الزمكانية في (زليخات يوسف) للقاص علي السباعي

أ.د مصطفى لطيف عارف | ناقد وقاص عراقي

 يلجأ الكثير من الكتّاب إلى وصف الزمان وصفا مسهبا في سبيل إعطاء القارئ نكهة الواقع الذي يحاولون خلقه,وتصويره,والقاص الناجح لا يقتنع بإعطاء قرائه وصفا موضوعيا مجردا للحقبة التاريخية للحدث,بل يحاول أن يجعلهم يعايشون شخوصه معايشة وجدانية, وفكرية عن طريق زج انفعالاتهم,واستجاباتهم الجمالية في انفعالات,ومواقف شخوصه الوهمية[1] ويعد الزمن عاملا فعالا في الحياة,لأنه عنصر يحمل قدرة على التغير يجعل البيئة بكل تفاصيلها لا تستمر في حالة ثبات ,بل يحركها باستمرار,بوصفه متحركا,فللحظة الواحدة متحركة إلى اللحظة التالية,وكل حركة تحمل معها تغيرا,وبما أن الزمان فعال في الحياة فهو عنصر فعال في القصة أيضا,[2] وبسبب هذه الفاعلية لابد للكاتب أن يحدد زمن الإحداث التي تجري في القصة, كما ينبغي عليه إن يحرص على وضوح المراحل الزمنية بين كل حدث وآخر, لأن كل حدث في القصة لا يكون له زمنه الخاص فقط, بل يكون له زمن علاقاته بالأحداث الأخرى[3],لقد كان الزمن ولا يزال يثير الكثير من الاهتمام,وفي مجالات معرفية متعددة ابتدأ التفكير فيه من زاوية فلسفية,فكانت منظورات الفلاسفة تنطلق من اليومي لتطال الكوني[4],فمقولة الزمن متعددة المجالات,ويعطيها كل مجال دلالة خاصة ,ويتناول بأدواته التي يصوغها في حلقه الفكري,والنظري,وقد يستعير مجال معرفي ما بعض فرضيات أو نتائج مجال آخر,فيوظفها مانحا إياها خصوصية تساير نظامه الفكري,[5]فأرسطو يعرف الزمن بمقدار الحركة فيما يتعلق بـ القبل,والبعد, [6]فهو يعرفه على أكثره اتساما بطابع الفيزياء, ويربط بينه وبين الحركة الفيزيائية, فلم يعد الزمان يعرف ميتافيزيقيا, على انه صورة للأبدية,أو حركة النفس,بل أصبح يعرف- كما يمكننا القول- فيزيائيا,أي كنظام عددي يبين اتجاه الحركة, يبين ما يتقدم, وما يتأخر,[7]ونجد في معظم قصص علي السباعي تحتوي على رؤى فلسفية ,وليست هي الفلسفة المحضة التي ورد ذكرها في كتب الفلسفة,بل هي رؤى إنسانية تستشرف المستقبل, وتحاول تنوير الواقع, وتغيره إلى واقع أفضل,وكذلك الرؤية الفلسفية نحو الماضي من خلال رموزه التاريخية, والأسطورية, والحكايات الشعبية,وعند استنطاق نصوصه القصصية نجدها تتحدث عن الزمن الذي تجري فيه إحداث القصة, ويمكن إن يكون في الماضي, أو الحاضر, أو يكون في المستقبل كما في قصص الخيال العلمي,ويمكن إن تكون ارتدادات في الزمن كما في قصص تيار الوعي فيتداخل الزمن الحاضر بالماضي,أو المستقبل بحسب إحداث القصة  ولنأخذ قصة مومياء بهلول نموذجا للزمان لوجدناها تتحدث عن توليد النص القصصي بطريقة المونولوج الداخلي تارة,وعلاقة السارد القاص مع الآخرين تارة أخرى,إما شخصية بهلول في قصة مومياء بهلول انفتحت بإشكالية مع العديد من الشواهد المرسومة,فأعطى دلالة صوفية تكرست داخل إطار الزمن المرسوم[8],إذا كان عدد أيام شهري رمضان, وشعبان ثلاثين يوما, تصحبها رياح شرقية, ستظهر عربة يجرها حماران رماديان كل منهما بإذنين مقطوعتين تقودهما امرأة من تبعها يجد الخلاص هذا ما قاله البهلول نبوءة تغرغرت في حلق ذئب حصار الذئاب في اتساعه,رياح شرقية وأدت مدينة,ليلا صوت ذئاب تعوي,عواؤها حاصرنا,أمس ,أول أمس ,قبل عام,منذ سبع سنوات,والبهلول ممسك بندقية محشوة,[9]فما قاله البهلول يمثل شفرة مختزلة لخطاب سيولوجي ,وسياسي عشناه في سنوات الحروب,فكل فقرات التحول داخل جسد القصة إشارات إلى ذلك على الرغم من التموج الواضح بين التناصات الملحة بـ المقدس من جهة,والمورثات الأخرى من جهة ثابة,كما حدث لحوارية الأرض وبهلول,[10] صرخ البهلول, بعدما اتكأ على ارث إسلافه,بندقيته,فوجئوا بكم هائل من أنياب الذئاب,سألوا : أنى لك أنياب الذئاب؟[11] فالتناص في هذا المقطع كان واضحا مع النص القرآني المقدس في سورة يوسف,فجاء بهلول وهو مشحون بإشارات رمزية لكشف حقائق واقعية عن شخصية ملموسة, وإذا كانت القصة في المقام الأول,فنا زمنيا يضاهي الموسيقى في بعض تكويناته,[12]ويخضع لمقاييس مثل الإيقاع,[13]ودرجة السرعة فإنها من جانب آخر تشبه الفنون التشكيلية من رسم,ونحت في تشكيلها للمكان,إذ  إن المكان في إبعاده يحتوي الزمن مكثفا,[14]والمكان يمثل الخلفية التي تقع فيها إحداث القصة,في حين يتمثل الزمان في هذه الإحداث نفسها,وتطورها,لذلك فان طريقة إدراك الزمان تختلف عنها في المكان,فالزمان يرتبط بالإدراك النفسي,إما المكان فيرتبط بالإدراك الحسي,[15]وللمكان أهمية كبيرة في القصة إذ انه هو الميدان الحاضن للحدث,والشخصيات المشاركة فيه,لذا فانه ينظم العناصر المكونة للقصة,[16]ويرتبط المكان بالزمان بحيث لا يمكن فصلهما في القص,[17]لأنهما لا يوجدان منفصلين في الواقع, إلا إن كلا من الزمان والمكان يأخذان بعدا جديدا في النص مع ارتباطهما بالواقع,[18]ولقد أدرك الإنسان منذ القدم الدور المتميز للمكان,وعلاقته بوجوده, ولعبت فكرة المكان دورا أساسيا في الفكر الإنساني قديما, وحديثا, وتطورت هذه الفكرة مع تطور الفكر البشري في تعامله مع العالم الخارجي المحيط به,[19]وما تركته لنا المعجمات اللغوية في تناول لفظة المكان, ومرادفاتها الكثيرة, فالمكان عند اللغويين يعني الموضع, وجمعه أمكنة, وأماكن,[20]وقد صرح أفلاطون بأول استعمال للمكان إذ عده حاويا ,وقابلا للشيء,[21]والمكان عند علي السباعي الذي تجري عليه إحداث القصة,يمكن إن يكون مكانا صغيرا مثل غرفة ,أو مكانا اكبر منها فقد تجري إحداث القصة في سوق,أو دائرة حكومية,أو في مكان واسع في مدينة,أو مدينتين أو اكثر0 وفي القصة الأخيرة من مجموعة علي السباعي زليخات يوسف,فقد هيمن فيها جو المكان المفعم بالصمت,والظلمة,والمشاهد المرصوفة بـ جماجم أرصفة البطالة,ودمى بأياد مدماة,وذبح الغرباء,لتغيب الشخصية المهيمنة,ويترتب عن ذلك تصورا لشخصية حكائية خلف المتن السردي,تعتمد محور القارئ ,لتتعدد القراءة,وتختلف في التحليل,ولعل هذه الشخصيات الناطقة باسم المؤلف- كما صنفها هامون- فهي تميل إلى معنى ثابت تفرضه ثقافة من يشارك في تشكيلها.[22] ويطلق اسم القصة عادة في اللغة العربية على النمط الأدبي الروائي لكنه يستعمل كذلك للتعبير عن تسلسل الإحداث في مختلف الأنماط الأدبية أو حتى الفنية بصفة عامة,  إن القاص وهو يقدم على فعل الكتابة- إنما يعبر عن موقفه من العالم,وينطلق من رؤى يسعى من خلالها إلى محاورة ذلك العالم, معبرا بذلك عن حلمه في إنشاء عالم مغاير يجسد رؤيته ورؤياه,ويتجسد- قبل كل شيء- في كلماته,وعندما تتعدد أنماط كتاباته,ونصوصه وتتنوع فان تلك الرؤى ووجهات النظر تتوزعها تلك النصوص ,والكتابات بوصفها عالما متكاملا من الأفكار,والأحلام, ولأنها كذلك, فان الباحث عن تلك الأفكار,والرؤى,والساعي إلى معرفة ذلك العالم لابد له من إن يقوم بعملية مداخلة بين تلك النصوص القصصية,لتكون-في النتيجة- فضاءات/مواطن التقاطع هي التي تشكل العالم القصصي للقاص علي السباعي ,الفضاءات التي تتقاطع من خلالها نصوص الكاتب لاتقتصر فقط على الموضوعات والأفكار,والرؤى التي تعبر عن هاجسه,وموقفه من العالم-وان كانت أبرزها- بل تتعداها إلى اللغة ,والشخصيات,وإنشاء الصورة,وبناء النص أيضا.

المراجع:

[1] ينظر النقد التطبيقي التحليلي:د0 عدنان خالد عبد الله:83 0

[2] ينظر غائب طعمة فرمان روائيا:د0 فاطمة عيسى جاسم:127 0

[3] البيئة في القصة:وليد أبو بكر,مج الأقلام,ع 7, 1989 0

[4] الفضاء الروائي عند جبرا إبراهيم جبرا:د0 إبراهيم جنداري:43 0

[5] تحليل الخطاب الروائي:سعيد يقطين:61 0

[6] التجريب في القصة العراقية القصيرة:حسين عيال عبد علي:199 0

[7] الزمن في الفكر الديني والفلسفي القديم:د0 حسان الدين الآلوسي:256 0

[8] جريدة الصباح,ع 1112 ,في 14 /5/2007 :11 0

[9] زليخات يوسف:علي السباعي:39 0

[10] جريدة الصباح:11 0

[11] زليخات يوسف:45 0

[12] التجريب في القصة العراقية القصيرة:230 0

[13] ينظر في الإيقاع الروائي:د0 احمد ألزغبي:8 0

[14] جماليات المكان:جاستون باشلار:46 0

[15] بناء الرواية:76 0

[16] ينظر عالم الرواية:97 0

[17] دراسة في البناء الفني في خماسية مدن الملح:د0 حسين حمزة:105 0

[18] الزمن في الأدب :هانز ميرهوف:11 0

[19] الفضاء الروائي عند جبرا إبراهيم جبرا:167 0

[20] لسان العرب لابن منظور:مادة مكن,وينظر تاج العروس للزبيدي,مج9 0

[21] مدخل جديد إلى الفلسفة:عبد الرحمن بدوي:196 0

[22] جريدة الصباح,ع 1112 :11 0

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى