التوليف الصوري وأسلوب الوصف القصصي في مجموعة: أنبياء الأهوار لـ” نعيم عبد مهلهل “
أ.د. مصطفى لطيف عارف | ناقد وقاص عراقي
تمنح هذه الوسيلة السينمائية القاص نعيم عبد مهلهل فرصة التحرر من القيود المكانية, والزمانية في السرد الحكائي التقليدي , إذ يتمكن السارد من خلالها من التنقل بين الأزمنة, والأمكنة بحثا عن الأحداث ,والتفصيلات الأكثر أهمية في القصة [1],
فالتوليف عملية انتخاب وتوقيت وترتيب لقطات معينة في تسلسل سينمائي – وهي العامل الخلاق الفاصل بإنتاج أي فلم- وان انتقالها من السينما إلى الخطاب الأدبي لن يؤثر- بالضرورة- في أهمية دورها في الخطاب الجديد[2],
فالتوليف بهذا المفهوم يمتلك قدرة واسعة على التخييل, وتقديم اللقطات , المؤثرة فنيا, لأنه مؤسس على تراكب لقطات تراكبا هدفه أحداث تأثير مباشر ودقيق نتيجة لصدمة صورتين[3],
تعبر كل واحدة منهما عن واقع محدد , وتكون مهمة المشاهد/ القارئ اكتشاف , وتأويل نوع العلائقية التي يمكن أن تجمع بين هذين الواقعين , استطاع القاص العراقي المتميز نعيم عبد مهلهل تناول هذه التقنية الحداثوية في مجموعته القصصية (أنبياء الاهوار), وحتما بعد هذه السنوات الطويلة ربما كانت قصة النزول قد منحت أولئك الصغار في شبابهم شيئا,. فهناك من استعان بدمعة النبي يوم أمره الرب بالنزول إلى الأرض ومغادرة الجنة, لكي تشفع له وتحميه من شظايا الحرب , وهناك من استمع إلى نصيحة مسعد الذي انتحر في يوما ما , وغادر الحياة دون أن يتسنى له أن يسمي من يخلفهما باسم ادم وحواء, وربما غيره فعل ذلك [4],
نجد النص القصصي للقاص المبدع نعيم عبد مهلهل اعتمد على ثالوث التأويل , من خلال حركة عين الكاميرا من بداية القصة نزول ادم وحواء , ومن ثم نبوءة مسعد الطالب الشقي الذي قرر الانتحار, وأخيرا الحروب القاسية التي أنهكت العالم, وقد ترك القاص التأويل على مصراعيه للقارئ/ المشاهد, بمعنى آخر اكتشاف, وتأويل (معنى المعنى) المتولد على حاصل الجمع بين اللقطتين من خلال أعمال الذهن, والتأمل, وإعادة النظر في المزج الصوري المونتاج بمختلف أنواعه الزماني, والمكاني, والتعبيري, والاسترجاع الصوري (الفلاش باك) وغيرها من وسائل التوليف, والمزج الصوري, فكثيرا ما وجدنا القاص العراقي نعيم عبد مهلهل يلجا إلى هذا النوع من التكنيك السينمائي ولاسيما في مجموعته القصصية (أنبياء الاهوار) التي تشكل السمة الأسلوبية الأكثر بروزا في نتاجه القصصي.
إذ تمكن القاص نعيم عبد مهلهل من الجمع بين صورتين الأولى يلتقطها من بيئة الأهوار, والأخرى يلتقطها من الأجواء الدينية الآمنة من قصص الأنبياء ,كما يتجلى ذلك واضحا في استعمال المونتاج المكاني الذي يقوم به على أساس الجمع بين صورتين لمكانين مختلفين في زمن واحد [5],
أبعدت هاجس لوط عن هذا المكان , وقربته لإحداث وقصص اجتماعية كانت تسكن أزمنة المدينة , وأدركت ما كنت اقرأه في روايات البرتومورافيا بان الحب هو الذكورة عندما تتوجه إلى أنوثتها , هكذا مثل ادم وحواء اللذين حينما هبطا الأرض أرادا شكلا جديدا لحياتهما فابتدأ بالحب والغرام وإنجاب الذرية [6],
إن مثل هذا النوع من المونتاج الذي يقوم على أسلوب المقابلة ,والمطابقة في تصوير ملامح البيئة العدائية الأليفة , يخلق دون شك نوعا من أنواع المفارقة الناشئة من التباين الواضح الذي تمت صياغته بقصديه لمخاطبة المشاعر الإنسانية , واستدعاء حالات التعاطف الوجداني, ومشاركة الشخصية القصصية معاناتها, يوم عرفت داود النبي شاعر وموسيقي ومحارب وحكيم أدركت أن اختلاف الصفات عند الأنبياء تأتي أولا من موهبة إلهية , وان تعدد المواهب لا يعني تعدد المعجزات, لان واحدة مثل أحياء الميت وإعادة البصر إلى الأعمى تعد معجزة كبرى, لكن امتلاك موهبة التلحين وكتابة المزامير لا تعد معجزة, لكنها في النهاية هي شيء مثير كما أعادة النور إلى العين المنطفئة, ويقال أن داود النبي كان من مهرة صناعة السيف, وأتذكر في صباي كنت اسمع قارئ المنبر الحسيني يقول :لم يكن الحسين يحتاج سيف داود ليهزم جالوت, بل كان يحتاج استشهادا ليهزم فيه أعداءه [7].
ومن خلال النص القصصي انف الذكر استطاع القاص نعيم عبد مهلهل نقل معاناة الشخصية القصصية ,والاندماج فيها, معتمدا على ذاكرته في سرد الأحداث الماضية عن طريق تقنية الفلاش باك ,والاسترجاع للماضي عن طريق عين الكاميرا التي تتحرك من بداية القصة الأولى حتى القصة الرابعة ,والخامسة مرورا لبقية قصص المجموعة لتبين مدى تفاعل التقنيات السينمائية الحديثة مع فن القصة, والمونتاج ألزماني في المجموعة القصصية (أنبياء الاهوار) للمبدع المتألق نعيم عبد مهلهل فيمزج بين لقطات صورية لشيء واحد, ولكن في زمنين مختلفين , ما يكشف عن أبعاد دلالية مختلفة, يتوصل إليها المتلقي عن طريق التأمل, والتأويل الذي تسمح به جوانب النص القصصي , وغالبا ما يرتبط هذا النمط من التوليف بعرض تطور الشخصية القصصية, سواء في الخطاب الواقعي أو الخطاب ألغرائبي.
فيرصد المونتاج التغيرات التي طرأت على الشخصية مع تغير الظروف المرتبطة بتغير الفضاء القصصي, تقع قريتنا عند الضفاف البعيدة , في ممالك ضفاف الشمس, حيث تمتد الاهوار إلى أفق لا تصل إليه سوى المشاحيف وحكايات بعضها يتصل بالواقع لكن اغلبها كان خرافيا , وكلما أراد المعلمون في مدرستنا أن يجمعوا الخرافة بالحقيقة عند نقطة متقاربة فأنهم لا يستطيعون, غير أن تلك الخرافات لن تصمد أمام عقائد أهل الاهوار حين يأتي ذكر النبي أو الإمام المعصوم أو السيد العلوي , واغلب مراقدهم متفرقة على خريطة الاهوار [8]
أن القاص المبدع نعيم عبد مهلهل قدم النقد اللاذع والاجتماعي عن طريق المونتاج الزمني بما يحمله من عناصر بصرية ,وذهنية متوزعة بين الماضي القريب, والحاضر يحمل رسالة ذات بعد اجتماعي يمثل إدانة ,واضحة لبعض العادات , والأعراف الاجتماعية السلبية بما تحمله من تجاوز واضح وانتهاك لحقوق الإنسان ولاسيما العراقي المظلوم, ومن خلال اللقطة الأخيرة لعين الكاميرا التي توجهت إلى بطل القصة (مسعد) من اللقطة الأولى التي تحدث فيها عن أول الأنبياء النبي ادم عليه السلام وقصة التفاحة.
انتهت اللقطة بأخر قصة لخاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه واله وسلم, وهي التفاتة نادرة, ورائعة من القاص المبدع نعيم عبد مهلهل في حوارية جميلة بين المعلم, والطالب بطل القصة (مسعد) الذي حاور أستاذه في القصة الأولى, والأخيرة, ويوم كنت اعلم تلاميذ الصف الخامس وعددهم أربعة تلاميذ من مجموع ثمان قرى متقاربة مبادئ التاريخ وكيف نعرفهم تفاجات برغبة التلميذ مسعد بقوله: أستاذ نريد أن نعرف شيئا عن النبي محمد صلى الله عليه واله وسلم حينها أوجزت لهم السيرة, ولكن مسعد توقف عند غار جراء. وقال : تمنيت لو أن الغار هذا كان موجودا في كربلاء ليحمي الحسين, فالنبي كان يصلي فيه وحتما سيحفظه لأنه جد الحسين .[9]
المراجع:
[1] ينظر أسلوبية القصة : د0 احمد حسين الجار الله :59 0
[2] ينظر مأتم تنكرية عبد الستار البيضاني :43 0
[3] ينظر الثنائيات عبد الستار البيضاني :74 0
[4] أنبياء الاهوار : نعيم عبد مهلهل :8 0
[5] ينظر أسلوبية القصة : 59 0
[6] أنبياء الاهوار : 43 0
[7] م0ن :/141 0
[8] م0ن : 176 0
[9] أنبياء الاهوار : 177 0