« دورين سعد » شاعرةُ القصيدة الحُلم
د. وافية حملاوي | أستاذ محاضر بقسم اللغة والأدب العربي- جامعة العربي بن مهيدي- أم البواقي – الجزائر
حين نكون أمام نصٍ أنثوي، نكون أمام نصٍ مختلف، نصٌ يقف خلفه إنسان آخر، ذاتٌ أخرى باختلافاتها ومميّزاتها، تجربة من أقاليم الكتابة النّسوية المُمَيّزة في التّفكير والشّعور وإدراك الذّات والعالم الخارجي.
لِلُغة الأنثى ومعالمها سحر خاص، يتجلّى في المنطوق (الحكي) والمكتوب، وكأنّ “شهرزاد” تعيش داخل كل أنثى، تضفي من سحرها وعبقها على الكلمات والمدلولات، وكأنهّا تتصدّى وبكلّ قوّة لأولئك الذّين قالوا: بأن ليس للأنثى أيّ نصيب من همسات شيطان الشّعر، بوصفها كائنا ناقصا -هذا في نظرهم طبعا-.
تشتغل نصوص الشّاعرة “دورين سعد” على فضاءات تمتاز بالتعدّد والتّشابك الدّلالي، حيث تختلق عالمها الشّعري المشحون بالرّموز والإيحاءات، وأنت واقف أمام قصائدها تستشعر تلك الرّغبة الملّحة في البوح بمكنوناتها ومحمولاتها، وكأنهّا جعبة تتخبط لتلقي بما فيها، مشكلة بذلك فضاءها الفيّاض الذّي يتأرجح بين الرّقة والأناقة والجمال.
فبين نجمة معلّقة في السّماء وحكاية تروى على الأرض، تسير الشّاعرة ظمأى تفتّش عن ذاتها، عن القصيدة، هذه الأخيرة التي تتشكّل داخلها تماما كما يتشكّل الجنين، تخلق ثم تنمو شيئا فشيئا إلى أن تصل لحظة الولادة، وكلّما دنت هذه اللحظة أحسّت الشّاعرة بلذّة قاتلة، فتتحوّل القصيدة من مجرّد كلمات إلى كيان بأكمله، تلقي بظلالها على الشّاعرة، فتمنحها الرّغبة في الحياة.
إنّ أيّة ولادة مبشّرة لأمّة من الأمم تأتي حين يصل الخراب فيها إلى أقصى مستوى، وهذه إحدى النّواميس الكونية، ففي التّاريخ عبر وتجارب مستخلصة ومجرّبة في هذا السياق، فكما قال هيجل: (إنّ الحروب بقدر ما تخلفه من مآس تكون بمثابة محرّض باطني عنيف للشّعور، ولإعادة تصحيح المسار والإبصار مجدّدا). وهذا ما حاولت شاعرتنا فعله، محاولة الانبعاث من جديد من قلب الحطام.
إن المتمعّن فيما تكتبه الشّاعرة لن يخفى عليه مدى اهتمامها بالزّمن الذّي يشكّل أحد الأبعاد المهمّة في حياتنا، فما قيمة ما نعيشه دون أن نربطه بالزّمن؟
بالنّسبة للشّاعرة يتلخّص الزّمن برمّته في تلك اللّحظة الآسرة، ألا وهي لحظة “الكتابة” فالشّاعرة هي خالقة تجربتها، تعاني إلى حين اكتمال قصائدها، تعاني في معانيها وأخيلتها وصورها وإيقاعاتها، ذلك أن التّجربة الشّعرية عبء ومشقّة وجهد، فهي لا تكتمل إلا بتعمّق صاحبتها في الحياة وسبر أغوارها وأسرارها.
يمكن تلخيص كتابات الشّاعرة في ثنائيّة (القصيدة/الحلم)؛ فالقصيدة هي مرادف للحلم، عالم آخر لا يشبه عالمنا، تتداخل فيه كل المفهومات، عالم لا يدرك كنهه إلاّ من عايشه وفكّ رموزه وملك عليه نفسه. اللّحظة الهاربة هي تلك اللّحظة التي تكتب فيها القصيدة، هي لحظة التقاء الحلم بالحقيقة، لحظة تتجرد فيها الشّاعرة من كلّ شيء إلاّ من حروف أبجديتها، تبحث عن طقوس جديدة للكتابة، لا تشبه تلك التي عرفتها فلم تعد تستهويها القصائد المزيّفة المنمّقة، فالصّدق هو كل ما تبحث عنه، صدق الصّوفي وصفاء روحه وتدفّق كلماته، تماما كالناّفورة التي تتدفّق بما يوضع فيها، فها هي تقول:
(دعيني:
أمارس فنون الكتابة على طريقتي،
تعبت من تنميق العبارة ومن دلال القصيدة…
تعبت من رعشة الأنامل ومن التّفكير في الحروف
أنا لا أريد قصيدة أرستقراطية
تحلق فوق الغيوم…
أريدها بدويّة الألفاظ،
تهدهد حزنا يرافقني منذ الطّفولة،
وتبحث معي عن ضحكة معلّقة فوق السّطوح).
بَنَت الشّاعرة قصائدها على معجم الحلم الذي يقابل معجم “الواقع”، أولسنا نتدثّر بعباءة الحلم هروبا من واقع مرير نعيشه؛ “لبنان” وطن الشّاعرة الجريح يئنّ تحت وطء قسوة الزّمان، وطن (فرشوا صدره بالمسامير) على حد قول الشّاعرة، ففي قصيدتها ” على ضوء الحلم” تغنيّ الشّاعرة لحن الخلود على وقع وطن مجروح، ترقص جذلى كطائر نورس حطَّ على حطام مركب يشقّ عباب البحر، بحثا عن الحريّة و الانعتاق، ففي اتّساع رقعة القلق في ذاكرة الشّاعرة و تنامي الفجيعة، تتفجر اللّغة و تتمخض عن معاناة مركزّة و كلمات ملغّمة، ذلك أن الشّعر يقوم على التّكثيف ممّا يجعل من القصيدة مشروعا خصبا تتأتّى قوتّه من معانيه و أنسجته اللّغوية.
أصوات كثيرة تحاصر الشّاعرة: صوت الوطن، صوت الذّات، وخاصّة تلك الأصوات المنفلتة من الماضي، من طفولة متعبة مازالت إلى اليوم تتردّد في ذاكرتها وترسم لحظة حياتها.
“قصيدة (في عينيها)” من أكثر القصائد التي وشت لنا بذلك الحزن الذي يتملّك الشّاعرة والذّي يأبى المغادرة، حنين إلى الماضي، وإلى أيام خلت، وإلى أشخاص شدّت روحها الرّحال إليهم تقول:
(كنت أبحث عنه في عينيها
لعلّني أقع على آخر صورة له
خبّأتها في غفلة عنّي…
فيما كنت أتلعثم بأوّل الكلمات…
(…)
أبحث عنه في عينيها
لعلنّي أجد نثرة من ظله
أو قطرة من حنانه
(…)
فأنا لا أريد أن أعانقه
ولا أن أمسك بيديه
صدره الدّافئ ما عاد لي
وجهه ما عاد يوقظ حلمي).
لا تكف مشاعر “دورين سعد” عن التّدفق دفقة تلو الأخرى، راسمة لوحات فنية وفسيفساء من الصّور والأخيلة والعواطف، لها قدرة عجيبة على تجاوز المألوف والإنصات إلى الصّوت الدّاخلي وإلى تحوّلات المفردة، حيث تنتج دلالات جديدة بمفردها أو بانسجامها مع مفردات أخرى في السّياق ذاته، فالشّاعرة كفيلة بالكشف عن أبعادها الخفيّة وإضاءتها وإخراجها إلى النّور في شكل منجز شعريّ مميّز ومتفرّد.
تُسلم الشّاعرة نفسها لموج الإلهام، يُهَدْهِدُها كما يشاء، يناجيها وتناجيه إلى أن تولد قصيدتها، وقد صورت الشّاعرة هذا المولود الإبداعي بوصف في غاية الدّقة والبهاء، تقول: (الغراب هو من يكتب القصيدة فتساقطت ظلا كالتماعة برق في حضن المطر)
تصوير رائع، صحيح أنه جمع بين متناقضات عدّة، لكنّه في قمّة الانسجام والتّناغم، وهذه هي فعلا حقيقة القصيدة، التي لطالما شبّهتها بكائن خرافيّ، جمع بين مواصفات كائنات عديدة، لكن روحه هي روح الشّاعر الذي يكتب بصدق.
هذه هي إذن الشّاعرة “دورين سعد” شاعرة لها عالمها الخاصّ الذّي يُسائل الجمال والإنسان والوطن، تتقن الإخفاء أكثر من البوح، لها تقنية دراميّة تجذبك إلى اللاّحق المتعلّق بالسّابق، والأجمل من هذا وذاك أنهّا لا تتصنّع اللّغة، فهي أشبه ما تكون بطينة بين يديها، تشكّلها كيفما تشاء، وتبثّ فيها من ذاتها ومشاعرها وصدقها.