أنواع جديدة من الانتفاضة

د. أحمد رفيق عوض | فلسطين

اندلاع انتفاضة مسألة وقت ليس إلا أو هذا ما يقوله الاحتلال على الأقل، ذلك أن ممارسات الاحتلال في الأراضي الفلسطينية المحتلة تفوق الخيال، قتلا أو مصادرة أو حصارا أو إغلاقا أو تنكرا للحقوق أو حتى للوجود. لهذا، فإن تأخير هذه الانتفاضة هو ما تحاول سلطات الاحتلال أن تقوم به من خلال ما تسميه “تنازلات” أو “حسن نوايا”، وكأن ما يقدمه الاحتلال انما هو مكرمة وليس استحقاقا.

العجيب في هذا أن اتفاق أوسلو – وعلى عكس ما كان الجميع يتوقع- لم يخفف من حدة الاشتباك ولم يهدئ من روع الاطراف او مخاوفها، بل ان هذه المخاوف زادت وتعمقت الى درجة ان هذه المواجهات وطولها وكلفتها وخسائرها وآثارها زادت بشكل كبير. ذلك ان اتفاق اوسلو قرأ من جهتين وفسر على وجهين. ولكن هذا ليس موضوعنا. اما موضوعنا فإن الشعب الفلسطيني الذي اكتوى بنار الانتفاضة الثانية التي تم عسكرتها بسرعة وذهبت في اتجاهات عديدة ادخلتها في ارباكات واسئلة صعبة ومواجهات محرجة، قد طور بعدها اساليب جديدة للتعبير عن الرفض والمقاومة. وهي أساليب جديدة اخترعت لتقليل الخسائر وحصر النتائج وتعميق الأثر، وهي وسائل أرادت نيل الموافقة الإقليمية والدولية، وهدفت إلى إحراج الاحتلال ونزع الشرعية عنه، وتجنيد الأصدقاء والحلفاء، وكذلك هدفت إلى عدم التشويش على الحياة العامة للمجتمع الفلسطيني، كما لم ترغب بإحراج أي طرف محلي أو دولي، الأساليب المقصودة هي أساليب تم اللجوء اليها دون مسبق في كثير من الأحيان، وتقصد ومنهج وقرار في أحيان اخرى. ويمكن حصر هذه الأساليب بما يلي:

أولاً: المواجهة المستمرة والطويلة للاستيطان في بؤر وأماكن محددة يتم تجنيد الجمهور والأصدقاء والإعلام المحلي والدولي من أجل إنجاحها وتعميمها، هذا النوع من الانتفاضات كان جديدا وقد أتى أكله ببطء ولكن بثبات. وهو أسلوب ذو إثر في تجنيد وإبقاء الوعي والاستعداد جاهزاً، كما إنه أسلوب قادر على التجنيد الخارجي والدعم الدولي، وما تزال نعلين وكفر قدوم أمثلة حية على ذلك.

ثانياً: الاعتصامات وإقامة الخيام والإضراب عن الطعام وهي أساليب جديدة لجأ اليها الشعب الفلسطيني من أجل لفت النظر وتعبئة الجمهور والضغط على صناع القرار وتجنيد الرأي العام العالمي والعربي، والإسناد الوجداني للأسرى بالذات.

ثالثاً: العمليات الفردية التي بدأت تقريبا منذ عام ٢٠١٥ وهي تختلف عن العمليات الاستشهادية التي اختلف عليها الفلسطينيون في حينه وخصوصا بعد تفجيري برجي نيويورك. العمليات الفردية هي ردود أفعال لتردي الأوضاع وانسداد الآفاق والإحساس العظيم بالذل والمهانة. ويخطئ المحتل إذا ادعى أن هذه العمليات هي نتاج اليأس الشخصي أو الإحباط الذاتي، فهي برأينا نتاج حالة تاريخية بالغة الرداءة والسوء بسبب وحشية المحتل.

رابعا: تكاثر الوجود المسلح دون ارتباطات تنظيمية أو مراجع سياسية تثقل هذا الوجود أو حتى تضبطه إلى حد كبير، وعلى الرغم من أن المحتل أراد إغراق الضفة المحتلة بالأسلحة من خلال غض بصره عن الفتحات في جدار الفصل، رغبة من هذا المحتل في أن تزداد الجريمة والعنف في المجتمع الفلسطيني ودفعا منه للاقتتال بين العائلات والعشائر. إن تزايد ظاهرة المسلحين في الضفة المحتلة يقطع على المحتل هذا الأمر من جهة ولوعي العائلات الفلسطينية وانتمائها الوطني من جهة أخرى.

خامساً: مسيرات العودة التي بدأت في قطاع غزة واستمرت لمدة عام كامل تقريباً (٢٠١٩-٢٠٢٠) مع ما صاحبها من انشطة تمارس لأول مرة مثل البالونات والإرباك الليلي واحراق الكاوشوك، وهذا أسلوب يمارس أيضا لأول مرة، في طول المدة وتعدد الأساليب والأنشطة وللأثر الذي أحدثته.

سادساً: المسيرات الجماهيرية الاسبوعية او المنظمة من قبل القوى والفصائل الوطنية، وهو الشكل المعهود والمعروف والذي مارسه الشعب الفلسطيني دائما، والذي ينتهي بالاشتباك مع المحتل وقد يصحبه سقوط شهداء.

يجب القول هنا إن ما يجري في الأراضي الفلسطينية المحتلة هو انتفاضة من نوع آخر، هي ليست الانتفاضة الجماهيرية كما عرفناها، لأسباب انقسام الشارع والاختلاف على الشعار والهدف ولتغير أولويات الجمهور ولكنها اشتباك مع الاحتلال بشكل يكاد يكون يومي، انتفاضة ليست كما يريدها المحتل، وليست على مقاسه، لا مضموناً ولا توقيتاً ولا نضجاً. الانتفاضة الحالية، هادئة، متموجة، مؤثرة، مفاجئة، فإذا اضفنا إلى ذلك ما تقوم به قوات الأمن الوطني من اعتراض لدوريات الاحتلال في بعض الأحيان، فإننا أمام حالة اشتباكية قد تتطور إلى ما لا نعرف خصوصا إن الاحتلال لم يتوقف لحظة واحدة عن استباحة كل شيء فلسطيني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى