الموازنة بين اللفظ والمعنى

الأستاذ الشيخ طاهر العلواني/ مصر

اعلمْ – أدامَ اللهُ احتماءك في كتابِه، وجعلَ عزَّك وانتماءك إلى طاعتِه، ويسَّرَ لك من الهدايةِ ما يرضاه، وجنّبكَ من الشقاقِ ما يُسخطه – أن ترتيب الكلام ووضعَه موضعَه لا يتأتّى إلا لمَن صحَّ طبعُه، واتَّقدَتْ قريحتُه، حتى ترى البيت من شعرِه كأنه كلمةٌ واحدة، والكلمةَ من نثرِه كأنها حرفٌ واحد، لما تجدُه في نفسك من تلاحمِ أجزاء الكلام، وتلاؤم لفظِه ومعناه، حتى تراها في سبق اللفظ إلى الآذان، ووقوعِ معناه في الأذهان كفرسَي رهان، فليس ممن يقع له أن يكسو عبيدَ المعاني أحرارَ الألفاظِ، أو تكون ألفاظُه كصخرة صمّاء صعبة المرتقى، والمعنى من ورائها كتنفُّسِ النسائم وقتَ السحَر، فإن ذلك ليس مما يمشي لفصيحٍ ولا أعجمَ.

ثم إن الذي يقع في الشعر والكلامِ من الزلل وسوء المنقلبِ في وضعِ الكلمِ في غير موضعها اللائق طرائقُ قدد:

فمن ذلك أن يأتي المتكلِّمُ بالمعنى ليس من شأنِه أن يقع، فلا يستقيم في عقلِ عاقل ولا يتشكّلُ في ذهنِ واعٍ أن يكون هذا المعنى؛ كقول عمر بن أحمر الباهلي:

لم تدر ما نسج اليرندج قبلها**ودراس أعوص دارس متخدد.

فاليرندج جلد أسود يصنع منه الخفاف؛ فليس مما يُنسَج؛ وكقول أبي النجم يصف ورود الإبل:

جاءت تسامي في الرعيل الأول**والظل عن أخفافها لم يفضل

فقوله: والظل عن أخفافها لم يفضل، معناه أنها وردت ساعةَ الهاجرة، والعرب إنما تمدح بورود الإبل وقتَ الغلس والماءُ باردٌ.

فهذان مثالان إن تدبّرتَهما أويت بهما إلى طبعٍ غير ذي طبع، ووقفت على مقصد الكلام ومنزعه في النوع الأول، وسيأتي له مزيد أمثلة إن شاء الله.

ثم من الكلام ما يُظهر لك غير ما يُرادُ منه، فتُسرعُ إلى تخطئته، وليس بخطأ؛ كقول زهيرٍ في الضفادع:

يخرُجن من شرَباتٍ ماؤها طحِلٌ**على الجذوع يخفن الغمّ والغرقا.

والضفادعُ لا تخاف الهمّ والغرق، إلا أنه أراد المبالغة في كثرة الماء، حتى جعل الضفادع تخاف الغرق فخرجنَ منه، فهذا مجراه مجرى قول الآخر:

كأن أباه آدمَ كان أوصى**إليه أن يعولَهم فعالا.

إلا أنك تعلم بالبديهة مبالغة هذا، وأما زهير فمقصده ليس بظاهر، ومثله قول أبي ذؤيب في الدرّ:

فجاءَ بها ما شِئتَ من لطَميّة**يدور الفراتُ حولَها ويموجُ

فالفراتُ عذبٌ، والدرُّ لا يكون إلا في المالحِ. إلا أنه يريد ماء الدرِّة نفسه، لا الماء الذي منه تخرج، وكيف يجهل ذلك وهو يماني ومنازلهم على البحر؟

فهذا النوع الأخير من مبالغات الشعراء التي لا سبيل إلى تخطئة الشاعر فيها، إلا أن منها ظاهرًا وخفيًّا، وسيأتي – إن شاء الله – تتميمٌ لهذا النوع بمزيد أمثلة، ثم يُتبَع ذاك بالكلام عن سائر هذه الأنواع من الشعر والنثر إن شاء الله.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى