عن الدولة الواحدة
نهاد أبو غوش | فلسطين
اللوحة للفنان المصري محمد رضوان
نسمع من حين لآخر من مسؤولين وكتاب ومحللين وقادة سياسيين وغيرهم كلاما واثقا عن موت حل الدولتين، وأنه لم يبق أمامنا سوى خيار الدولة الواحدة. يطرح البعض ذلك من باب “التفضيل” وكأن المطلوب من الشعب الفلسطيني أن ينتقي ويختار ما يناسبه من بين عدة بدائل مطروحة، وأحيانا يطرح ذلك بوصفه ممرا إجباريا لم يعد أمامنا سواه في ضوء تدمير إسرائيل المنهجي والمتواصل لفرص قيام الدولة الفلسطينية المستقلة القابلة للحياة، في حين أن بعض السياسيين يرون في حلّ الدولة الواحدة من النهر إلى البحر تجسيدا للشعار القديم عن تحرير كامل التراب الفلسطيني.
وليس سرّا أن بعض الناشطين من المنتمين الحاليين والسابقين، لعدد من الفصائل الفلسطينية، يتبنون هذه الفكرة ضمن منابر وملتقيات هي أشبه بالحراكات العلنية، ولكنها ليست منتظمة ودائمة النشاط، وسبق الإعلان قبل سنوات عن حراك عريض بهذا الاتجاه ضمّ في حينه عددا من اليهود الإسرائيليين المناوئين للاحتلال، ولكننا لم نعد نسمع كثيرا عن ذلك الحراك، مع أن أفكاره تطرح بشكل فردي من وقت لآخر.
لا بأس في ذلك، ولا ضرر ولا ضرار، مما سبق طالما أنه يأتي ضمن حرية الرأي والتفكير والاعتقاد، وحق الاجتهاد المكفول لأي شخص في أي نظام تعددي، والحياة السياسية الفلسطينية كانت على امتداد تاريخها تتيح مثل هذه التعددية والاجتهادات التي تشمل مروحة واسعة من الآراء من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.
لكن الغريب أن تأتي هذه الطروحات من قبل مسؤولين يتقلدون مناصب قيادية عليا، وكان الأحرى بهم أن يطرحوا هذه الآراء في الهيئات والمؤسسات التي انتدبتهم لمواقعهم ومناصبهم المسؤولة، ففكرة على هذه الدرجة من الأهمية والخطورة لا ينبغي لها أن تأتي على طريقة الشطحة الفكرية، أو التفكير بصوت عال، أو تبدو كأنها طرح مناكف لإسرائيل على طريقة “الجكر” الفلسطيني، بل ينبغي أن تخضع لنقاش معمق، وأن تحتكم لرأي المؤسسات المسؤولة، وقبل ذلك أن تقدم إجابة مقنعة عن كل الأسئلة التي يثيرها هذا الموضوع.
من الضروري الإشارة إلى أن أيا من الهيئات القيادية المسؤولة في منظمة التحرير الفلسطينية، لم تبحث خيار حل الدولة الواحدة، فلا المجلس الوطني ولا المركزي ولا اللجنة التنفيذية للمنظمة ناقشت هذا الأمر أو أصدرت موقفا بشأنه، حتى الفصائل المختلفة لم تفعل ذلك، سواء من كان مشاركا منها في هيئات منظمة التحرير أو ما زال خارجها، وليست بعيدة دورة المجلس المركزي الثالثة والعشرين (نيسان- أيار 2018) التي أعادت التأكيد على ثوابت الموقف الوطني، ومن ضمنها قيام الدولة الفلسطينية بعاصمتها القدس في حدود الرابع من حزيران عام 1967، علما بأن الأفكار بشأن الدولة الواحدة كانت مطروحة وعلنية في فترة انعقاد هذه الدورة، كما أن خطر الاستيطان وتدمير فرص قيام الدولة المستقلة كانت واضحة أيضا من دون أي لبس أو أوهام.
تتمثل المشكلة الرئيسية عند طرح خيار الدولة الواحدة في التسليم المسبق بالهزيمة من قِبل مشروع الاحتلال الاستيطاني الكولونيالي، قَبل أن تتحقق هذه الهزيمة فعلا، ومن دون أن يستنفر الفلسطيني كل أسلحته وأدواته وطاقاته الكامنة، وقبل أن يُفعّل عناصر القوة المُعطّلة والتي يمكن استنهاضها على قاعدة الوحدة الوطنية، واعتماد استراتيجية وطنية موحدة. بل إن هذا الطرح يأتي في ضوء تضارب الخيارات وتنافرها، بحيث أن لكل فصيل برنامجه الخاص به واستراتيجيته، ومسارات النضال القائمة من مقاومة بكل أشكالها، وجهد دبلوماسي وسياسي وقانوني، يطرحها كل طرف على انفراد ومن دون الحد الأدنى من التكامل والتنسيق بينها.
أما المشكلة الثانية، فهي تتمثل في مآل المكانة القانونية والسياسية لدولة فلسطين التي اعترفت بها الأمم المتحدة كدولة غير عضو، واعترفت بها نحو مئة وأربعين دولة، وما هو مصير قرارات الأمم المتحدة التي تؤكد على حق قيام الدولة الفلسطينية، وهل سنتخلى عن كل هذه القرارات التي كانت وما زالت سلاحا سياسيا وقانونيا وأدبيا وأخلاقيا بيد الفلسطينيين، لكي نقفز بعدها في الفراغ؟
ما الذي يستدعيه طرح خيار الدولة الواحدة إذن؟ وما الذي ينبغي أن تشتقه الفصائل والاتحادات الشعبية والمؤسسات السياسية من هذا الخيار في برامج عملها اليومي؟ أم أن خيار الدولة الواحدة هي فكرة ألمعية خطرت في بال أحد المسؤولين، من شأنها أن تحرج إسرائيل، بينما على القوى والهيئات الشعبية أن تواصل عملها وحياتها كالمعتاد كأن شيئا لم يكن؟
وهل يعني خيار الدولة الواحدة التسليم بالوجود الاستيطاني وبرامجه الزاحفة بما في ذلك مخطط الضم وتهويد القدس؟ وما الفائدة من مواجهة هذا المخطط طالما أن مصيرنا ومصير الاستيطان واحد في المستقبل ضمن دولة واحدة؟
المؤكد أن حديث الدولة الواحدة لا يقود تلقائيا إلى دولة الحقوق والواجبات المتساوية، أو دولة المواطنة بصرف النظر عن دين المواطنين وهويتهم القومية والإثنية، بل عمليا إلى دولة التمييز العنصري (الأبارتهايد) حيث تنظر دولة إسرائيل للشعب الفلسطيني باعتباره مشكلة ديمغرافية وأمنية، وليس شعبا جارا، أو ندّا مكافئا في عملية سلام. وما تجاهُل رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت للفلسطينيين في خطابه الأخير إلا تجسيد لهذه النظرة، التي كرّسها قبل ذلك قانون القومية العنصري حين حصر حق تقرير المصير في “أرض إسرائيل” بالشعب اليهودي. ومن يتابع الطروحات الإسرائيلية في السنوات الأخيرة، سواء من السياسيين أو مراكز الدراسات، يلحظ مجموعة من البدائل والحلول المقترحة التي تُكرّس التمييز العنصري وانعدام المساواة من قبيل “دولة واحدة بنظامين” أو “دولة في غزة ولها سلطة على سكان الضفة”.
خيار الدولة الواحدة ليس مطروحا على أجندة العالم، ولن تقبله إسرائيل طواعية قبل هزيمة ودحر مشروعها التاريخي، وبالتالي فإن طرحه الآن بديلا لبرنامج الدولة الفلسطينية المستقلة وكاملة السيادة بعاصمتها القدس، ليس أكثر من هروب إلى المجهول.