عن مجزرة الطنطورة، قديما وحديثا
خالد جمعة | فلسطين
أحياناً، يحتاج الحدث إلى كتابة تأريخية وليس إلى كتابة شعرية
حدثت مذبحة الطنطورة ضمن سلسلة من المذابح المخططة في إطار “التطهير العرقي”، وقد جاء توقيتها بعد شهر ونصف تقريبا من مذبحة دير ياسين.
لكن اختلافا واضحا كان في طريقة تنفيذ المذبحة عن سابقاتها من المذابح، ففي الوقت الذي كانت فيه تشكيلات عصابية تقوم بالمذابح السابقة، فقد قام بمذبحة الطنطورة الجيش الإسرائيلي بعد أسبوع من إعلان قيام الدولة العبرية، واختيرت القرية لأن موقعها على ساحل المتوسط، ولسهولة مهاجمتها، تحت اتهام لا علاقة له بالحقيقة، وهي أن القرية عبارة عن مرفأ يصل منه السلاح للفلسطينيين.
في الثاني والعشرين من أيار 1948 بدأ الجيش الإسرائيلي بقصف القرية من البحر، قبل أن تداهمها الكتيبة 33 من لواء إسكندروني من جهة الشرق في الليلة ذاتها، وتواصل الهجوم حتى احتُلت القرية في اليوم التالي وبدأت المذبحة.
أطلقت النيران على رجال القرية في الشوارع وفي بيوتهم، وتم جمعهم في مجموعات احتوت كل مجموعة على ستة أو عشرة أفراد في مقابر جماعية، وتحت تهديد السلاح أُجبر الرجال على حفر خنادق أصبحت بعد دقائق مقابر لمن قاموا بالحفر، وأصبحت المقابر الجماعية الآن موقفاً للسيارات.
تم إحصاء أكثر من مئاتين وخمسين جثة، وتم طرد النساء والأطفال بعد تفتيشهم ومصادرة كل ما امتلكوه، وأسر الرجال والفتيان من سن 17 عاما حتى 60 عاما في معتقلات مجهزة مسبقا، وتمت تصفية العديد من الأسرى قبل أن يقوم الصليب الأحمر الدولي بتسجيل من تبقوا على قيد الحياة.
أقيمت مستعمرة نحشوليم على أنقاض القرية عام 1948، ومستعمرة موشاف دور على الجزء المتبقي عام 1949، أما من تبقى من الأسرى فبعد خروجهم تشتتوا بين سوريا والأردن والعراق حيث تشتت النساء والأطفال من قبل.
واتفق المؤرخون العرب أن الاحتلال قام بثمانين مذبحة أثناء النكبة، وأن هذه المذبحة هي أبشعها على الإطلاق.
ما أعاد المذبحة إلى الواجهة، هو ما كشفته صحيفة هآرتس مؤخرا، إذ قالت إن فيلما وثائقيا للمخرج “ألون شوارتز” بعنوان “الطنطورة” سيعرض الأسبوع القادم على الإنترنت، وسيتضمن شهادات الجنود الذين شاركوا في المجزرة.
وهذه هي المرة الأولى التي يتم فيها نقل شهادات عن جنود إسرائيليين وجدوا خلال المجزرة، والمرة الأولى التي يتم فيها الحديث عن موقع قبر جماعي وتحديده.
وكان الأمر قد أثير قبل عقدين حين كتب طالب دراسات عليا “إسرائيلي”، يدعى ثيودود كاتس، أطروحة ماجستير بعنوان “خروج العرب من القرى عند سفح جبل الكرمل الجنوبي عام 1948″، تضمنت شهادات حول الفظائع التي ارتكبها لواء الإسكندروني ضد أسرى الحرب العرب، وأدى ذلك إلى نشر مقال في صحيفة (معاريف) العبرية بعنوان “مجزرة الطنطورة”، وفي نهاية المطاف دفعت دعوى تشهير ضد كاتس من قبل قدامى المحاربين في اللواء لدفعه للتراجع عن روايته عن المذبحة.
دخلت النتائج التي توصل إليها كاتس إلى الأرشيف، وظلت موضوعا للنقاش بين المؤرخين حتى اعترف عدد من الجنود المقاتلين بأن مذبحة حدثت بالفعل في عام 1948 في الطنطورة.
أعداد القتلى حسب الشهادات تتراوح بين “حفنة قُتلوا”، و”عشرات العشرات”، وبحسب إحدى الشهادات التي أدلى بها أحد سكان زخرون يعقوب الذي ساعد في دفن الضحايا، فإن عدد القتلى تجاوز 200 شخص.
موشيه ديامانت، جندي سابق في جيش الاحتلال قال: “قُتل القرويون برصاص متوحش باستخدام مدفع رشاش، بعد نهاية المعركة”.
وأضاف حول دعوى التشهير: إن زملاءه تظاهروا بأن شيئًا لم يحدث، وأن كل شيء كان عاديًا عند غزو القرية، لقد أسكتوا الأمر، فقد يتسبب في فضيحة”.
واختتم: “لا أريد أن أتحدث عن ذلك، ما الذي تستطيع القيام به؟ لقد حدث”.
حاييم ليفين، الجندي السابق في جيش الاحتلال قال: أن أحد أفراد الوحدة قتل مجموعة من 15 أو 20 أسير حرب جميعًا في اللحظة نفسها، وإنه أصيب حينها بالذهول، وإنه تحدث إلى رفاقه في محاولة لمعرفة ما يجري، فقيل له: “ليست لديك فكرة عن العدد الذي قتلوه هؤلاء الرجال منّا”.
وتحدث ميكا فيكون، وهو جندي سابق آخر في اللواء التابع لجيش الاحتلال، عن ضابط كان بعد الواقعة ذي منصب كبير في وزارة دفاع الاحتلال، قائلا: “كان يقتل بمسدسه عربيًا تلو الآخر، لأن الأسرى رفضوا الكشف عن مكان إخفاء الأسلحة المتبقية في القرية”.
وقال جندي آخر: وضعوهم في برميل وأطلقوا عليهم النار، أتذكر منظر الدم في البرميل”.
وجاءت شهادة أميتزور كوهين الذي تحدث عن أشهره الأولى كجندي مقاتل في الحرب ضمن صفوف جيش الاحتلال، وقال فيها “كنت قاتلاً، قتلت حتى من كانت أيديهم مرفوعة إلى الأعلى، لم أعدّ، كان في الرشاش 250 طلقة”.
وقالت هآرتس: تضاف شهادات جنود لواء الإسكندروني إلى الشهادات المكتوبة التي أدلى بها سابقٍا يوسف بن اليعازر، منذ حوالي عقدين، والذي قال: “كنت أحد الجنود الذين شاركوا في احتلال الطنطورة، وكنت على علم بجريمة القتل في القرية، فقد بادر بعض الجنود بالقتل”.
وأضافت الصحيفة أنه تم حفر القبر واستمر الدفن لأكثر من أسبوع، وفي نهاية مايو/أيار 1948، بعد أسبوع من احتلال القرية، وأسبوعين من إعلان دولة الاحتلال، تم توبيخ أحد القادة الذين تم تعيينهم في الموقع لأنه لم يتعامل بشكل صحيح مع دفن جثث العرب.
وبالإضافة إلى الشهادات والوثائق، يعرض الفيلم ما توصل إليه الخبراء الذين قارنوا الصور الجوية للقرية قبل وبعد غزوها.
ومكّنت الصور، باستخدام التصوير ثلاثي الأبعاد، من تحديد الموقع الدقيق للقبر وتقدير أبعاده: “35 مترًا طولًا، وعرضًا 4 أمتار”، وقال كاتس في الفيلم: “لقد اهتموا بإخفائه بطريقة تجعل الأجيال القادمة تسير عليه دون أن تعرف على ماذا تخطو”.
وخلصت الصحيفة إلى نتيجة مفادها: “لن يتم التحقيق في الأحداث المروعة التي وقعت في الطنطورة بالكامل، ولن تُعرف الحقيقة الكاملة، مع ذلك، هناك شيء واحد يمكن تأكيده بقدر كبير من اليقين: تحت ساحة أحد أشهر المنتجعات الإسرائيلية على البحر الأبيض المتوسط، يوجد رفات ضحايا إحدى المذابح الصارخة” خلال النكبة.