الرِّثاءُ العَاطفيُّ في قصيدة عدنان الفضلي (غزوان عاشق زرازير الناصرية)
أ.د مصطفى لطيف عارف | ناقد وقاص عراقي
النُّدبُ: هو النُّواحُ والبُكاءُ والعَويلُ على الميتِ بالعبارات المُشجية والألفاظ المُحزنة التي تُصدِّعُ القلوب القَاسية, وتُذيبُ العيونَ الجامدة([1]), لتكونَ المرثيَّةُ مليئةً بالتأوُّه والعويل, وتحملُ مشاعر الثكل أو التَّرمُّل, مفعَمة بالتَّوجع, وحرقة الأحشاء, أمَّا عن سبب تسميتهِ ﺑ “الرِّثاء العاطفي” فذلك يعودُ إلى كونهِ يختصُّ برثاء النَّفس أو الابن أو الأقارب ومن ينزلُ منزلتهم, فضلاً عن تميُّزه بعنصر الصِّدق الذي ينمُّ عن الحسرةِ الشديدةِ والالتياع والذُهُول إزاء هول الموت والجزع من خَطبهِ([2]). ويمكنُ أن نتناول هذا النَّوع من الرِّثاءِ من محورين:هما ندبُ الابن ندبُ النَّفس يُرزَءُ الشاعر عدنان الفضلي ُ بأحداثٍ مؤلمةٍ ومواقفَ مُفجعِةٍ, تمتلكُ وجدان الشاعر فيفيضُ حُزناً وألماً؛ إذ لا يستطيعُ تجاهُلَ مشاعرِهِ مهما بلغت درجة تجلُّدِهِ, ومن بين تلك الأحداث فَقْدُ ابنه “غزوان”, فقد كان لفقدِهِ أثرٌ عظيمٌ في نفسِهِ دَفَعَ بهِ إلى أن يبكيهِ بعاطفةٍ صادقةٍ مشوبةٍ بالحزنِ العميقِ على فداحة ما ألمَّ به, فكيف به وهو يرى ابنَهُ يذوي أمامَهُ , ويؤذِن لهُ بالَّرحيل النَّهائي, فيقول في نصِّهِ “عاشق زرازير الناصرية “:
أوعزت لنفسك أن تسافر
تجوب القرى الضائعة
بحثاً عن فسائل تعشقها
تغرسها قرب حانة جنونك
وترسم بعدها الغياب
إنَّ دلالةُ الحروف المُشدَّدة التي جاءت في سياق النَّص تكونُ مُرتبطةً بالزَّمن النَّفسي, وهي تحملُ مَجَالاً دلاليَّاً شاسِعَاً يتضمَّنُ الوظيفة الصَّوتية والصُّورية, الحسيَّة والرَّمزيَّة, ومن ثَمَّ فإنَّ التَّشديد يحملُ بين طيَّاتهِ دلالاتهِ النَّفسيَّة العميقة؛ لكون التَّشديد يُعبِّرُ عن إلحاح الشَّاعر وضغطِهِ على لفظةٍ معيَّنةٍ تكشفُ عن أغوارها الباطنيَّة([3]), وانعكاسها في نفسيَّة صاحبها, فالهمُّ قد تملَّكَ الشاعر عدنان الفضلي, ووجد إلى بابهِ طريقاً بقدر حُبِّهِ لابنه “غزوان” وتعلُّقه بوجدانه وأحاسيسه, إلا أنَّ مخالب القدر قد استطالت, ليطوِّح الرَّدى بابنهِ إلى عالمٍ آخر, ومن ثَمَّ فإنَّ هذهِ المصيبة من أشدِّ الرَّزايا التي عصفت به, وهدَّت أركانَ صبرهِ , فنراه يقول:
لكنك في هذه المرة
جعلت غيابك
معتّقاً ..
كبلح جنوب الله
ومسودّاً..
كريش زرازير الناصرية
وسرمدياً ..
كآية حزن لم تنزل بعد
وتحفظها كائنات الصمت
وهنا نلحظُ الطبيعة وعدم الكُلفة, والرِّقة في الشعور, والتَّدَاعي أمام الفراق, لتأتلف الألفاظ والعبارات مع معاني هذا الرِّثاء الوجداني الذي يمتزجُ بجوى أفئدةٍ اعتصرها الأسى, وأثخنتها سهامُ القدر, لتجعلَها تُرسِلُ الأنين, والشجو تلو الشجو([4]), والشاعرُ عدنان الفضلي يعمد إلى رثاء ولدِهُ بأشدِّ العبارات أسىً وحزناً , فللموت فعلٌ يجذبُ الألمَ والأنين, وقد بَدَت علاماتُهُ بالظُّهور على وجه ابنهِ مع أنَّه كانَ بعيداً عنهُ، إلَّا أنَّهُ باتَ على مقربةٍ من بصيرتهِ وبصرهِ, فهو يرى شُحُوبَ وجههِ وعدم استقرارهِ, فهذا الابنُ من شدَّة ما وقع به راحَ يلوذُ بعُنق والدِهِ علَّهُ ينجو من أهوال الموت وزفراتهِ ، إلَّا أنَّهُ أحسَّ بعدم جدوى ذلك ولا ناصرَ لهُ غير الاستسلام لقضاء اللهِ, ليختتمَ هذه الحياة كسيرَ القلب يُعالجُ لحظاتِهِ الأخيرة على مرأى من والدِهِ الذي حكمتهُ الظُّروف والأقدار لتلتقي بذلك روحهُ الذَّاوية مع دمعات الأب المكلوم الذي يقطرُ ألماً وحزناً على ذلك المشهد المؤلم, فنراه يقول :
فيا أيها الذي..
ذوت وريقاتك باكراً
وحلقت ..
في فضاءات ضياعك مني
أنّى تهبط ..
دع عطرك فوقك
علّ نسيم السماء
يسحبه إلى صدورنا
إذا كانَ الشَّاعرُ عدنان الفضلي قد نَدَبَ أهله وذويه, ورثاهم في شعرهِ, فأولى بهِ أن يندب نفسه حين تحين ساعة الموت ولا يجِدُ لهُ مَلجأً ولا عاصماً في تلك اللحظة المرتقبة, كما أنَّ أية حالة قهرٍ أو شعور بالضَّياع تُهَيِّئُ للمرء أن يستحضر هواجس الموت, وتَحملهُ على بُكاء ذاتهِ([5]), وأحياناً يدلفُ الشعراء إلى مُخاطبةِ أشباح وجودِهم فيندبونها, إذ تُعرف الأشباح بأنَّها حضور أرواح الموتى بشكلٍ مرئي للأحياء, وهذهِ الأشباحُ إنْ بدت تبدو شاحبةً غير واضحة المعَالم , وتظهرُ وتختفي من غير أن تترك أيَّ أثرٍ يدلُّ عليها, وسبب ظهورها يهدفُ إلى توصيلِ رسالة إنذارٍ للأحياءِ من مصدر غيبيٍّ أو من أفراد الأسرة أو الأصدقاء , وفي هذهِ الحالة يكونُ الشَّبحُ رُوحاً مُسالمةً خيرةً([6]), لا تخلو الذات من التَّفكير بالموت الذي يدقُّ أجراسَهُ أنَّى شاء, لتصور عالمها الثاني قُبيل الممات , فتلجأ إلى مُخاطبة شَبَحهَا الذي كأنَّه نصفُها الآخر, فالذاتُ أحسَّت بكبرها وهرم عظامها ودنو أجلها, فبادرت إلى مُخاطبة شَبَحهَا أو روحها بكلمات الرِّثاء الحزينة مع أنَّ هذهِ الرُّوح ما زالت تُقيمُ في جثمان الشَّاعر, فنلحظ استدراك الذَّات لحتفها قائلةً: بأنَّ حجم الفجيعة التي ستحلُّ بي جَرَّاء هذا الحدث المَهول أبلغُ من كُلِّ كلمات الرِّثاء والاستعطاف التي ستُقال في رثاء الشَّاعر بعد موتهِ, ثُمَّ بعد ذلك يُجلِي لنا موقفَهُ بعد الممات, ولو عُدنا قليلاً إلى عنوان النَّص “عاشق زرازير الناصرية” فهو يندرجُ ضمن عنوان “النَّص السير ذاتي”, الذي تحدث الشاعر عدنان الفضلي عن ولده غزوان رحمة الله عليه الذي رحل قبل سنوات ,أمَّا صيغةُ الخطاب التي التجأت إليها الذات فهي صيغةُ ضمير المُخاطب “أنت” بدلاً من ضمير المتكلم ” أنا “, وكلاهما لفظٌ موضوعٌ يُعيِّنُ مسمَّاهُ أيَّاً كان, فهذا الضميرُ من الرَّكائز المهمَّة في بناء النَّص السير ذاتي, ومن ثمَّ فهو علامةٌ لغويةٌ تستدعي مبدئيَّاً مفهوم الشَّخص بمعنييهِ النَّحوي والواقعي؛ لأنَّهُ يُحيلُ بمقتضى كونه ضميراً سير ذاتياً على خارج النَّص الشعري, بقدر إحالتهِ على الشَّخص النَّحوي في داخل النَّص([7]).
إنَّ أصداءَ تصوير الشاعر المبدع عدنان الفضلي لما سيؤولُ إليهِ أمرُهُ بعد وفاتهِ ولده غزوان كانت مُجسَّدةً تجسيداً دقيقاً, فقصائدُهُ سيُكتَبُ لها الخُلودُ في أذهان مُحبِّيه بحيث لا تُفارقُ مُخيَّلتهم, كما أنَّ صوت الأهل والأحباب يأبى مُفارقة الآذان التي كانت تستَمعُ لغُرَر قصائدِهِ إبَّانَ إعلان لحظة وفاته , وسيرتفعُ نعشُهُ فوق أنامل الأكفِّ تَبجيلاً واحتراماً لهُ ليختتم تفصيلات حياتهِ برحلةٍ إلى مكانٍ مُظلمٍ ليوارَى الثَّرى, كما ستُقامُ لهُ الفاتحةُ ممزوجةً بدموعِ مُحبيه, فهو شاعرٌ من شعراء مدينة الناصرية الأجِلَّاء الذين كانت لهم بصمة واضحة فيها ؛ ولأنَّهُ خَبِرَ جيِّداً أهلَ مدينتهِ فإنَّ نبوءاتِهِ جميعَها قد صدقت, ففي ذكرى أربعينيته اجتمع الشعراءُ في مدينة الناصرية وأنشدوا فيه القصائد التَّأبينيَّة([8]), التي عبرت عن المشاعر الجياشة والعواطف الحزينة لفراق غزوان عاشق الطبيعة ,والحرية كأبيه عدنان الفضلي .
المراجع:
([2]) ينظر : في رياض الشعر العربي : 192 .
([3]) ينظر : الزمن في الشعر العراقي المعاصر:229 .
([4]) ينظر : في رياض الشعر العربي : 195 .
([5]) ينظر : دلالات الرثاء في شعر الجواهري : 102 .
([6]) ينظر : الأنا في شعر محمود درويش : 100 – 101 .