سماء الفينيق وأنين الأشقاء
جميل السلحوت | أديب مقدسي
صدر عام 2017 عن وزارة الثّقافة الفلسطينيّة كتاب” سماء الفينيق” للأديب الأردنيّ مفلح العدوان، ويقع الكتاب الذي قدّم له دولة الدّكتور خالد الكركي وباسم سكجها في 128 صفحة.
بداية يجدر التّنويه أنّ الأديب مفلح العدوان أديب وفنّان تشكيليّ أردنيّ صدرت له مؤلّفات عديدة في القصّة والرّواية والمسرح والبحث.
القارئ لهذا الكتاب سيتأكّد من جديد أنّ القضيّة الفلسطينيّة قضيّة الشّعوب العربيّة الأولى. تماما مثلما هي فلسطين والأردنّ توأمان سياميّان لا ينفصلان، فمن القدس ورام الله يطلّ المرء على المرتفعات الشّرقيّة لنهر الأردن، ويرى جبال مؤاب التي تحيط بالبحر الميّت من جهته الجنوبيّة، ومن مدينة أريحا ومنطقة الأغوار يرى شرق النّهر الذي سُرقت مياهه، ويرى البلدات الأردنيّة من الشّونة الشّماليّة حتّى أمّ قيس، ويرى مرتفعات السّلط التي تمتدّ قمّتها لتتربّع عليها عمّان العاصمة. لكنّه قبل هذا وذاك يقف خاشعا أمام قبور شهداء الجيش العربيّ الأردنيّ الذين ارتقوا سلّم المجد دفاعا عن القدس ومقدّساتها، وقرى اللطرون في منتصف الطّريق بين القدس ويافا، وفي مختلف مدن وبلدات وجبال شرق فلسطين التي باتت بعد النّكبة الأولى تعرف بالضّفّة الغربيّة، لتبقى أرواحهم ترفرف في فضاء المسجد الأقصى وكنيسة القيامة.
وإذا كان شاطئ بحيرة طبريّا الشّرقيّ يمتدّ شمالا إلى الخالصة وإلى سلسلة جبال الجرمق حيث مثلّث الحدود الفلسطينيّة اللبنانيّة السّوريّة، فإنّ حدود الأردنّ وفلسطين تمتدّ من منطقة الحّمة شمالا لتتواصل إلى أمّ الرّشراش التي تقابل مدينة العقبة الأردنيّة مرورا بالبحر الميّت، ويحضرني هنا ما سمعته من الزّجال الشّعبيّ المرحوم أبو سعود الأسدي ابن قرية دير الأسد الواقعة بين مدينتي عكّا وصفد في بداية سبعينات القرن العشرين عندما قال بأسى ولوعة:” كنّا نتناول فطورنا في عكّا أو حيفا، ونتغدّى في دمشق، ونتناول عشاءنا ونسهر في بيروت ونعود إلى بيوتنا في يوم واحد.”
وفي كلامه هذا إشارة إلى أنّ بلاد الشّام قبل نكبة الشّعب الفلسطينيّ، وقبل أن يتقاسمها المستعمرون الإنجليز والفرنسيّون ويقسّمونها إلى أقطار حسب اتّفاقيّة سايكس بيكو بلاد واحدة.
أمّا أنا المولود عام 1949 في جبل المكبّر-القدس، فأقول لقد كانت بعض مدارسنا، ومنها مدرستي الثّانويّة “المعهد العلمي الإسلامي” أصبح اسمها بعد احتلال عام 1967 ثانويّة الأقصى الشّرعيّة” تقوم برحلات مدرسيّة إلى الضّفّة الشّرقيّة، وفي ربيع العام 1966 ذهبنا في رحلة لمدّة أربعة أيّام، نمنا في الليلة الأولى في دار المعلّمين في عجلون، وفي الليلة الثّانية في مدرسة وادي موسى عند مدخل البتراءـ وفي الليلة الثّالثة نمنا في مدرسة في مدينة العقبة. وفي الليلة الرّابعة نمنا في بيوتنا. ونصف طلّاب هذه المدرسة تقريبا كانوا من الضّفّة الشّرقيّة ومن قرى مدينة اربد تحديدا، وكان معلّم مادة “الفقه الإسلامي” المرحوم ياسين أحمد ابراهيم من منطقة اربد أيضا. وقبل احتلال عام 1967 كان المئات من أبناء بلدتنا مع أسرهم يعملون في مختلف الوظائف والمهن في الأردنّ ويعيشون فيه، وبقوا فيه.
وقبل النّكبة وما تبعها من احتلالات كان اندماج ومصاهرة بين الشّعبين، فمواطنو شرق النّهر كانوا يؤمّون القدس للصّلاة في مسجدها الأقصى، والتسوّق من أسواقها هي والمدن الفلسطينيّة الأخرى، والعكس صحيح أيضا. وعلى سبيل المثال تزوّجت -خلال ثلاثة أجيال- مئة وثمانون امرأة من عشائر العبادي الأردنيّة في عشائر عرب السّواحرة التي أنتمي إليها وأسماؤهنّ مسجّلة كما أخبرني بذلك المحامي عاهد العبّادي الذي التقيته عام 2010 في عمّان، وتزوّجت عشرات النّساء من عشائرنا من أردنيّين. وهناك من ينحدرون من أصول أصول أردنيّة ما زالوا يعيشون في أملاكهم في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة، ورفضوا النّزوح عنها عندما وقعت تحت الاحتلال.
وبعد النّكبة والنّكسة اندمج الطّرفان، وما عاد الزّائر للأردنّ يميّز بين الفلسطينيّ والأردنيّ إلا إذا كان خبيرا بأسماء العائلات.
وعودة إلى أديبنا مفلح العدوان الذي زار الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة، واستقبله عند استراحة أريحا ثلاثة من المبدعين الفلسطينيّين هم سامح خضر، زياد خدّاش ويوسف الشّايب، والعدوان يبثّ لواعج قلبه وعقله في رائعته “سماء الفينيق” مسجّلا بلغة أدبيّة جميلة بليغة، وبسرد روائيّ سلس تطغى عليه العاطفة الصّادقة التي أكسبته تشويقا جارفا عمّا رآه، وعمّا شعر ويشعر به في زيارته للجزء المتاح من بلده فلسطين المحتلّة. فتعود به الذّاكرة إلى مقهى حنّا السّريانيّ في الأغوار، ويلتهم معالم البلاد بعينيه وهو يجوب شوارع رام الله ويقف أمام ضريح محمود درويش، ويزور بيت لحم وكنيسة المهد في بيت لحم، وفي الخليل يشاهد بعينيه كيفيّة تقسيم الحرم الإبراهيمي، ويبوح بلوعته عندما أوقفته حواجز المحتلّين عند معبر قلنديا ومنعته من دخول القدس، ومن زيارة مقدّساتها الإسلاميّة والمسيحيّة.
وللأديب مفلح العدوان أقول: في زيارتك هذه، ومن خلال ما كتبت تأكيد قويّ على انتمائك العروبيّ الأصيل، وننتظرك أنت وأبناء العروبة في زيارة لفلسطين المحرّرة من الاحتلال وموبقاته، لتحلّوا ضيوفا علينا معزّزين مكرّمين، ولتتجوّلوا بحرّيّة تامّة في فلسطينكم، ولتنعموا في مقدّساتها وجمالها وخيراتها، وما هؤلاء المحتلون إلا “عابرون في كلام عابر” كما قال العظيم محمود درويش. ومصيرهم مزابل التّاريخ كسابقيهم من الغزاة والمستمعرين هم ومن تواطأ معهم من المتصهينين العجم والعرب.
أخي مفلح: لا نتمنّى الاحتلال لأيّ بلد في العالم، فالاحتلال يمثّل قمّة الإرهاب العالميّ، وبمقدار الوجع الذي عانيته وأنت ترى عسف الاحتلال في فلسطين الذّبيحة، فإنّ فرحتي وسعادتي كبيرة جدّا عندما أزور الأردنّ، وأستعيد كرامتي المهدورة في وطني المحتلّ.
25-010-2021