كلب ابن كلب.. قصّة قصيرة
سعيد نفّاع – أواسط أيلول 2021
خرجتْ زيارة المحامي لي بعد أيّام معدودات من دخولي الأسر، عن المألوف، حين أجبت على سؤاله عن حالي وأحوال السجن قائلًا: “هَ السجن ملآن كلاب أولاد كلاب”.
جاءني ردّهعبر السمّاعة معبّرا عن مفاجأته، إذ بانت على محيّاهغرابة رأيتها واضحة رغم الزجاج الفاصل بيننا وغير المتميّز بنظافته، فقد قال: “في كلاب يعني مش أولاد كلاب؟!”
تأكّدت من شكل ردّ المحامي أنّه فهم قولي أو اعتبرهموجّهًا في غير وجهته، فسارعت، دون أن أقصد تبرئةمن فهم هو أنّهمالمقصودون، قائلًا: “لا أبدًا… هنالك كلاب أولاد كلاب يشاركوننا الأسر”.
ورحت أروي له حكاية كلابي وبما معناه:
“كانت ليلتي الأولى مؤرَّقة. فالغرفة أو بتسميتها التركيّة على لسان الأسرى “القاووش” خانق. والبُرش الحديدي السارق الاسم من الفرش المصريّ المصنوع من الحصير،والمتّفق أنّ أسرى غزّة هم من جلبوا الاسم وأطلقوه على “أسرّة” السجن الأقرب فرشها إلى البرش المصريّ كيفيّة، فغلب الاسم غيرهمن الأسماء الفلسطينيّة، هذا البرشذو الطبقتين؛ العليا لصغار السنّ والسفلى للكبار أو ذوي الحاجات الخاصّة،ضيّقٌ.والفرشة رغم اسفنجيّتها رقيقة كالبرش لا تحمي عظامك من حديدهصلابة ولا من حرارته صيفًا ولا برودته شتاء في هذا السجن الغَوْريّ. والبطانيّات محشوّة بروائح شتّى يعجز أنفك عن التعرّف عليها وتمييزها. وسمفونيّة أنفاس سبعة معك في القاووش يعجز عن تشكّل نوتاتها بتهوفن…”
قاطعني:
“ما لهذا وللكلاب؟!”
لم ترُق لي عجلة المحامي، فأجبت:
“مش نحكي عن الكلاب أحسن ما نحكي عن اللي وراك ووراي برّة السجن، والكلاب معهم بألف خير؟!”
ردّ، وقد بانت على قسماته علامات تفهّم أو ربّما بلْعٍ لأقوال معفيّة من الملامة لسجين جديد ما زال جلّ كيانه برّة الأسر:
“على راحتك!”
كان واضحًا، أو على الأقل هكذا فهمت،أنّه لا يريد أن يكسر في خاطري أنا الأسير الجديد غير العاديّ الذي يجب أن يتمّ التعاطف معه وتفهّمه، وخصوصًا في أيّامه الأولى، وما قوله هذا “على راحتك” إلّا من هذا الباب. فتابعت:
“على مسافة حوالي المتر من شبّاك، أو ما يشبه شبّاك، القاووش الصغير والمُحكم التشبيك بالحديد الفولاذيّ، حائط من الزنك يعلوه مشبّك من الأسلاك الشائكة السكينيّة، ولا الشياطين تستطيع الاقتراب منها، وخلف الحائطمربض كلاب من كلّ صنف ونوعينبئك عنه النباح المتنوّعفهي لا تُرى، والمنطق يقول أن خلف الكلاب حائط آخر يفصلها عن الجدار الخارجي لا يُرى، كما الكلاب، من القاووش، ففي البعد ترى جدار السجن العالي وعليه تخشيبات الحرّاس ويعلوه هو الآخر كمّ من الأسلاك الشائكة السكّينيّةومثل سابقتها لا الشياطين،وزيادة لا الجان، تقربها.
المهمّ أن الكلاب أولئك أولاد الكلاب، يثورون نباحًا معًا ومرّات عدّة في الليل لا تبتعد المرّة عن لاحقتها كثيرًا، ونباحها من كلّ الأصناف، فيه العالي الأجشّ وفيه الانفجاريّ وفيه المبحوح وفيه المجهور وفيه الغليظ وفي الحاد وفيه وفيه… فلا يكفيك أرق القاووش ليأتيك ما يؤزّمه من الكلاب أولاد الكلاب أولئك… خلال ليلتي الليلاء تلك حسبت أنهم مدرّبون على ذلك، ولكن تبيّن لي أنّ سجّان كلب بن كلب قائم على ذلك وكلّ وظيفته هي مع الكلاب؛ طعامًا وتنظيفًا وإثارتهم ليلًا وساعة يشاء أو حسب تعليماتٍإقلاقًا للأسرى…”
لاحظ محاميّ أنّي توقفت عن الحديث وكان على ما يبدو تاه بين الكلاب أولاد الكلاب، فأيّهم هم الكلاب أولاد الكلاب؟! كلابي أم ما ظنّ أنّهم كلابي؟!
وراح محاميّ يحكي وسط ذهولي، إذ كنت عرفته محاميًا لبقًا لكن أبدًا لم أعرف أنّ في جعبته الكثير من غير المحاماة، فقال:
“في “طبقات الشافعيّة” لتاج الدين السبكي، يكتب: كنت مع أبي تقيّ الدين السبكي – عليّ بن عبد الكافي، فمرّ بنا كلب فقلت: “مُرّ… كلب بن كلب!”
نهاني والدي.
فقلت:”أليس كلب بن كلب؟”
فقال: رُوّينا (رُوي): “مرّ بسيّدنا عيسى خنزير فقال له: مُرّ بسلام حتّى لا يعوّد لسانه على الشرّ.”
وقف عند هذا وأنا المتوقّع تكملة… وساد صمت قطعه إعلان السجّان: “انتهت الزيارة!”.
اللقاء مع المحامي محدّد غير مفتوح وانتهى دقائق بعد إعلان السجّان ودون أن نحسم في أمر الكلاب، ومن هم الكلاب أولاد الكلاب؛ كلابي أم كلابه.
عدت إلى القاووش وظللت تائهًا بين “طبقات الشافعيّة” ردحًا ليس بقليل، ووجدتني بعد أخذ وردّ ورخي وشدّ، غير متّفق مع تقيّ الدين السبكي بل مع ابنه تاج الدين، ومع ما جال في رأس محاميّ عن الكلاب أولاد الكلاب، دون أن أنفي ما دار في رأسي.
ووجدتني أنطق ملء شدقيّوطالبًا العفو من المسيح (ع) ومن تقيّ الدين السبكي: “لا تلوموني،فحذوك النعل بالنعل!”