قراءة في جديد من أدب الأطفال القصصيّ لرائد أدب الأطفال محمود شقير

محمد موسى العويسات | القدس – فلسطين

محمد موسى العويسات

وصلتني أول أمس من أستاذنا القاصّ الرّوائيّ رائد قصص الأطفال في فلسطين الأديب محمود شقير. فكانت ثلاث سلسلات: سلسلة حبّ الوطن، وفيها أربع قصص (طيور السّماء، كلّنا شجر، اسمها عهد، كوكب بعيد في الفضاء)، وسلسلة مغامرات مهدي وجمانة وفيها أربع قصص أيضا: (مهدي وأطفال الحيّ، خروف مهدي، ذيل الذّئب، فرس الحقول)، وسلسلة الخالة مريم وفيها كذلك أربع قصص (الخالة مريم تشتري التّفاح، الخالة مريم لم تغادر البيت، الخالة مريم والثّلج، الخالة مريم والشّمس).

وقد صدرت هذه المجموعات أو السّلسلات الثّلاث عن دار إلياحور للنّشر والتّوزيع، القدس ـ أبو ديس، بطبعتها الأولى للعام 2020، وكان التّصميم لدار إلياحور أيضا.

والأديب الرّوائيّ محمود شقير ابن مدينة القدس غنيّ عن التّعريف، إذ يعدّ من الأدباء العالميّين، إذ تُرجم أدبه إلى لغات عالميّة عدّة، وقامت عليه دراسات أدبيّة كثيرة، في مختلف جامعات العالم، العربيّة منها والأجنبيّة.

وصلتني المجموعات الثّلاث، فقرأتها ثلاث مرّات، وقفت عند كلّ تفاصيلها، وقفت عند اللّغة والمضمون، والشّكل والتّصميم. فكنت أمام أنموذجا لقصص الأطفال ليس عند الكاتب صاحب الرّيادة فيه وحسب، بل لقصص الأطفال في المستويين العربيّ والعالميّ أيضا، فقلت في نفسي أعتمد هذه السّلسلات الثّلاث في استقراء صورة ومواصفات أدب الأطفال النّاجح من جوانبه الثّلاث الفنّيّ، واللّغويّ، والتّربويّ.  دون الرّجوع لما قاله النّقاد أو التّربويّون فيه.

فمن الجانب الفنّيّ نجد أنّ القصص الاثنتي عشرة امتازت بالقصر والوجازة التي تناسب الجيل المقصود، بحيث لا تحتاج الواحدة منها إلا دقيقتين أو ثلاثا، لتقرأ بتأنّي على الطفل، وربّما لا تتجاوز ستّ دقائق إن كان القارئ هو الطّفل. وهو مدّة زمنيّة مناسبة لتركيز الطّفل واهتمامه وانتباه. ووجدت أحداث القصص بسيطة تناسب عمر الطّفل وبيئته الطّفوليّة، واهتماماته بشكلّ سلس وبسيط، فالخالة مريم هي شخصيّة المرأة كبيرة السّنّ، التي تتوثّق علاقتها بالأطفال، واختيار لقب (الخالة) لها كان موفّقا فكلّ الأطفال يحبّون خالاتهم، بل ينادون كبيرات السّنّ بـ (خالة)، وتسميتها بمريم كان مقصودا وذا دلالة طيّبة (دينيّة حضاريّة)، ففي القصّة الأولى لمّا أخذ مهدي وجمانة يقلّدان البائع الجوال، ويناديان لبيع الخضراوات، نجد الحاجّة مريم تشتري ما يبيعانه كلّما مرّا ببيتها، فقد تكرّر الأمر عشر مرّات، وفي القصّة الثّانية تمرض الخالة مريم فيعودانها ويغنّيان لها فتتعافى من وعكة الرّشح. وفي القصّة الثالثة تخرج الخالة مريم لتطمئنّ على أطفال الحيّ في يوم كثيف الثّلج فتشرع باللّعب معهم بكرات الثّلج، بعد أن اطمأنت على دفء لباسهم. القصّة الرّابعة تكون فيها الخالة مريم صديقة الشّمس تخرج بشروق الشّمس لتعليم أطفال الرّوضة اللّغة والحساب وبعض الأناشيد، وترجع إلى منزلها في المساء عندما تميل الشّمس للمغيب. كلّ هذه الأحداث البسيطة مستوحاة من بيئة الأطفال فهي من يومياتهم. ولكن لها دلالات عميقة نأتي عليها في الجانب التّربويّ.

في المجموعة الثّانية، وهذا (أي  ترتيب المجموعات) ترتيب عشوائيّ منّي،  وليس من الكاتب، فيها أربع قصص أيضا مستوحاة من بيئة الأطفال في علاقاتهم الأوسع، فالأولى في ذهاب الطّفلين مع أمّيهما للاعتصام مناصرة للأسرى، والهتاف بحرّيّة الأسرى، وتفريق جنود العدوّ لهم بخيولهم، وإصرار الأطفال على الهتاف ومواصلته في الحيّ، فهذه قضيّة يعرفها الصّغار ويعايشونها يوميّا، فإن لم يكونوا أبناء أسرى، كانوا من المتابعين لها من خلال الإعلام المتاح بشكل واسع أو من خلال أحاديث الكبار، أمّا الثانية فكانت من البيئة الحيوانيّة بمفرداتها الجميلة، الخروف والأرنب، والاثنان صديقان للطّفل في البيئة الرّيفيّة، ويأتيان أي الخروف والأرنب في سياق العلاقة مع الجدّ، الذي يتوهّم الخروف أرنبا، فيغضب مهدي لتزييف الحقيقة، فيعتذر الجدّ وتحمل القصّة دلالة كنائية جميلة. في القصّة الثّالثة كذلك نجد قصّة ذيل الذّئب، التي تحمل رمزيّة جميلة بإمكان الطّفل أن يفهمها إذا ما وضّحت له. وكذلك القصّة الرّابعة من هذه المجموعة التي تتعلّق بفرس الحقول، والتي تحلّق من فوقهم في السماء لتطمئنّ على أنّهم تجاوزوا الحاجز، وأنّهم نجوا من الأشرار.

في المجموعة الثّالثة حبّ الوطن نجد القصص تتعلّق بواقع معيش لدى الأطفال، ففي القصّة الأولى أطفال غزّة الشّهداء يأتون على هيئة طيور يزورون القدس، فيحملهم مهدي وجمانة السّلام لأطفال غزّة. القصّة الثّانية تعلّقت باعتداءات المستوطنين على الأشجار واقتلاعها، فيهبّ الناس لحماية أشجارهم ومعهم جمانة ومهدي، فيشعران بأنّهما شجرة والنّاس أشجار. وفي الثّالثة يريان طفلة تواجه العدو فيألفانها ويفتقدانها عندما تغيب عن شاشة التّلفاز. وفي قصّة كوكب بعيد من الفضاء، تعجّب مهدي من المسافة البعيدة بين الأرض وهذا الكوكب، وفي المنام يرى أنّ القدس قد رحلت إلى الفضاء طلبا للرّاحة والهدوء، وفي الصّباح أطلّ من الشّبّاك فوجد القدس مكانها، ويقصّ رؤياه على الخالة مريم وجمانة فتشعران بارتياح لأنّ القدس مكانها. وهكذا نرى كلّ القصص مستوحاة من بيئة الطّفل في دوائر مصنوعة بعناية، دائرة الحيّ والعلاقة بالخالة، ودائرة البيئة الحيوانيّة التي لم يتناولها الكاتب التّناول التقليديّ المألوف، فقد أعطى للخروف والذّئب والفرس أبعادا أخرى فالخروف لا يريد أن يتغيّر ويسمّى أرنبا، والذئب يتأدّب بعد قطع ذيله، والفرس تتجاوز الحقل والزّراعة لتكون حارسا للأطفال من الأشرار، ودائرة الهمّ الوطنيّ، الأسرى، مواجهة المستوطنين، الأطفال الشّهداء في غزة، القدس ثابتة باقية لم تبرح مكانها.

كانت الشّخصيات الرّئيسة في هذه القصص هي الطّفلان مهدي وجمانة، والخالة، أمّا الجدّ فكان في قصّة الخروف. ويغلب على ظنّي أنّ الكاتب استعار الاسمين جمانة ومهدي من أحفاده،  وهذه لفتة إنسانيّة أبويّة جميلة، إذ يقدّم الكاتب أحفاده نماذج لأطفال شعبه. ومن الفنيّة الجميلة أن يتصوّر الكاتب المخضرم كبير السّنّ الكيفيّة التي يكون عليها تفكير الطّفل ونفسيّته، وخياله، وهذه مهارة لا يتقنها كثير من الكتّاب والمبدعين. ومن الإبداع أيضا أن يجعل من مهدي راويا للقصّة (مهدي وأطفال الحيّ)، ثمّ يأتي الكاتب على الحوار، الذي لا تكاد تخلو منه قصّة من القصص، ولكن بتفاوت، ولا شكّ في أهمّيّة الحوار في قصص الأطفال وعظيم أثره النّفسيّ، وتبديده للسّأم الذي قد يجلبه السّرد. وحوار أطفال قصصه كان قصيرا موجزا. أمّا عن الخيال وهو الجزء المهمّ جدّا في قصص الأطفال، فتراوح بين المتخيّل الواقعيّ في القصّة، والخيال الطّفوليّ الذي يحلّق بالطّفل إلى عالم آخر لا واقع فيه، وقد جاء هذا محمّلا بدلالات رمزيّة، من مثل أن يحلم الخروف أنّ له أذني أرنب لمجرّد توهّم الجدّ أنّه أرنب، أو أن تطير الفرس في السّماء تحرس الأسرة من الأشرار، وغير ذلك. وهذا الخيال نفسه بسيط وغير معقّد وليس بمستحيل أن يتصوّره الطّفل.  

أمّا عن الجانب اللّغويّ في هذه المجموعات الثلاث، فنلحظ أنّ اللّغة جاءت فصيحة الألفاظ والتّركيب، وجاءت معظم الألفاظ مضبوطة بالحركات، وجاءت العبارات والجمل قصيرة متوالية، غيّبت في كثير من المواضع أدوات الرّبط، من مثل حرف الاستدراك (لكنّ) أو الإضراب (بل)، أو التّعليل (إذ) أو ظرف المكان (حيث) وغيرها. مثال: تخرج الخالة مريم من بيتها في الصباح. تخرج الشمس من وراء الأفق وتشرق على الحيّ. تحتفي بها الخالة… تقول الخالة مريم لأهل الحيّ…” وكذلك يلاحظ غياب الكناية بالضّمير في معظم العبارات.. وهذا كلّه من لغة الأطفال، ويناسب نموّهم اللّغويّ، فالأطفال لا يعرفون في مثل هذا السّنّ مهارة اللّغة التفسيريّة أو التّعليليّة أو البدليّة، أو غيرها من المهارات والأساليب اللّغويّة التي تلزم الكبار. ووقفت عند كلمة (طوّح) تلك الكلمة الفصيحة التي جاء بها الكاتب في قصّة ذيل الذّئب: (وطوّحته في الهواء مرّات عدّة) بمعنى رمته في الهواء، وهي فصيحة، يظنّ الكثيرون أنّها من المحكيّة العامّيّة. ففي لسان العرب: طوّح بالشّيء: ألقاه في الهواء.  فهذا إحياء للكلمة لتكون مستخدمة في لغة الأدب الحديث.  

وأمّا الجانب التّربويّ القيميّ، فهذه القصص بدا فيها واضحا المقصود اللّغويّ، أي تعليم الطّفل اللّغة وأساليب التّعبير عن الفكرة بشكل بسيط بجمل تامّة مفيدة، ولا تخلو القصّة من ألفاظ جديدة في القضايا أو المواضيع التي دارت عليها القصص. يضاف إلى ذلك أنّ السّمو بخيال الطّفل كان مقصودا، وهذه من التّنمية العقليّة المهمّة والدّفع باتّجاه الإبداع. وأمّا الحديث عن التّرفيه والتّسلية فهذا أمر بيّن مفروغ منه. وقد ترك الكاتب للطّفل أو من يقرأ للطّفل هامشا من التّكهّن والتّفكّر وأخذ العبرة، فالقصص تراعي مستويات الأطفال الإدراكيّة المختلفة، فقصّة أنّ القدس في حلم مهدي ذهبت إلى الفضاء تطلب الرّاحة، ثمّ وجدها في الصّباح في مكانها فسُرّ بذلك، لها دلالة قد يدركها الطّفل وإن لم يستطع التّعبير عنها أو لم يُطلب منه توضيحها، وكذلك في قصّة ذيل الذّئب، وفرس الحقول، وطيور السّماء. ولا ننسى القيم الكبيرة التي تحويها سلسة الخالة مريم، من توثيق العلاقة مع كبار السّنّ وتنمية العلاقة الاجتماعيّة في نفوس الأطفال. ومن أمثلة اللّحظات التّربويّة المهمّة التي تغرس في أبنائنا الثّقة بالنّفس عبارة: ” هرب المستوطنون ولم يتمكّنوا من قطع شجرة واحدة” في قصّة كلّنا شجر، في سلسلة حبّ الوطن. ص6. ولعلّ أبرز ملاحظة تربويّة في هذه القصص تجنّب الكاتب ذكر القتل والتّنكيل التي يقوم بها العدوّ في الاعتصامات والاحتجاجات ويقوم بها المستوطنون كذلك في اعتداءاتهم على القرى ومزارع الزّيتون، وهذا خروج عن المألوف في جلّ القصص الفلسطينيّة، بل في الأدب الفلسطينيّ بشكل عامّ، ولا مراء في أنّ فيه جانبا تربويّا جليلا يتمثّل في تجنيب الأطفال أجواء الخوف والتّنكيل والعنف وغيرها ممّا يكون أثره سلبيّا عليهم.   

وأمّا شكل هذه الكتيّبات وأقصد التّصميم فقد جاء على أجمل صورة، فقد كانت الصّور معبّرة عن أحداث القصّة، فكانت عامل جذب للقراءة، ولا يخفى ما لها من آثار نفسيّة وتربويّة وتعليميّة. ووقفت عند صورة شكّل فيها العلم الفلسطينيّ ليشكل خارطة للضّفّة الغربيّة مع غزّة في سلسلة (حبّ الوطن)، وتمنّيت لو كانت الخارطة لفلسطين كاملة. وربّما يردّ أمرها للتّصميم.

وختاما أرى أنّنا بحاجة كبيرة لمثل قِصص الأطفال هذه، وبخاصّة في هذه الأيام أيام الوباء والبعد عن التّعليم الوجاهيّ، فأضحت مسؤوليّة الأهل في تنمية لغة أطفالهم كبيرة جدّا، وهناك كثيرون يسألون المادّة المناسبة لأطفالهم ويطلبون النّصيحة والتّوجيه. ومن قبل ومن بعد نحن بحاجة مسيسة لتنمية موهبة القراءة والمطالعة بل لجعلها عادة لدى جيل قادم. ولا يسعني إلا تهنئة أديبنا بهذا الإنجاز وشكره على هذا العمل الجليل.  

القدس ـ فلسطين

2021/1/2

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى