالته إلى المزرعة في هذه السيارة الجميلة والفريدة مصطحبا معه دفتر الرسم ومجلات سندباد .. وبعد الاستمتاع بمشاهدة المناظر التي يشاهدها من خلال نوافذ السيارة وهم في طريقهم إلى المزرعة وهي مناظر ومشاهد رائعة تعكس طبيعة وجمال مدينته وواحتها الكبيرة حيث تنتشر فيها الحقول والبساتين وجداول المياه..التي تنساب بين الحشائش و البرسيم بعضها في جداول (ثباره ) صنعها الفلاحون بفؤوسهم الكبيرة ( صخاخين ) ليتفرع منها الكثير من الجداول الصغيرة التي تسقى المساحات المزروعة بالنخيل وأنواع عديدة من الأشجار التي أشتهرت بها مدينته عبر التاريخ .. وفي المزرعة يطيب له أن يجلس في الاستراحة المسقوفة بجذوع النخيل ليرسم ما أعجبه من مشاهد ومناظر ..