للصيرة حكاية.. وللباطنة حكايات
بسام الخفاجي | العراق- النرويج
قرأت قبل فترة قليلة رواية للأديب العماني الدكتور سعيد السيابي (الصيرة تحكي)، التي تتحدث عن فترة الاحتلال البرتغالي لإحدى المدن العمانية (قريات) في الفترة الممتدة ما بين عامي 1506 _ 1648 ميلادي. وقررت حينها كتابة بحث أكاديمي عنها، وفعلا باشرت بالكتابة. وفي تلك الأثناء داهم سلطنة عمان ضيف ثقيل، كثقل البرتغاليين، وهو إعصار (شاهين)، الذي خلّف آثارا جسيمة على المستويين المادي والمعنوي. لحد هنا والأمر لا يعدو كونه ظاهرة طبيعية تُصيب أغلب بلدان العالم تُخلف الدمار. ولكن مما جعل قلمي يسيل لعابه، ويغيّر بوصلته قليلا كمجرى نهر غيّر طريقه ليروي حكاية جديدة مبهرة تُشبه حكاية الصّيرة، هي وقفة أهل عمان المشرّفة تجاه وطنهم وأهلهم.
في وقت قلّما يشاهد المرء فيه شيئا يُثلج الصدر، ويبدد جزءا من ظلام العالم، أعطى الموقف النبيل لأبناء عمان تجاه اخوتهم في الباطنة، أملا ودرسا بليغا في التعاطي الوطني والإنساني مع الأزمات. إن ما رأيناه من تسابق الناس صغيرهم وكبيرهم لمد يد العون لأهلهم واخوتهم من أبناء الوطن الواحد، هو نبل إنساني تتوحد فيه البشرية التي تتصف بالنقاء وبالتربية الصالحة. وتذكرت حينها قول الشاعر العراقي بدر شاكر السياب في قصيدته (سفر أيوب)، التي يحمد فيها الله على المصائب والرزايا؛ لأن جوهرها عطاء وكرم، فيقول:
لك الحمد مهما استطال البلاء
ومهما استبد الألم
لك الحمد، إن الرزايا عطاء
وإن المصيبات بعض الكرم
لك الحمد، إن الرزايا ندى
وإن الجراح هدايا الحبيب
أضم إلى الصدر باقاتها
هداياك في خافقي لا تغيب
هداياك مقبولة، هاتها!
أشد جراحي وأهتف بالعائدين:
ألا فانظروا واحسدوني، فهذي هدايا حبيبي! ([1])
حوّل العمانيون بوقفتهم وهبتهم، رزاياهم إلى عطاء، ومصائبهم إلى دروس في التكافل الاجتماعي والإنساني.
من يُشاهد ويسمع هبة أهالي عمان، يسمع جليا صدى كلمات السياب. فالمصائب والرزايا عطايا؛ لأنها تتغلغل داخل الوجدان الإنساني وتهزه؛ لتخرج كل ما فيه من خير أو شر.
ما نراه اليوم، لوحة إنسانية كبيرة في بقعة صغيرة من العالم، رسمتها المشاعر الصادقة وحب العطاء.
بين الصيرة والباطنة خيط يشد بعضه بعضا، ممتد لقرون أزلية، وهو أن كلاهما تعرضتا لابتلاء كبير، وامتحان عسير، تمثل في الأولى الغزو البرتغالي، وفي الثانية غزو الطبيعة. لكنهما اجتمعتا في وحدة الرد. وقفت الأرض ومن عليها جنبا إلى جنب متكاتفين، وكأنهما يدحران عدوا واحدا يريد سلب الأرض والحرية.
في الحكاية الأولى (الصيرة تحكي)، نلمس خيال الكاتب يسرح هنا وهناك_ وهي ميزة الأدب_؛ ليحاول الولوج إلى مناطق مخفية في النفس الإنسانية تحت وطأة الاحتلال لم تقدر كتب التاريخ رؤيتها وتدوينها. فيدون المضمر من الحكاية، مادا عنق الخيال تحت أستار الواقعة.
بينما في حكايات الباطنة، الحوادث مرئية ومشاهدة وواقعيتها تفوق الخيال خصبا؛ لأن الوسائل الحديثة كالتلفاز ووسائل التواصل الاجتماعي، رصدت لحظات الألم والمعاناة لبعض الناس بشكل حقيقي. وعلى الرغم من هذا تبقى هناك أماكن في النفس البشرية عصية على أي وسيلة حديثة رصدها. لذا نحتاج إلى حكايات أخرى تستمد جذورها من الواقع، وتلج الأماكن المغلقة بخيال أديب؛ علّنا نستطيع تصور هول المشهد والمعاناة.
أما بالنسبة لأبطال حكاية الصيرة، فهم مختلطون بين الواقعي والمتخيل. أما حكايات الباطنة، فأبطالها حقيقيون وافعالهم ماثلة أمام العيان، نراهم بأعيننا كيف يدحرون خراب الإعصار بنفوس حرة أبية. وكأنهم يتمتمون في نفوسهم قول الأستاذ لطالبه في رواية (الصيرة تحكي) ” الحرية ملاذ ومنتهى، وتغيير للأفضل، وتعليم مستمر وذاكرة حيوية، ومصلحة جماعية، وخير عميم، متى ما صادفت عقلا مدبرا يوازن بين الأنا الذاتية، والفردية المجنونة، إلى التشاركية المخلصة، والتوازنات الكثيرة المربحة للجماعة الإنسانية التي يقودها، وينقذها من الأمواج العاتية والمتقلبة، فالنتيجة راحة مستمرة، وتعاون وتكافل، وانتصار على المواقف والصعوبات، والهموم الطارئة”([2]). فالشعوب الحرة لا يقهرها إعصار، ولا تهزها رياح عاتية.
المؤرخون يكتبون الحوادث ويؤرخونها للأجيال بلغة التوثيق. لكن الأديب يكتبها بلغة أخرى مختلفة. فهو يرسم لنا بخياله المشاعر الإنسانية المخبوءة لحظة اشتعالها وتوهجها، واقترانها باللحظة الواقعية، فيصور بكلماته تلك اللحظة ويمزجها بين لحظتها الواقعية والفنية.
نحتاج لحكايات أخرى شبيهة بحكاية الصيرة، تؤرخ تلك اللحظة بلغة الأديب؛ حتى تعلق في ذاكرة الأجيال درسا لن ينسوه.
فعندما كتب السيابي روايته الجميلة (الصيرة تحكي)، أشعرك بأنك متوغل في القدم، ابن ذاك الزمن، تنتمي لأرضه. تحمل السلاح مع المقاومين. سلاحك دقات قلبك المنفعلة والمتسارعة مع الحدث. ليس لأنك تنتمي إلى ذات الأرض؛ ولكنك تشربت الحقيقة عن طريق البحث والتقصي الموضوعي. فاستطاع السيابي ادهاشنا وادخالنا في دائرة الانفعال والتفاعل؛ لأننا وجدنا الأرض تحكي وتدافع، وتشد أزر أبناءها، وهي كذلك تفعل اليوم.
ماذا يُجبر شيخا كبيرا يأتي من أقاصي البلاد؛ ليمد يد العون والمساعدة؟ وماذا يُقلق ذلك الشاب، الذي يندفع ملبيا نداء خفيا بأن هناك من لا سكن ولا مأوى لهم.
إنها تربية ونبل إنساني مغروس قديم منذ الأزل. أولئك الذين جسدوا الدرس الإنساني في العطاء والبذل، مثلما جسده غيرهم في أقطار وأزمان أخرى. تلك بشارة بأن البلد الطيب يخرج نباته طيبا بإذن ربه، ويستحيل على الزمن والمصائب أن تكسره.
كأن أهل عمان سمعوا وصية ذلك الرجل العماني المناضل، حيث قال ” وصيتي هذه الأرض أن تضعوها في عيونكم، فمنها الخير الذي أنتم فيه، ولمن سبقنا من الآباء، أحبوا صخوركم الصلدة، وترابكم القليل؛ لأن بدونها، لن تكون أرضكم، وبدون أرض لا حرية”([3]).
نم أيها الشيخ قرير العين، فأبناؤك وأحفادك جديرون بحفظ هذه الأرض ومن عليها، ما داموا متكاتفين ومتراحمين.